المهدي عثمان (كاتب تونسي )
أدونيس مرة أخرى
قصيدة النثر أو الشعر كتيار كهربائي
يعرّف أدونيس قصيدة النثر باعتبارها " كلمات عادية مشحونة بطاقة غامضة ـ شكل يجري فيه الشعر كتيار كهربائي عبر جمل وتراكيب لا وزن لها ظاهريا، ولا عروض ـ عالم متشابك كثيف مجهول غير واضح المعالم " (1)
إنّ مثل هذه التعبيرات المراد بها تعريفا أو شرحا أو تفسيرا أو حتى إبداعا ( شعرا أو نثرا ) ... هذه التعبيرات، هي التي ساهمت في جعل قصيدة النثر غامضة ومعتّمة وأقرب للإبهام منها إلى الوضوح .
فأنْ يقول أدونيس أنّ قصيدة النثر " مشحونة بطاقات غامضة ـ شكل يجري فيه الشعر كتيار كهربائي " إنما هي محاولة من أدونيس للهروب من التفسيرات الواضحة لمثل هذا الجنس الكتابي المستعصي .
فاللغة هنا تحدّثنا عن غموض في قصيدة النثر بلغة غامضة، وكأنّ ما ينطبق على تلك الجملة، هو ما ينطبق على قصيدة النثر .
كيف يمكن إذن، مقاربة مفهوم قصيدة النثر عند أدونيس وهذه الأخيرة غارقة في
" عالم متشابك كثيف مجهول (و) غير واضح المعالم " ؟
إذن، كيف نفهم مثل هذا القول ؟
هل قياسا على مقولة بول فاليري " لقصائدي المعنى الذي يُسْند إليها "؟ فنقول
" لمقولاتي المعنى الذي يسْند إليها "؟
وإنْ كان ذلك صحيحا لما يتعلّق بالشعر، باعتباره يسْتدعي ذلك الاختلاف والتنوّع في القراءات، دفاعا عن " أبدية " الشعر وتجدده " فكل قراءة تقويض لقراءة ... ولا يحمل هذا التقويض معنى الإلغاء والإفناء " (2)
بالمثل لا يحمل الوقوف عند فكرة واحدة ومعنى واحدا اعترافا أنه ما اصطلح على تسميته " بجمالية التلقي "، لما نتحدث عن العلاقة بين النص والقارئ . وهذا مفهوم ترجمه سعيد خرو عن كلمة Rezeptionsasthetik
إذا كان الأمر كذلك… لما يتعلق بالشعر، فإنّ تأويل "النثر " يستدعي الوقوف والتمهل.
فهل مقولة أدونيس في تعريفه لقصيدة النثر، أريد بها توضيحا للمفهوم أم إيغالا في التعتيم ؟
وهل يمكن أنْ نجزم أنّ قولا غير مفهوم ومعتّم وزئبقيّ، هو قول لا يقول شيئا ؟
أم " أنّ ذلك العالم المتشابك الكثيف المجهول " يمكن أنْ يفكَّك و يٌبْسَطَ ويصير واضحا ؟
أم أنّ مثل هذا التحوّل الجوهري لعالم قصيدة النثر من شأنه أنْ يُفقدها جوهرها ومعناها الحقيقي أو طبيعتها التي هي ذلك " التشابك " و " الكثافة " و " الغموض " ؟
فهل هذا ـ إذن ـ ما قصده أدونيس أنّ " على قصيدة النثر ألاّ تتعارض مع صفات المجانية والغموض والكثافة " ؟ (3) وهي نفس الفكرة المأخوذة عن سوزان برنار بل حتّى شعراء من أمثال بودلير و رامبو و مالارميه " أكّدوا مفهوم الغموض في الشعر وكتابة قصيدة النثر " (4) وهذا ما يدعّم فكرة أنّ الإبهام / التعتيم من شأنه أنْ يبتعد بالقصيدة عن الشعور والعواطف، نحو الفكر والفلسفة .
فإذا وضعنا على طاولة التشريح، نصوص نزار قباني ـ مثلا ـ يصعب أنْ نتعثّر على عتبات قصيدة واحدة معتمة وعقلية أو ذهنية أو " موضوعية " ، بحيث تدفع القارئ للبحث أو لاسْتخدام المعاجم الفقهية والفلسفية والسياسية . وإن كنا باسْتدعائنا لنزار قباني، لا نخلط بين قصيدة النثر والقصيدة الحرة التي يكتبها هذا الشاعر... إلا أنه لما يتعلق بالغموض، يبدو جليا اقتراب قصيدة النثر من هذه الجهة المعتمة نحو الإبهام.
فأدونيس يؤكد في نصوصه " ذلك التلازم الدائم (..) بين الشعر والفكر. حتى إنّ أشعاره ليست إجمالا في منأى عن إعمال الفكر " (5)
فالجمل الشعرية تكاد تكون مقتطعة من كتب فلسفية، بحيث من الطبيعي أنْ يكون " تلقي هذا الشعر أكثر صعوبة من تلقي غيره " (6) بسبب ما يلتصق به من غموض وضبابية وربما الوصول إلى التعتيم أو الإبهام المطلق.
وإن بدا أدونيس غير مقتنع بفكرة الوصول بالشعر إلى مرحلة " الإبهام المطلق " إلا أنه يعترف بضرورة أنْ لا يناقض النصّ " العامل الحضاري " (7) بل يتماهى معه تجسيدا " للبعد والحدس والعمق في الشعر " (8) . لذلك يقول أدونيس في
" زمن الشعر " بضرورة ربطه ( الشعر ) لا بالعاطفة والمشاعر فقط، بل الشعر مع ذلك " هو ما يمكن أنْ نسميه الفلسفة. فهؤلاء الشعراء ( يقصد غوته و دانتي وشكسبير ) عبروا خلال عواطفهم وانفعالاتهم عن العالم . كان لهم معنى آخر . رأى في العالم وموقف منه ... كانت لهم فلسفة " (9)
نفهم باطلاعنا على أدبيات دانتي وغوته وشكسبير، مدى ما وصل إليه أولئك الشعراء في تعاملهم مع الواقع ودفعهم نحو تغيير السائد، وأخذ موقف من الرداءة ... غير أننا لا نذهب مع أدونيس في اعتبار قصيدة النثر العربية أخذت تلك الوجهة، باسْتثناء بعض التجارب .
فالحداثة غيّرت في الغرب ما لم تغيّره و ما بعد الحداثة والعولمة مجتمعة في العرب .مع ذلك " فالموقف " يكاد يكون غائبا عند شعراء قصيدة النثر . وهو ما جعل " حزب المحافظين " يعتبرها بداية أو بالأحرى نتيجة للأزمات المختلفة التي يعيشها الراهن العربي . من ذلك أنّ عبد المعطي حجازي اعتبرها نتيجة للعولمة أو الأمركة ( وهو خلط ينم عن جهل ) وهزيمة 1967 " مما أدى إلى انحطاط اللغة وتوقف الإبداع واسْتفحال التيارات المعادية للعلم والحرية " (10)
وإنْ كنت تعرضت لمواقف حجازي المتطرفة من قصيدة النثر، إلا أنّ موقفه ذاك هو صدى لمواقف أخرى متعددة ** .
فقصيدة النثر عند نسبة كبيرة من شعرائنا لا تتبنّى " موقفا " من السائد والراهن، بل عوّلت على الذاتيّ والتمحور حول الذات Egocentrisme
بل تذهب قصيدة النثر إلى أبعد من ذلك بطموحها " إلى الانفصال عن الواقع (..) والنأي عن تمثيله " (11)
ولما نسْتدعي هذا الواقع، إنما نسْتدعي ما أثير حول هذا النصّ من شبهات . وخاصة بإصدار مجلة " شعر " التي تزامن إصدارها لأول مرّة مع العدوان الثلاثي على مصر، ثمّ توقفت وعادت للصدور قبل انطلاق حرب 1967 بأشهر .
مع أنّ أغلب المؤسسين يحملون توجهات قومية، بل هم أعضاء في أحزابها، مثل يوسف الخال وخليل حاوي . بل احتضنت مجلة شعر إبداعات ليبرالية وحتى شيوعية .
نذكر نازك الملائكة و السياب و فدوى طوقان وسعدي يوسف والبياتي وعبد الصبور وسلمى الخضراء الجيوسي ..
إننا هنا ـ ونحن نسْتحضر قصيدة النثر ـ كأننا أمام مدارس تشْكيلية، كالتكعيبية و الدادائية ... مدارس عند انفصالها عن الفن الكلاسيكي، أو بالأحرى عند اكتمال مشْروعها فصلتْ بالمثل مع الواقع .وصار من المسْتحيل أنْ نعثر على موضوع تمثله اللوحة التكعيبية .
صحيح أنّ اللوحة لا تخلو من موضوع، لكن أيّ موضوع ؟
إننا نقف أمام مادة زئبقية يصعب الإمساك بها، وصارت هذه الزئبقية هي مطلب الفنّ .
إننا بحق أمام " الاعتباطية ". بمعنى أنْ تقول كلّ شيء عدا أنْ تقول ما يتعلق بالراهن والسائد و الواقعيّ . وإنْ كان ذلك صحيحا، لما يتعلق بالنهضة الأوروبية وما وصلت إليه تلك الحضارة، من حالة رفاه وسَمتْ حالة المجتمعات، وقطعت تلك الشعوب مع الفقر والأوبئة والتخلف... إنْ كان ذلك ممكنا فإنه لما يتعلق الأمر بالعالم العربي، تبدو محاولة إيديولوجية سافرة ومشْبوهة، الغرض منها التعتيم على الواقع وتجميل القبح . فهل " على القصيدة أنْ تقطع جميع الحبال التي تربطها بما يبررها " كما نادى بذلك كوكتو ؟
يبدو أنّ هذا ما ينفيه أدونيس .
ولكن هذا الموقف ( عدم القطع مع الواقع ) تبناه العشرات بل المئات من كتاب قصيدة النثر، وحتى أدونيس نفسه يحب أنْ يعترف أنّ رفضه للقطع مع الواقع، لا يعني التعبير عنه بمفاهيم ومواقف وجمل مبهمة لا يفهمها إلا هو .
أي أنه مطالب بالإجابة عن سؤال :
لم لا تقول ما يفهم ؟
وكيف نفهم قوله مثلا :
توسّدوا سندسَ الله،
أو اسْتسْلموا لدولاب الآلة ،
سوف يقْتفي، وهو الجامح، طبقات التكوين السّفلىمُزوّدا بماءٍ يحمل الغواية
في كينونة ـ نصْفها رصاص ونصفٌ أسْطورة
في فيض أشْلاء
حيث تشْطح العناصر وتتهتّك المادة (12)
إنّ تأويلا قسريا، معناه تنزيل مفهوم " الإرهاب " من معجمه السياسي إلى المعجم الشعري ، أي أنّ هؤلاء بإمكانهم ـ تبعا لذلك التعسف ـ أنْ يمارسوا إرهابا ما على المعنى .
نحن لسنا ضدّ التأويل والشرح والتفسير، لكن ضد إدخال الأرجل في الأحذية الضيقة. فالشعر " نشاط بشريّ يتجاذبه قطبان: العادة والإبهام. وقدره يتمثل في الإفلات من كليهما، حتى يهادن العادة ولا يرتاد الإبهام " (13)
فكيف يسْتريح الشعر في ظلّ هذا التجاذب بين العادة والإبهام ؟
فمحمد لطفي اليوسفي ( والقول له ) موقن أنّ الوقوف على العادة رداءة وتكرار، والذهاب إلى الإبهام طلاسم وتعتيم واختناق. وهذا موقف سانده فيه الكثير من النقاد .
وقد علمْنا أنّ المتلقي إذا عجز عن فكّ أزرار المعنى، معناه بتر حبال التواصل بينه والشاعر/ الباث .
لذلك يذهب اليوسفي إلى أنّ " الغموض " هو سرير الشعر ومخدعه... هو المكان حيث يسْتريح .
وبعودتنا لأدونيس نصطدم بسؤاله :
لم لا تفهمون ما أقول ؟
ردا على سؤال : لم لا تقول ما يُفهم ؟
لندخل تبعا لذلك في جدل التوادد والسجال بين الباث والمتقبل . أيهما مطالب بالتواطؤ مع الآخر .هل ينزل الشاعر لأرض الداصة والدهماء كما يقول الجاحظ ؟ أم ترتفع العامة إلى النخبة لتقطع مع الاسْتسلام " للمرئي السهل ضدّ المقروء الذي يتدنّى يوما بعد يوم " (14) كما ذهب إلى ذلك إلياس لحود ؟
إنّ أدونيس مع ذلك واحد من أهمّ المنظرين لقصيدة النثر العربية، ورغم هذا الامتياز أو السبق، لا زال غير قادر تماما على تحديد ملامح ذلك الجنس من الكتابة . بمعنى لم يسْتطع إعطاءها لباسها المفاهيمي . حتى أنه ـ وهو يردّ على أسئلة بعض القراء لجريدة الحياة اللندنية سنة 2001 ـ اعتبر مصطلح قصيدة النثر " مفكك ومتشعب ومتناثر، حتى أنه يكاد يفقد دلالته الأساسية. حيث تحوّل في الكتابة العربية إلى طينة يمكن أنْ نسميها الكتابة الشعرية . نثر " (15)
وهذا المفهوم تداولته الأقلام النقدية، واعتمده بعض النقاد والشعراء . بل هو
( الكتابة الشعرية .نثر) من الأسماء التي جمعها عز الدين المناصرة في كتابه
" اشكاليات قصيدة النثر " إضافة لـ 23 اسما .
إنّ ما طرحه أدونيس في الإجابة عن بعض الأسئلة التي طرحها عليه القراء في جريدة الحياة اللندنية، أضاء عديد الزوايا المعتّمة الحافة بقصيدة النثر، لعلنا نلخصها في النقاط التالية والتي كان أدونيس يخشى حدوثها :
1 ـ شيوع الكلام على أنّ قصيدة النثر بدأت تحلّ محلّ الشعر أو محل قصيدة الوزن وهذا كلام يتبناه المحافظون الذين يتهمون كتاب قصيدة النثر بتبني القول الذي معناه إقصاء قصيدة النثر لأصناف القول الأخرى والحلول محلها.
وهذا ما ذهب إليه أحمد عبد المعطي حجازي في كتابه الأخير بالقول أنّ قصيدة النثر يقدمها الشعراء " كنوع مسْتقل (..) بل يعتبرونها بديلا عن القصيدة الموزونة " (16) وهذا قول مرده التسرع وعدم الفهم . لأن جميع رواد قصيدة النثر يتفقون على أنها ليست بديلا لأيّ جنس آخر من الكتابة . من ذلك ما ذهب إليه أنسي الحاج في مقدمة ديوانه " لن" :
" كلّ مرادنا إعطاء قصيدة النثر ما تسْتحق : صفة النوع المسْتقلّ . فكما أنّ هناك رواية وحكاية وقصيدة وزن تقليديّ وقصيدة وزن حرّ، هناك قصيدة نثر " (17)
2ـ أما النقطة الثانية، فهو شيوع الكلام على أنّ قصيدة النثر اسم يتسع لجميع
" المسميات" أو أشكال الكتابة الشعرية.نثرا .
وهذا موقف ـ وإن كان يخشاه أدونيس ـ إلا أنه شاع وانتشر حتّى بين كتاب قصيدة النثر أنفسهم . حتى بتنا نسمع " حلول " القصة والرواية والخاطرة في قصيدة النثر .
وبتنا نقرأ تجارب تجمع كلّ هذه الأجناس على صفحة واحدة وتسميها قصيدة نثر بتعلة أنّ قصيدة النثر يمكنها أن تتسع لها جميعا . وهي تجارب نعتقد أنها جاهلة بالمفاهيم وغير مدركة لطبيعة قصيدة النثر .لذلك كثيرا ما نقرأ خلطا بين " قصيدة النثر" و " الشعر المنثور " و " في غير العمودي والحر " ... وهذا الخلط هوّ الذي جعل عديد النقاد يحفرون في التراب الشعريّ بحثا عن " قصيدة نثر " تراثية أي سبقت في التوقيت مجلة شعر .
من ذلك ما ذهب إليه الشاعر التونسي سوف عبيد حين اعتبر ألشابي ومصطفى خريف وأبو القاسم محمد كرو من كتاب قصيدة النثر .
وإن حدد سوف عبيد نصوص مصطفى خريف مع انطلاق ديوانه " شوق وذوق " سنة 1965 ، وهو تاريخ يجعل من إمكانية كتابة قصيدة النثر بشروطها التي حددتها سوزان برنار و أدونيس بعدها ... إمكانية متاحة .
إن ذلك ممكنا مع خريف، فإنه لا يمكن تبني نفس الموقف لما يتعلق الأمر بالشابي ومحمد كرو . فالأول توفي سنة 1934، ولم يشهد حضور قصيدة النثر بمعناها الحالي كما هي الآن .وأما النصوص التي أبرزها سوف عبيد باعتبارها قصائد نثر، فإنها نصوص ضعيفة وتافهة لا يمكن أنْ تتجاوز حدّ الاختلاجات أو الخواطر. ثمّ أنّ احترامنا للشابي لا يجعل منه نبيا لكلّ العصور .
وأنّ اعتباره كاتب قصيدة نثر، هي محاولة مردودة على أصحابها، لأنه لا تتوفر عند ألشابي " قصدية " ما ليكتب ذلك الجنس من الكتابة .وهذا ينطبق على الثاني .
3 ـ اعتماد كتاب قصيدة النثر ( الكتابة الشعرية.نثرا) على القول أنّ ما يكتبونه مرحلة متطوّرة للشعر العربي .ويصروّن على اسْتخدام كلمة " قصيدة " .
" فالقصيدة" هي القصيدة منذ حددها القرطاجنّي بشروطها العروضية والإيقاعية المضبوطة والمحددة .
وهذا المفهوم وشبيهه لا يمكن أنْ نلصقه بقصيدة النثر أو " بالكتابة الشعرية. نثرا"، لأن أدوات وأسلوب وشكل قصيدة النثر مختلف وربما متناقض مع مفهوم
" القصيدة " باعتبارها عروضا.
وتبعا لذلك، أي تبعا لوجود ذلك الاختلاف والتناقض فإننا ـ وتبعا لتحديدات أدونيس ـ لا يمكن اعتبار قصيدة النثر مرحلة متطوّرة للشعر العربي .
هي مرحلة من مراحل الشعر العربي ... لنقل لاحقة أو متقدمة ( لا نعني في الزمن الكرونولوجي ). وإن كان مفهوم التطور لا يعني الأسبقية أو السبق بالضرورة . ذلك أنّ التطوّر قد يعني التقدم أو التأخر... يعني الحركة .
حركة قد تكون في اتجاه ما، ولكن ليس الاتجاه إلى الأمام دائما .
4 ـ كتاب ( الكتابة الشعرية.نثرا) ينزوون وينكمشون في عدد محدود من الصياغات الكلامية، مسبوكة في جمل تتشابه حدّ التطابق. مما ولّد انطباعا بأنهم أخذوا يوغلون في تنميط النثر نفسه. أي أنّ هؤلاء الكتاب / الشعراء" جاءوا إلى الحرية لكيْ يقيّدوها " (18) .
وهذا واضح لما تتصفح نصوص كتاب قصيدة النثر لتكتشف " التطابق " و
" التماثل " الحاد بين النصوص. بلْ أنك قد تكتشف تعويل عديد الشعراء على نفس المعجم الطبيعي أو السياسي أو الجنسي...
إذن، يمكن أن نلخّص أفكار أدونيس حول قصيدة النثر أو الكتابة الشعرية .نثرا، بالقول أنّ أدونيس وضع إصبعه على الجرح الغائر فعلا، وهو يتلمس هذا الجنس من الكتابة .
ولا غرابة فهو أول من وضع دراسة نقدية عربية واضحة المعالم والأركان عن قصيدة النثر.وإن كانت دراسته عوّلت على كتاب سوزان برنار " قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا "، إلا أنّ " التناص "لا يُنقص مما قدّمه أدونيس شيئا .
وإن كان حراس الشعر العمودي قد اتهموا أدونيس بمجاراة الغرب والأخذ عن حضارة أخرى مناقضة لنا من حيث الثقافة والتقاليد والإرث الحضاري . ولم أسمع أنّ أحدا عارض أخْذ المسرح والسينما والفنون التشكيلية والعلوم بأنواعها ...
فلماذا هذا النقيق حول قصيدة النثر تحديدا ؟
إنّ أدونيس بطرحه لتلك المخاوف الأربعة، إنما خَلص إلى أنّ بنية الشعر غير زمنيّة، وإن ارتبطت بزمن ما .
بمعنى أنّ ما يميّز الشعر " الحق" حسب أدونيس هو بنيته وليست زمنيّته ... هذا أولا .
أما ثانيا، فيرى أدونيس أنّ الشعر لا يجب أنْ يحاكي الحياة .لأنه سيتحوّل من قيمة متعالية وسرمديّة إلى سرد وتأريخ، وهو ما يعجّل بفنائه .
على أنّ الشعر ـ مرة أخرى ـ لا يجب أنْ يناقض " العامل الحضاري " بل ينصهر فيه و يتماهى معه .
فالشعر " لم يعد ـ بمعنى آخر ـ للفائدة والمنفعة، بقدر ما أصبح عملا إبداعيا داخليا يجد فيه الشاعر تعزيته وخلاصه " (19) وهذا الخلاف / الاختلاف الجوهري بين مضمون القصيدة العمودية وقصيدة النثر.
فالقصيدة العمودية الحاضرة في البيئة الجاهلية والعربية البسيطة لا يمكن لها أنْ تتجاوز واقعها ذاك وماديتها.
فالشاعر عصرئذ متماثل مع المادة وحاضر فيها وبها . لذلك يبني رؤاه ونظرته انطلاقا من واقع الصحراء والخيمة وخبب الخيل وقرع السيوف ... ولا يمكن ـ تبعا لتلك البيئة المادية البسيطة ـ أنْ يعبّر الشاعر عن رؤى وجودية وفلسفية وذهنية، لأنه لم يدركها.
خلافا لقصيدة النثر الحاضرة في زمن التحولات الكبرى، زمن ميزاته " تفعيلة الحياة لا تفعيلة الخليل : رفع فخفض وانطلاقة فنكوص واسْتتباب فانقلاب وأرض مطمئنة فزلزال وجفاف فطوفان وسلام عليهم وقنابل على العرب وفيتنام وتخمة ومجاعة وناس تمشي عراة . آخرون يتقلبون مع الموضات وواحد يصنع طائرة والآخر " يملّسْ كانون " وأبولو والسرطان ساق على القمر وساق في القبر وجسم ناشط فشكل وعرق نابض فسكتة قلبية .
توقيع العصر مكسور مبتور بلا انتظام بلا انسجام لا مستفعلن ولا فعولن ويعدّ فاصل الشعر عند العرب الحداء والحداء قدّ على وتيرة الإبل في سيرها .
أفيركب الشاعر منا اليوم السيارة والقطار والطائرة ويزن الشعر بخطو الجمل
... هو شعر عصريّ " (20)
هذا ما كتبه توفيق بكار وهو يقدّم لديوان صالح القرمادي " اللحمة الحية " .. و هذا ما شدّني لأعبّر عن واقع متداخل متمازج فوضويّ ساخر كاذب متهالك مخادع مخاتل ... واقع يحتّم على قصيدة النثر الآن أنْ تجاريه وتلبسه .
هذا التضارب بين واقعين مختلفين، طرحه أدونيس في كتابه " مقدمة الشعر العربي " وهو يقارن بين القصيدة الجاهلية وقصيدة النثر (ضمنيا ) :
" القصيدة الجاهلية كالحياة الجاهلية : لا تنمو ولا تُبنى . وإنما تتفجّر وتتعاقب . والشعر الجاهلي صورة الحياة الجاهلية : حسيّ، غنيّ بالتشابيه والصور المادية . وهو نتاج مخيّلة ترتجل وتنتقل من خاطرة إلى خاطرة، بطفرة ودون ترابط (... ) ولا تقدّم لنا القصيدة الجاهلية مفهوما للعالم، وإنما تقدّم لنا عالما جماليا.
المفهوم يتضمّن موقفا فلسفيا، والفاعليّة الشعرية عند الجاهليّ انفعالية بعامة لا تُعنى بالمفاهيم بل بالتعبير والحياة والواقع " ( 21)
أما ثالثا، فيرى أدونيس أنّ ما يجعل من الشعر شعرا ليس الوزن وليس النثر، بل هناك أشياء أخرى ومقاييس أكثر أهميّة وعمقا .
" لا وزن، لا نثر، هناك معيار آخر لتمييز الشعر "
فما هو هذا المعيار ؟
إنها معايير لا نعرف إنْ وُفّق أدونيس في تنزيلها إلى تربة الشعر العربي . ذلك أنه ـ وتماهيا مع كتاب سوزان برنار ـ التقط أهمّ المفاهيم، بل كلّ المفاهيم / الأعمدة التي قامت عليها قصيدة النثر الأوروبية ، وهي حسب سوزان برنار :
* الوحدة العضوية
* المجانية
* الإيجاز
وقد حوّلها أدونيس أو عرّبها أو دجّنها أو غيّر خارطتها الجينيّة لتصبح :
* إرادة البناء مقابل الوحدة العضوية
* لا غاية لها خارج ذاتها مقابل المجانية
* الوحدة والكثافة مقابل الإيجاز
" فإرادة البناء" أو " الوحدة العضويّة " هو " قصد " بناء النصّ الشعريّ بناء واحدا / وحدة لا يقبل التجزئة ولا التفصيل ولا يمكن اقتطاع أبيات لقراءتها منفصلة عن الأخرى. مثلما يحصل مع الشعر العمودي.
وهذه الإرادة عند أدونيس تفترض " درجات عليا من التحكم في بناء القصيدة " (22)
أما القصيدة باعتبارها " لا غاية لها خارج ذاتها " ( المجانية )، فإنها لا زمنية . بمعنى أنها لا تتقدّم نحو غاية أو هدف مثل الرواية أو القصة أو المسرحية أو المقالة، بل تفرض ذاتها باعتبارها كتلة لا زمنية .
أما" الإيجاز " أو " الوحدة والكثافة "، فهو أنْ لا تتعمّد القصيدة الإطالة والتمطيط والتكرار الذي لا هدف له . وأن تبتعد قصيدة النثر ما اسْتطاعت عن الاسْتطراد والوعظ والتفسير.
وتبعا لهذه الشروط الثلاثة " على قصيدة النثر ألا تتعارض مع صفات المجانية والغموض والكثافة التي هي خاصية الشعر " ( 23)
رابعا، يعتبر أدونيس أنّ معنى القصيدة " ليس في الكلمة أو الجملة، وإنما هو في حركة القصيدة، بوصفها كلا " ليتحقق شرط الوحدة العضوية حسب سوزان برنار، أو إرادة البناء حسب أدونيس . وهذا خلافا للقصيدة العمودية التي يمكن أنْ يحكي عنها بيت واحد أو حتى صدر أو عجز، كأن تقول :
الخيل والليل والبيداء تعرفني
دون أن تكمل بقية البيت للمتنبي.
خامسا، إنّ القول الشائع أنّ الشاعر صوت القبيلة أو نبراس الأمة، أو حامل همومها والمدافع عن قضاياها، هو قول بائد. ذلك أنّ أدونيس يرى اسْتحضار هذا القول من قبيل البكاء على الأطلال . ذلك أنه يجب أنْ يُنظر إلى الشاعر باعتباره معرفة، لا باعتباره مرآة تعكس واقعا.
سادسا، إنّ قصيدة النثر أو " كتابة الشعر. نثرا "، هي تجربة الحواس بامتياز . بمعنى ؟
بمعنى أنْ ينتبه الشاعر أكثر للتفاصيل والأشياء، وحتى المهمل والقبيح. عوض الاحتفاء بالقبيلة والزعيم الأوحد .
" فأنْ تكتب شعرا، هو أنْ تُخرج الأشياء من صمتها أنْ تجعلها تتكلم. والشعر يحيل القارئ إلى ما تقوله الأشياء " (24)
ولما تتكلم الأشياء عبر نافذة قصيدة النثر، إنما تتكلم بملء قوتها وبكثافة حضورها وأن قصيدة النثر باعتبارها فضاء رحبا متسعا وممتدا في اللغة والكلمات وامتداد السواد على بياض الورقة... يجعل من الأشياء لها قدرة فائقة على التجلي والقول والتعبير.
فشكل قصيدة النثر يمنحها إمكانيات متعددة للقول تفوق ما لغيرها من الأجناس
( نقصد القصيدة العروضية )وأنا بهذه الملاحظات لا أخلق مفاضلة أو ترتيبا، وإنما أقدّم رؤية حاضرة كما أراها.
فقصيدة النثر لن تسْكن " في أيّ شكل، وهي جاهدة أبدا في الهروب من كل أنواع الانحباس في أوزان أو إيقاعات محدودة . بحيث يتاح لها أنْ توحي بالإحساس بجوهر متموّج لا يدرك إدراكا كليا ونهائيا .لم يعد الشكل جمالا وحسب . ففكرة الجمال بمعناها القديم ماتت ( ..) إنّ وقع القصيدة كلها : لغة غير منفصلة عما تقوله، ومضمون ليس منفصلا عن الكلمات التي تفصح عنه .فالشكل والمضمون وحدة في كلّ أثر شعريّ، ويأتي ضعف القصيدة من التفسخات والتشققات التي تسْتشفّ في هذه الوحدة " (25)
وإن كان مثل هذا التعريف لقصيدة النثر لا زال غامضا وزئبقيا، فذلك يعود لتشتت المعنى وعدم اكتمال تجربة كتابة قصيدة النثر.
فأدونيس يقدّم تعريفا في كلّ مرة، ليلحقه بآخر حول الإيقاع أو البناء أو الموسيقى أو الشكل أو ... وحتّى تكتمل الصورة علينا بجمع التعريفات التي بالضرورة يتعارض بعضها مع تعريفات أخرى قدمها يوسف الخال والماغوط وأنسي الحاج تنضاف إليها تعريفات قدمها بعض النقاد .
ونعتقد أنّ خير ما يمكن اعتماده لتأثيث تعريف أقرب للعلمية، هو النص. فالتراكم الكمي ينتج حتما تنوعا كيفيا.
لكن من قال أنّ قصيدة النثر تحتاج تعريفا دقيقا وصارما، أليس اللاتحديد هو تعريفها ؟
الهوامش:
1ـ عز الدين المناصرة: اشكاليات قصيدة النثر، المؤسسة العربية للدراسات والنشرـ الأردن 2002، ط1، ص 35.
2 ـ عبد الرحمان محمد القعود: الإبهام في شعر الحداثة، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب ـ الكويت، مارس 2002، ص 205.
3ـ عز الدين المناصرة، نفس المصدر السابق، ص 29.
4 ـ عز الدين المناصرة، نفس المصدر السابق، ص 30.
4 ـ عبد الرحمان محمد القعود، نفس المصدر السابق، ص 31.
5 ـ نفس المصدر السابق، ص 31 .
6 ـ نفس المصدر السابق، ص 31 .
7 ـ نفس المصدر السابق، ص 32 .
8 ـ أدونيس : زمن الشعر، دار العودة ـ بيروت ، ط3، ص 173 .
9 ـ أحمد عبد المعطي حجازي: قصيدة النثر أو القصيدة الخرساء، صدر عن مجلة دبي الثقافية ـ الإمارات العربية المتحدة، نوفمبر 2008، ط1، ص 37 .
10 ـ عبد الرحمان محمد القعود: نفس المصدر السابق، ص 181 .
11 ـ أحمد بزون : قصيدة النثر العربية، دار الفكر الجديد ـ بيروت 1996، ط1، ص 96 .
12 ـ أدونيس : تنبأ أيها الأعمى، دار الساقي ـ بيروت 2003، ط 1 .
13 ـ محمد لطفي اليوسفي : في بنية الشعر العربي المعاصر، دار سراس للنشر ـ تونس 1985، ص 148 .
14 ـ نفس المصدر السابق .
15 ـ جريدة الحياة اللندنية : 01 جانفي 2001 .
16 ـ أحمد عبد المعطي حجازي: نفس المصدر السابق ، ص 65 .
17 ـ أحمد بزون : نفس المصدر السابق، ص 62 .
18 ـ جريدة الحياة اللندنية : 01 جانفي 2001 .
19 ـ أحمد بزون : نفس المصدر السابق، ص 25 .
20 ـ سوف عبيد : حركات الشعر الجديد بتونس، إصدارات جريدة الحرية ـ سبتمبر 2008، ط1، ص 83 .
21 ـ أحمد بزون : نفس المصدر السابق، ص 25 .
22 ـ مجلة الحياة الثقافية : " حوار مع شربل داغر"ـ ديسمبر 2002، ص 99 .
23 ـ عز الدين المناصرة، نفس المصدر السابق، ص 29.
24 ـ جريدة الحياة اللندنية : 01 جانفي 2001 .
25 ـ أحمد بزون : نفس المصدر السابق، ص 47 .
26 ـ أحمد بزون : نفس المصدر السابق، ص 96 .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق