جمالية ق ق ج: ملامح في التشكل |
الكاتب: براهمة سلمى | |
رغم أن سؤال الملتقى وشعاره هو جمالية القصة القصيرة جدا،لابد من طرح سؤالين هامين قبل هذا السؤال : أولا:سؤال انتهى إليه عبد الدايم السلامي في كتابه "شعرية الواقع في القصة القصيرة جدا" وهو هل يجوز اعتبار ما يسميه بعض الكتاب الجدد قصة قصيرة جدا جنسا أدبيا ذا أشراط كتابية مخصوصة تمنحه الانمياز عن باقي أنواع القص التي تزخر بها مدونة النثر العربي ؟ هل تتوفر القصة القصيرة جدا على ملامح تجعل منها بنية لغوية ذات وحدة معنوية تمكنها من حق" المواطنة" في الحقل السردي؟ 1 ثانيا:لماذا القصة القصيرة جدا ،هل أدرك شهرزاد الصباح سريعا، أم أن شهريار القرن الواحد والعشرين لم تعد تأسره الحكايات الطويلة ؟ بمعنى آخر، هل هي تلبية لحاجة لدى المتلقي أم لحاجات تخص القاص نفسه ؟أي أن المسألة في عمقها مرتبطة بسيرورة ذوقية جمالية من جهة ، وتاريخية اجتماعية اقتصادية من جهة ثانية ؟ ولابد هنا أن نأخذ على محمل الجد قول القاص الفنزويلي، لويس بريتو غارسيا : "نمر بسرعة من دراما الكتاكالي التي تدوم عرضها ثلاثة أيام ،إلى التراجيديا الإغريقية التي تستمر ليلة كاملة ،إلى الأوبرا التي تستغرق خمس ساعات ،إلى الفيلم الذي يدوم ساعة ونصف ، إلى حلقة المسلسل من عشرين دقيقة ،إلى الفيديو كليب من خمس دقائق، إلى الوصلة الإشهارية من عشرين ثانية، ثم القصة القصيرة جدا من ثانية واحدة "2 وأخيرا نصل إلى السؤال الذي له علاقة قوية بالسؤالين السابقين، وهو محور جلستنا اليوم:أين تكمن جمالية القصة القصيرة جدا ،في لغتها الكثيفة ،في انزياحيها عن المعنى أو اختفائه تماما ؟ في كثرة الحذف والتخلص من الزوائد المثقلة لكاهل السرد؟في الإيجاز والقصر الشديد ؟ في البناء المحكم والتركيب المقتصد ؟في استدعاء القارئ وإشراكه في العالم القصصي ثم خرق أفق انتظاره ؟في الإضمار والتلميح والإيحاء بدل المباشرة ؟ في التجدد الدائم وابتكار طرق عيش جديدة بالانفتاح على أشكال تعبيرية شفهية وأجناس أدبية مختلفة كالشعر والخرافة والنكتة والحكمة والمثل والحكاية ؟ وأخيرا هل كل قصة قصيرة جدا"جميلة " لمجرد أنها قصة قصيرة جدا ؟ قد يقول قائل لماذا كل هذه الأسئلة .أعتقد أن أي مقاربة نقدية للقصة القصيرة جدا ،حتى الباحثة في جماليتها ،لابد أن تنشغل بطرح الأسئلة أكثر من محاولة إيجاد اجابات جاهزة وقطعية : أولا:لأن هذا " الجنس الأدبي "لازال في بداياته، رغم ظهوره في فترات سابقة تحت تسميات أو مصطلحات أخرى ، كالأقصوصة عند محمد إبراهيم بوعلو ،أو القصة القصيرة عند زكرياء تامر .إلا أنه لم يعرف الانتشار إلا في العقد الأخير،ولم تكتمل التجربة وتحقق التراكم بالقدر الذي "يمكن الباحث ،يقول السلامي ،من التعامل معها بأريحية دون وقوعه في مطبات عديدة منها حيرته بين قلة الإنتاج وجودة الإنتاجية"3 ثانيا:لأن القصة القصيرة لم يرفع عنها الحيف إلا مؤخرا ،حيف الذيلية والتهميش ...ولم تجد بعد نظريتها وأدوات مقاربتها الخاصة ، فماذا يمكن القول عن القصة القصيرة جدا ، والتي لازالت حتى وقت قريب ،وفي الموطن التي ظهرت فيها وتألقت كأمريكا اللاتينية وإسبانيا، تثير أسئلة حول المصطلح أو التسمية ،حول الحجم وشروطه ،الشكل وخصائصه... للإجابة عن بعض هذه الأسئلة وطرح أخرى جديدة ،سأحاول القبض على بعض أهم ملامح القصة القصيرة جدا ، والتي أعتبرها تمنح لهذه التجربة فرادتها وتميزها ،ومن ثمة جماليتها،من خلال ممارسات مختلفة : 1.البناء المحكم المبني على الإيجاز والتناغم الداخلي ، والتشبت بالحبكة والمادة القصصية في" الكرسي الأزرق" لعبد الله المتقي .4 2 .الثنائية أو التقابل ،والحكي المشهدي في "حب على طريقة الكبار" لعز الدين الماعيزي .5 3. التناص والتوسع الأفقي للقصة القصيرة جدا في " مظلة في قبر "لمصطفى لغتيري .6 ولايعني هذا أن كل تجربة من هذه التجارب تنفرد بخاصية لا نجدها في نصوص أخرى ، وإنما هو تحديد إجرائي منهجي فرضه نوع المقاربة وشعار الملتقى . 1 .البناء المحكم المبني على الإيجاز والتناغم الداخلي ، والتشبت بالحبكة والمادة القصصية في " الكرسي الأزرق " لعبد الله المتقي : كثيرا ما يعني الإيجاز الذي هو ملمح عام وخاصية أساسية في القصة القصيرة جدا التحرر من البناء ومن الحبكة ،ومن ذلك التناغم الداخلي الذي يرتبط فيه العنوان بالبداية والنهاية ، حتى استسهل البعض هذا النوع من الكتابة ،يقول الناقد خوصي ماريا مرينو،واعتبره البعض الآخر " فكرة ذكية تعرض في كلمات قليلة...أو ملخص حبكة تستوجب كتابتها أصلا مساحة أوسع "7 نصوص عبد الله المتقي، ليست من هذا النوع ،بل هي من النصوص التي تتميز ببناء محكم ، ركائزه الأساسية:الإيجاز ،الدهشة ،الإيقاع الداخلي السريع ، تناغم العنوان والبداية والنهاية ،دون التخلي عن عنصر الحكاية أو" الطعم القصصي السردي" .8 يبني المتقي عوالم مكثفة ، لكن مشيدة بعناية كلعبة شطرنج ، كل مربع أو قطعة ،وكل حركة أو انتقال له ضوابطه ولا بد أن يؤدي دوره على أكمل وجه ، ويبلغ الهدف الجمالي العام . العنوان في نص " مات الكلب " ص47 ليس عتبة فقط نبحث عن علاقاتها المختلفة بالنص ،بل هي مفتاح النص ،الحالة البدئية التي يترتب عليها التحولات السردية اللاحقة لذلك جاء جملة فعلية ،فعلها ماض ،تنبئ عن انطلاق الحكي وتؤشر عليه .ولا تتكرر هذه الجملة داخل النص بأي صيغة ، لكن لا تفهم الأحداث ولا يكون لها معنى بدونها . وفي نص "فوطوكوبي "ص 57 نقرأ "أمه تقبع في ركن من أركان الغرفة ،تخيط بالإبرة محفظته الجلدية ،أخته تلعب بدمية مبتورة الذراعين ،نظر إلى تقاسيمه في المرآة :كان صورة منهما :فقيرا ،هزيلا ،شاحبا ،وجائعا " لنحاول أن نستبدل كلمة "تقبع " بتجلس .ونحذف بالإبرة، أو نحذف نعت الدمية"مبتورة الذراعين " ولنجرب تغيير ترتيب الجمل ونبدأ مثلا ب :"نظر إلى تقاسيمه في المرآة ..." سيختل البناء لا محالة ،ويتغير المعنى بشكل جذري ،ولا تترك فينا القصة ذلك الأثر الذي تركته في شكلها الأول ،لأن الكاتب رسم تقاسيم البؤس والفقر ( بؤس وفقر الشخصية) من البداية إلى النهاية ،كلمة كلمة ، ومتتالية متتالية . ولنختم بآخر مثال عن دقة البناء وتماسكه من نص "ح م ا م " ص 10 الذي يتميز بحبكة تقليدية :وضعية بدئية ، وسط عقدة ،ثم نهاية.كل ذلك باقتصاد في التركيب وبالاستفادة من ا لتقنيات المختلفة للسرد . فنجد تناوبا متزنا للوصف والسرد (حمامتان جميلتان ترفرفان ،وطفل يلعب )، للجمل الإسمية والجمل الفعلية ،للثبات والحركة ،للإفصاح والحذف ،لفضاء هادئ جميل يؤثته الحمام والطفل بما يحملان من رمزية السلام والبراءة ،تقتحمه طائرة حربية ،مخلفة فضاء آخر لا يصفه السارد ،بل ترتسم ملامحه على وجه الطفل ،تعلن عن ذلك النهاية:"يفتح الطفل عينيه خائفا " ويمتد ذلك الخوف إلى وجدان القارئ لأنه تسرب إليه بتدرج مقنع ومنطق سردي متكامل لا مجال فيه للإعتباطية أو الإقحام . إن العناية بالبناء والحبكة والمادة القصصية سر نجاح عبد الله المتقي وتميزه بالانفتاح على الواقع واقتناص لحظات إنسانية متوترة ،حزينة ،مؤلمة ،رتيبة ،ضاحكة ،ماجنة ...وتتبع حركة الحياة في تدفقها ،غناها وتغيرها المستمر . 2 .الثنائية أو التقابل والحكي المشهدي في "حب على طريقة الكبار" : يعتبر الناقد الأرجنتيني راوول براسكا الثنائية واحدة من ثلاث أدوات تقنية وجمالية تميز القصة القصيرة جدا ،وتتمثل حسبه في وجود عالمين أوحالتين متقابلتين يبنى عليهما النص القصصي . 9 وذلك ما يقوم به عز الدين الماعيزي ،خاصة في النصوص التي تتخذ الطفولة موضوعا لها .إذ نجدها تتضمن عالمين ،عالم الكبار وآخر للصغار . بالرسم يبني الطفل عالمه ، بالحلم يلونه ويؤتثه . بالرسم والحلم واللعب يخلق الطفل عالمه ويحقق رغباته ،ويوجد ما لا يوجد في واقعه .لكن هذا العالم سرعان ما يتعرض للمحو والتدمير ,من قبل الكبار : المعلمة ،الأب ،سحابة سوداء. وكأن عالم الطفولة عالم هش هشاشة الرسم والألوان،هشاشة الحلم الذي يختفي بمجرد الاستيقاظ .ويضيع عالم الطفل بمجرد تدخل الكبار وفرض سلطتهم التي تلتقي مع سلطة الطبيعة (المطر،سحابة سوداء ) في الاستعلاء والقهر والقدرية...نقرأ في "موت سامرائي " ص 32 ."رسم الطفل مستطيلا،مثلثا ،مدخنة ،سلكا هوائيا عاليا في آخره شبكة ...وضع النوافذ الزجاجية والباب الخشبي ودرج السلالم ،مربعا للحديقة وشجرة باسقة...رسم نفسه طفلا يحمل محفظة متجها إلى المدرسة ...يمعن بعينيه في الأعلى سحابة سوداء أمطرت...فمحت الرسم " . ونقرأ في "مطر الحديقة " ص38 "تبري الطفلة المنتبهة القلم وتتكئ للرسم سطرا سطرا دوائر مغلقة نقطا أشكالا منحنية..أشجارا ثمارا ،تلون الحديقة...بعد لحظات تقف المعلمة جانب السبورة تتحدث ثم تتمشى بين الصفوف للمراقبة.على الورقة تساقط المطر مدرارا غمر الطفلة حزن شديد ،أوراق الرسم تلطخت بدموعها تأسفت لهدم المنازل وسقوط العمارات وبعثرة أوراق الحديقة ..." تترتب إذن عن ثنائية ا لكبار والصغار ،ثنائيات أخرى كالرسم والمحو ، البناء والهدم ،الحرية والتسلط ،الحلم والحقيقة...ومن خلال هذه الثنائية الضدية استطاع الماعيزي أن يقول لنا إن عالم الطفولة ملئ بالحرمان ،ملئ باللاتواصل والهشاشة. ا .الحكي المشهدي : إضافة إلى الثنائية أو التقابل ،يوظف الماعيزي الحكي المشهدي ،أو السرد بعين الكاميرا الذي تناسب إلى حدود قصوى مع عوالم الطفولة .إذ يتحرك السرد بحركة الأطفال ،يتسارع بركضهم ولعبهم ،بقفزهم.يتوتر بشجارهم أو خيبتهم وصدمتهم. لذلك يستدعي السارد الجمل الفعلية القصيرة ، ويتخلى عن الزوائد بل يتخلى عن علامات الترقيم أحيانا و يلتجئ للحذف : " ...هذه المرة قالت في وجهها كلاما قبيحا، ردت عليها الأخرى بكلام أقبح منه،قالت ،،أمك ،، قالت ألأولى أبوك ،،أخوك ،،قالت الثانية، مدت يدها إلى وجهها ،إلى عنقها، تركت خدوشا صرخت الثانية جرت الثانية الأولى من رأسها،من شعرها ،تعانقتا ،التحمتا،انفصلتا..." من نص " الحجلة" ص 10 . ونقرأ في نص "عماد الطابوزي " ص 76 "يتصالح عثمان وعماد بالكرة يقذف تتدحرج يتبعها كلب رقية يحاول أن يلتقطها بفمه وعثمان يحاول أن يعلم الصغير كيفية قذف ضربة الجزاء ،يوقفه جنب الحائط يقذف بكل قوة على وجهه الصغير..." هكذا تمنح الطفولة نكهة للسرد، وينقل السرد عالم الطفولة في حركته وحيويته وصخبه .ويكون إيقاع السرد هو إيقاع الطفولة فيستحيل السرد طفلا ،خفيفا ،رشيقا ، متحررا من كل القيود ،متمردا على كل المواضعات ،رافضا لكل القوانين والقواعد. 3. التناص والتوسع الأفقي للقصة القصيرة جدا ،من خلال " مظلة في قبر" لمصطفى لغتيري: وأعني بالتناص هنا ما خلص إليه بيير زيما اعتمادا على مفهوم كريستيفا المعروف ،أي باعتباره عملية امتصاص من جانب النص الأدبي للغات الجماعية والخطابابت الشفهية أوالمكتوبة،التخيلية أو النظرية ، السياسية أو الدينية...بما يضع النص في سياق حواري،أي بالمقارنة مع ا نصوص والأشكال الخطابية التي يتفاعل عن طريق استيعابها وتحويلها ومحاكاتها الساخرة .10 استنادا على هذا المفهوم، يمكننا التأكيد أن نصوص "مظلة في قبر " لمصطفى لغتيري تمتص نصوصا وخطابات عديدة وتتفاعل معها سواء على مستوى البناء ، أو على مستوى المضمون :نصوص شفهية وأخرى مكتوبة ، شعبية وأخرى عالمة، قديمة وأخرى حديثة ،تخييلية وأخرىتاريخيةأو دينية ،أو نفسية .هكذا نجد : أ-المتناص الشعبي الذي يتمظهر أساسا في المستملحة أو النكتة : تتفاعل القصة القصيرة جدا مع هذا النوع من النصوص الشفهية بشكل لافت للنظر وتستثمره استثمارا متميزا . وما يميز هذا التفاعل أنه تفاعل على مستوى البناء وطريقة السرد ، للأن النكتة تعتمد السخرية ،المفارقة ، الاقتضاب الشديد والنهاية المفاجئة أو المدهشة . كما تستبطن النقد وتبتعد عن الشرح والتوضيح لأنه يفقدها روحها ،دون أن تتخلى عن السرد وعنصر الحكاية .لذلك وجد فيها مزاولوا هذا الفن غنيمتهم. ورغم أن البعض منهم يستنسخ نكتا دون أية قيمة مضافة ،فإن البعض الآخر يحاول توظيفها والتفاعل مع بنيتها ، وذلك ما نجده في عدد من نصوص "مظلة في قبر" كنص"عولمة "، "قمر "، "مبدأ " و نص "خيانة "ونص"كابوس" الذي يمكن اعتباره من أنجح النصوص استثمارا للنكتة.فالطفلة التي تقوم كل ليلة فزعة لكونها ترى كلبا شرسا يطاردها ، تأخذها أمها إلى فقيه يعد لها تعويذة .ينبهر هذا الأخير بجمالها وينظر لها نظرة ترعبها .في الليل يملأ صراخها البيت مجددا ،تهرع إليها الأم:"-الكلب ثانية يا ابنتي ؟. مرتعبة أجابت الطفلة :- بل كلبان يا أمي. ص.55. ب-المتناص الأدبي : وهو الأكثر حضورا باعتبار الأديب ينفتح أكثر على الإبداع الأدبي . ويحضر هنا بصيغ عديدة ،سواء من خلال استحضار شخصيات قصصية أو عناوين كتب أو أسماء مبدعين أدباء .فنجد " مالك الحزين " الذي يحيلنا على النص السردي العربي القديم "كليلة ودمنة ". كما يحضر نص" ألف ليلة وليلة " ، الإلياذة ،اسم الوردة لأمبرطور إيكو ، المتشائل الذي يحيلنا على رواية "الوقائع الغريبة لأبي سعد المتشائل " لإميل حبيبي،إلى جانب الحلاج ،أدونيس ، وابي حيان التوحيدي ...ويستدعي العنوان"برتقالة "نص بوزفور "الرجل الذي وجد البرتقالة ". ويؤكد ذلك المناص أو الإهداء الذي ورد في أعلى النص :إلى أحمد بوزفور . و لا يخلو المناص الذي هو عتبة المجموعة من تفاعل مع اللغة الواصفة في أمريكا اللاتينية وتحديدا تعريف الناقد "فلكس بالما " للقصة القصيرة جدا بأنها " أن تفتح مظلة في لحد ". 11 ب-المتناص التاريخي ، و يحضر من خلال أسماء شخصيات تاريخية أو أحداث كنابوليون ، حملته على مصر ، شخصيات ملحمة جلجامش ،( جلجامش وأنكيدو..) ، استعمار فرنسا المغرب ، الثورة الفرنسية ، نيرون ... ج-المتناص الديني : و يحضر بالإشارة إلى قصة الخلق ، في قصة "الخطيئة " ، بلقيس ، و سفينة نوح ... د-المتناص النفسي : و حده اسم فرويد كان كافيا للإحالة عليه . هده نماذج لامتصاص قصص لغتيري القصيرة جدا لنصوص أخرى ( تغري بقراءة خاصة ) تمنح نصوصه غنى وتجعل القصص القصيرة جدا ، التي تتقلص عموديا تتسع أفقيا، تتمدد و تتمطط ، و كل ذلك يمنح للقارئ إمكانيات عديدة للقراءة و التأويل . و إن كنت لا أستطيع إبراز أنواع التفاعل التي أقامتها نصوص لغتيري مع النصوص المذكورة أعلاه نظرا لطبيعة المقاربة،فيمكن إعطاء مثال من أول نص في المجموعة " مالك الحزين " . لقد كان العنوان كافيا لإدخالنا عالم كليلة و دمنة و تحديدا :"الحمامة والثعلب ومالك الحزين. باب من يرى الرأي لغيره و لا يراه لنفسه" 12 . لكن أصر السارد على تلخيص مضمون الحكاية لما أكد أن مالك الحزين كان يسترجع تلك الحكاية القديمة ، حين أفتى أحد أسلافه لحمامة برأي"أنقد فراخها من الثعلب و أهلكه " . و إن كانت أول عبارة في النص " في مراكش " تربط القارئ بحاضر الحكي ، تؤطره ضمن فضاء حديث ، فإن الحكاية تأخذه لأزمنة مضت ، لعالم مليء بالحكمة و النصح . وفي غمرة حيرة القارئ بين الماضي و الحاضر يعلن مالك الحزين الذي يعتلي أسوار مراكش في النهاية ، بعد أن طلبت منه حمامة المشورة : " لقد تغير الزمان يا صغيرتي "ص 13. هكذا تتفاعل قصة " مالك الحزين " مع نص ابن المقفع القديم و تحوله من خلال معارضته لإعلان تغير الزمن و ترديه ، و انغماس الإنسان في فردية و أنانية ، لا يسمحان بأي تضحية أو مساعدة كيف ما كان شكلها . أما نص"صومعة" فصورة فرويد التي تزين غلاف كتاب ، ومنظر الصومعة من أعلى الشقة ، جعلا بطل القصة يشرد لفترة من الزمن ثم تجد ابتسامة طريقها نحو شفتيه . وكل ذلك يدعو القارئ لاستحضار حمولة اسم فرويد باعتباره صاحب "نظرية "الكبت الجنسي وراء بناء البشر لحضارتهم .ويترتب عن ذلك أن الصومعة كرمز ديني عربي إسلامي بني تحت نفس الدافع . ولعل المفارقة التي ينسجها الجمع بين الجنسي والديني ، بين المدنس والمقدس ( في الثقافة العربية الإسلامية )، بين الظاهر والباطن أوالمسكوت عنه هي ما يجعل القارئ "يشرد"أيضا مستمتعا أومتأملا أوباحثا عن المعنى(أو المعاني الكثيرة المحتملة ).ولعل ذلك أقصى ما يتوخاه كاتب القصة القصيرة جدا من قارئه. يتبين من خلال هده المحددات : البناء المحكم ، أو دقة البناء المبني على الإيجاز و التناغم الداخلي بين اللغة و الحبكة و المادة القصصية ، الثنائية أو التقابل ، الحكي المشهدي ، التناص وكثافة المعنى ، أن القصة القصيرة جدا بالمغرب آخدة في رسم ملامحها الكبرى التي تؤسس لمقومات سرد ينبني على التكثيف و الإقتضاب مع إسهاب في المعنى في انتظار تجارب أخرى تعمق طرق الإشتغال و ترسخ لتصور نظري للقصة القصيرة جدا تجيب علىبعض الأسئلة التي طرحتها في البداية . براهمة سلمى الهوامش 1-عبد الدايم السلامي .شعرية الواقع في القصة القصيرة جدا. ( قصص عبد الله المتقي ومصطفى لغتيري نموذجا )منشورات أجراس. ط1. 2007. ص.89. 2-لويس بريتو غارسيا.دليل موسع للقصة القصيرة جدا ترجمة سعيد بنعبد الواحد مجلة قاف .صاد.ع.5. 2007. . 3- عبد الدايم السلامي.المرجع السابق.ص.89. 4- عبد الله المتقي.الكرسي الأزرق . منشورات مجموعة البحث في القصة القصيرة بالمغرب.2005 5.عز الدين الماعيزي.حب على طريقة الكبار. دار وليلي للطباعة والنشر . ط .1 . 2006. 6. مصطفى لغتيري .مظلة في قبر . دار القروين. ط.1. 2006. 7- خوصي ماريا مرينو.مفاهيم نظرية حول القصة القصيرة جدا في إسبانيا وأمريكا اللاتينية . ترجمة سعيد بن عبد الواحد. مجلة قاف .صاد.ع .1. 2004.ص.32. 8-على حد تعبير مرينو.المقال السابق.قاف .صاد. ع.1.السنة 1. 2004 . 9- راوول براسكا.المقال السابق الذكر . قاف صاد. ع1. 2004. 10- سلمى براهمة.سوسيوليجيا النص الروائي العربي.التيه والأخدود لعبد الرحمن منيف نموذجا.بحث لنيل دبلوم الدراسات العليا .تحت إشراف د.سعيد يقطين.جامعة محمد الخامس كلية الآداب.الرباط.1997. 11- فلكس بالما .المقال السابق الذكر. قاف . صاد . ع. 1. 2004. 12-كليلة ودمنة.ط 10 .دار المشرق.1977.ص248 . المصدر http://kisa.alfawanis.com/index.php?option=com_content&task=view&id=833&Itemid=1 |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق