2011
د.جميل حمداوي
مقدمــــــة:
من المعروف أن للقصة القصيرة جدا، باعتبارها جنسا أدبيا جديدا في الحقل الثقافي العربي، مجموعة من الأركان الضرورية والمكونات الداخلية التي تنبني عليها بصريا، وتركيبيا، وبلاغيا، وسرديا، ومعماريا. ولايمكن البتة الحديث عن القصة القصيرة جدا في غياب هذه الأركان والمقومات الجوهرية الثابتة التي تميز القصة القصيرة جدا عن باقي الأجناس والأنواع الأدبية والفنية الأخرى.
كما تتوفر القصة القصيرة جدا على مجموعة من الشروط التكميلية، وترتكز أيضا على عدة (بضم العين) من العناصر التقنية الثانوية التي تحضر وتغيب، كالتشخيص، والأنسنة، والتناص، والترميز، والعنونة ، والتصوير البلاغي، والالتفات، والتشخيص الدلالي، واستخدام المنظور السردي...إذاً، ماهي أهم الشروط والتقنيات الثانوية التي تستند إليها القصة القصيرة جدا ، وذلك عبر مختلف المستويات اللسانية والمسارات التداولية؟
المبحث الأول: المعيار المناصي:
* مقياس العنونة:
يستخدم كتاب القصة القصيرة جدا عناوين متنوعة لمجموعاتهم الإبداعية، فهناك الأنماط العنوانية التالية:
أولا: عناوين كلاسيكية تتناسب مع مضامينها، مثل: مجموعة وفاء الحمري :" بالأحمر الفاني".
ثانيا: عناوين مفارقة لاعلاقة لها بمضامين المجموعة لامن قريب ولا من بعيد، إلا إذا استعملنا مشرح التأويل والانسجام، مثل: " مظلة في قبر" لمصطفى لغتيري، و" الكرسي الأزرق" لعبد الله المتقي، و" أبراج" لحسن برطال، و" كيف تسلل وحيد القرن؟!" لمحمد تنفو...
ثالثا: عناوين لها علاقة جزئية بالمجموعة . أي: تشكل جزءا من كل، مثل: " وقع امتداه...ورحل" للسعدية باحدة، و" تسونامي" لمصطفى لغتيري...
رابعا: عناوين لها علاقة كلية بالمجموعة، مثل: " صريم" للحسين زروق.
خامسا: عناوين رمزية كنائية، مثل:" الخيل والليل" للحسين زروق.
خامسا: عناوين متنية (نسبة إلى المتن) في شكل فراغ صامت ، أو عبارة عن علامات الترقيم أو أرقام عددية... كما هو حال متون:"أبراج" لحسن برطال، أو قصة 151 للسعدية باحدة، أو حروف أبجدية كما هو شأن:" الضفة الأخرى" للبشير الأزمي[1]،
سادسا: عناوين صادمة وواخزة وغريبة ومجردة،كقصص سعيد بوكرامي في مجموعته " الهنيهة الفقيرة".
سابعا: عناوين مباشرة، مثل: عناوين مجموعة جميل حمداوي:"كتابات ساخرة"، وعناوين وفاء الحمري:" بالأحمر الفاني".
وعلى العموم، فعناوين القصة القصيرة جدا هي عناوين رمزية وموحية ومفارقة ، لاتعبر مباشرة عن نصوصها ومتونها، فهناك علاقات انزياحية غامضة مختلة، وذلك بسبب خلخلة أفق انتظار القارئ.
فسعيد بوكرامي في مجموعته :" الهنيهة الفقيرة" – مثلا- لا يكتب قصصا عادية سطحية وكلاسكية ، بل هو يرسم لوحات تشكيلية تجريدية ، تذكرنا بلوحات بيكاسو، وسلفادور دالي، ولوحات تكعيبية يكعب فيها الكاتب الأمكنة، والأزمنة، والبشر المعلبين في الخانات الرقمية، والحانات العبثية الضائعة، كما يكتب نصوصا شعرية موحية لا تعبر عن متونها، إلا من باب الترميز، والإشارة،والإيحاء الدلالي ، والتأشير السيميولوجي.
* مقياس الانفتاح التجنيسي:
يعتبر الانفتاح الأجناسي من أهم خاصيات القصة القصيرة جدا ، حيث نجد هذه الكبسولة القصيرة تستوعب مجموعة من الأجناس الأدبية والفنون المجاورة، كتشغيل اللقطة السينيمائية ،ولمحة الخاطرة، وسخرية النادرة، ولغز التنكيت، والسرد القصصي والروائي، والصورة التشكيلية،والتوتر الدرامي.
بيد أن أهم انفتاح للقصة القصيرة جدا هو استيعابها لفن الشعر، وتوظيف الشاعرية السردية، أو ما يسمى عند إيف تادييه Yve Tadié بالمحكي الشاعري. ويعني هذا أن الكبسولة القصصية تنساق وراء الشاعرية الإبداعية ، وذلك بواسطة استخدام القالب الشعري، واللغة الموحية، والصور الشعرية الانزياحية ، كما في قصة :" الغريب " لمصطفى لغتيري التي تشبه قصيدة شعرية نثرية:
" في بلادنا شجرة وارفة الظلال..
جاء الغريب اشتراها، وطردنا بعيدا،
لنصطلي تحت نيران الشمس الحارقة..
بعد زمن رحل الغريب..
مبتهجين عدنا إلى الشجرة، فلفحتنا ظلالها الحارقة"[2]
نلاحظ في هذه القصة القصيرة جدا تعدد الأسطر القصصية ذات الطبيعة الشعرية، واستعمال التوازي ، وتشغيل المحكي الشاعري، وذلك من خلال المزاوجة بين صور المجاورة وصور المشابهة، وتوظيف الرموز المكثفة. ومن ثم، تشبه هذه القصيدة إلى حد كبير قصائد الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان، التي تستدعي فيها الشاعرة خطاب المقاومة والتحدي والصمود والكفاح، بكتابة شعرية نثرية قصصية متفاوتة الأسطر والجمل الشعرية.
كما يستند هذا الجنس الأدبي الجديد إلى توظيف مجموعة من الأجناس الأدبية الأخرى كالسينما، كما نجد ذلك في قصة :" الإخراج والإدخال" لمحمد شويكة[3]، وتوظيف فن الخاطرة، كما في قصة سعيد بوكرامي: "السدرة":
" تتوقف:
- لماذا تفتش رسائلي؟
كخطوات غامضة في اتجاه بيت مهجور تأتي.
أتقيأ هنا.اسقط هناك.
- مادخلك أنت بأسراري؟
لاتفتح صدرها لأحد. بنك سويسري تسيجه أجهزة الإنذار. قد تكشف بعضها في جلسة. لكنها مجرد أحلام يقظة مشفرة.
تغادر:
-الولادة لاتنحني في النهار. قد تنام في غسق الخوف. لكنها تصحو، وإن داهمتها الرياح."[4]
وتنفتح القصة القصيرة جدا كذلك على الأحجية ، كما في قصة إبراهيم الحجري:"أحجية":
" حجيتك مجيتك على التي شعرها أصفر، ورأسها أسود، تأكل ولا تشبع. تصد ولاتصد. تقوم والناس نيام. نحب مشي الزحام. نصول وتجول. أكلها بيض الغول. ربيبها نسر وزوجها صقر. تلبس الوهم وتتصيد الهم. حبها عطش وسفرها بطش.
ترى من تكون؟
إذا لم تجد حلا للأحجية، اعط حمارك، واتصل بي على :ohjya@gmail.com"[5]
وعلى أي، فالقصة القصيرة جدا منفتحة على كل الأجناس الأدبية والفنية، تستفيد من التشكيل، والمسرح، وأدب التلغيز، والتنكيت، والإخبار.
المبحث الثاني: المعيار التفاعلي:
* مقياس التناص:
ثمة مجموعة من القصص القصيرة جدا حبلى بالمستنسخات التناصية، والنصوص الغائبة، والإحالات المعرفية الدالة على الذاكرة المنسية، ومختلف الترسبات، والمعرفة الخلفية بخطاطاتها الذهنية ومدوناتها الاصطلاحية. بينما هناك في المقابل نصوص قصصية لغوية خالية من الإحالات التناصية، ومعدمة بفقرها. بينما يشترط في القصة القصيرة جدا الجمع بين المتعة والفائدة، و الإمتاع والإقناع ، وألا تبقى قصة بيانية إنشائية ، بل لابد أن تعضد بحمولات ثقافية ومعرفية.
هذا، وقد تعاملت القصة القصيرة جدا مع مجموعة من المستنسخات التناصية، ونذكر منها الأنواع التالية:
- المستنسخ الديني ، كما في قصص الحسين زروق ووفاء الحمري.
- المستنسخ الرقمي، كما عند فاطمة بوزيان في مجموعتها :"ميريندا".
- المستنسخ العلمي ، كما يحضر في قصة: "الخطيئة" لمصطفى لغتيري.
- المستنسخ الفلسفي، كما في مجموعة" مظلة في قبر" لمصطفى لغتيري.
- المستنسخ التاريخي ، كما في قصة :" تهمة" للسعدية باحدة.
- المستنسخ السياسي،كما في قصص حسن برطال.
- المستنسخ الأدبي ، كما في قصة:" شاعر" لإبراهيم الحجري.
- المستنسخ الأسطوري، كما في قصة:" بروميثيوس" لعبد الله المتقي.
- المستنسخ الفني ، كما في قصة:" الإخراج والإدخال" لمحمد شويكة في مجموعته:"القردانية".
أما عن آليات التعامل مع التناص، فنلاحظ أنواعا ثلاثة من آليات الاستنساخ:
1- الاستنساخ الحرفي.
2- الاستنساخ الوظيفي.
3- الاستنساخ الإبداعي.
وإذا تأملنا مثلا قصص الكاتب المغربي مصطفى لغتيري في مجموعته:" مظلة في قبر"، فإنها تصدر عن مرجعية ثقافية غنية بالمستنسخات والإحالات التناصية ، ومعرفة خلفية زاخرة بالحمولات المعرفية الأدبية والفنية والعلمية، إذ استطاع الكاتب أن يصهرها في بوتقة سردية موحية، أحسن تحبيكها قصد إيصال رسالته المقصدية . وهذه الخاصية ، كما قلنا سابقا، هي التي تفرد مصطفى لغتيري عن باقي رواد القصة القصيرة جدا. ومن القصص التي تحمل طابعا ذهنيا وثقافيا، نذكر على سبيل التمثيل لا الحصر: بلقيس، والمومياء، وأبراهام ، وديانا، وعولمة، والخطيئة، ودخان أسود.... ويمتزج في كتاب مصطفى لغتيري التاريخ بالاقتصاد، والعلم بالأدب، والفن بالفلسفة. وهذا ما يؤشر على موسوعية الكاتب، وانسياقه وراء ماهو ذهني وثقافي. لذلك، يستوجب إبداعه متلقيا ضمنيا مثقفا، يستطيع أن يفك مستنسخات قصصه، ويحلل علاماته التناصية ، ويؤول رموزه اللغوية، ويستقرىء دواله المضمرة.
هذا، وتنبني القصة القصيرة جدا في أضمومة "تسونامي" على توظيف التناص، وتشغيل المستنسخات النصية والمقتبسات المعرفية، واستخدام المعرفة الخلفية الداخلية والخارجية، وذلك من خلال استحضار الأعلام ، والنصوص اللاواعية، والأفكار المخزنة، والذاكرة المضمرة، والعبارات المسكوكة، والصيغ المأثورة، والحقول المعرفية ، وذلك عبر قنوات الامتصاص، والاستفادة، والحوار، والتفاعل النصي.
ويعد مصطفى لغتيري من القصاصين الذين يصدرون عن رؤية ذهنية ثقافية، يتحكم فيها التناص بشكل كبير ، وذلك من خلال توظيف مجموعة من الإحالات المعرفية التناصية، التي تتمظهر في المؤشرات والمستنسخات التالية: أبو العلاء المعري، والكوميديا الإلهية، وبورخيس، ورسالة الغفران، وفان كوخ، ودانتي، والمعري، وسارتر، وسيمون دي بوفوار، وزرادشت، ونيتشه، وبشار بن برد، وجورج واشنطن...
المبحث الثالث: المعيار البلاغي:
* مقياس الأنسنة:
تنبني القصة القصيرة جدا على أنسنة الأشياء والجماد والحيوانات، تشخيصا واستعارة ومفارقة وامتساخا. فتتحول الحيوانات التي تتضمنها القصص القصيرة جدا إلى أقنعة بشرية رمزية، تحمل دلالات إنسانية معبرة. والآتي، أنها بمثابة عوامل سيميائية فاعلة في مسار القصة، وذلك بأبعادها الإحالية والمرجعية والرمزية.
وهكذا، تتجاوز القصص القصيرة التي يكتبها مصطفى لغتيري الكتابة الحرفية التقريرية المباشرة، ويستعمل بدلا منها لغة التشخيص الاستعاري، والمجاز المؤنسن الإحيائي، والتشبيه المفسر، والانزياح البلاغي، وخطاب الترميز ، من أجل خلق لغة إيحائية شاعرية مؤثرة، قائمة على خلخلة المحور الاستبدالي في تقاطعه مع المحور النحوي. ومن ثم، يبحث الكاتب عن الوظيفة الشعرية ، والمحكي الشاعري، لتقريب القصة من الشعر، ومن الخطابات القائمة على لغة المشابهة والمجاورة.
ومن الأمثلة النصية على الخطاب البلاغي المنزاح الذي يطفح بالشاعرية المفلقة، والأنسنة الاستعارية، نصه:" غيمة":
" من أعماق المحيط، انطلقت غيمة داكنة، تبحث عن مكان يستحق ماءها... تواطأت الريح معها، فسحبتها نحو اليابسة.
فجأة لمحت الغيمة قطعة أرض يابسة، قد علا الاصفرار ذؤابات نباتاتها... مبتهجة هرولت الغيمة نحوها، عازمة على ريها...
حين أشرفت عليها...جاهدة حاولت سقيها.. لكنها متأسفة اكتشفت أن طول الرحلة أنهكها، فأضحت سحابة عجفاء شاحبة."[6]
هذا، وتتحول الحيوانات في القصص الفانطاستيكية إلى أقنعة رمزية قائمة على الأنسنة، والتشخيص الاستعاري، والمفارقة الرمزية الموحية ، كما في قصص السعدية باحدة التي تثور فيها على واقعها البشري المنبطح، الذي انحطت فيه القيم الأصيلة، واندثرت وجوديا، وتحول فيه الكائن الإنساني إلى حيوانات لادغة، فامتسخ فيه امتساخ الدناءة والحقارة، كما في قصة:"عقارب"، وقصة:" أين المفر؟"، وقصة: "خيبة"، وقصة:"نزعة قردية"، وقصة: "قارض" التي تتحول فيها الكائنات الآدمية إلى فصيلة القوارض الجشعة:
" هو جرذ من فصيلة القوارض، أصيب بالنهم...أخذ
يقرض...يهرش...يقضم...ينهش...
يقرض ليل نهار، خوفا أن تطول أسنانه، فتصير أكبر
من هيئته، إلى أن أصيب بالغثيان، صار يتقيأ على
موائد الجماعات والجمعيات والتجمعات...
ولا يزال يقرض...ينهش...يقصم... يهرش... إلى أن أصيب بالإسهال...
هو الآن يمارس إفراغ حمولته في مراحض الإذاعات
الشاشات والساحات العمومية...لكي يظل يقرض...
يهرش...يقضم....ينهش...فهو جرذ من فصيلة القوارض
...أصيب بالنهم...أخذ يقرض...."[7]
وعليه، فالأنسنة ، كما يرى الكثير من الدارسين ونقاد القصة القصيرة جدا ، من الشروط المميزة لهذا الفن السردي الجديد، أو المستحدث في ساحتنا الثقافية العربية.
* مقياس الترميز:
من المعلوم أن القصة القصيرة جدا تشترك مع باقي الأجناس الأدبية في خاصية الترميز، وتحول لغة القصة ومعاجمها السردية إلى دوال رمزية، وأقنعة سيميائية ، وإحالات دالة، ومؤشرات نصية مفتوحة.
وهكذا، تتسم قصص مصطفى لغتيري- مثلا- بالخاصية الرمزية التجريدية ، وذلك عبر استخدام لغة العلامات ، والإشارات السيميائية، والدوال الموحية الحبلى بالمدلولات المنطوقة، التي تستنبط عبر سياقاتها اللغوية والنصية والذهنية، وتستكشف عبر صورها البلاغية القصيرة جدا.
وإليكم نصا قصصيا طافحا بالرمزية التجريدية، والانبطاح البشري، والامتساخ الحيواني الدال على انهيار القيم الأصيلة، وتساقط المثل العليا في العالم البشري المنحط، كما في قصة: " قرار" :" كان كلبا أنيقا معتزا بذاته... لمح ذات صباح كلبة جميلة، فوقع في حبها..طاردها مدة طويلة، دون أن يقضي منها وطره.
ذات مساء، رأى الكلبة تجامع كلبا بشكل فاضح... اغتم، فقرر، منذ ذلك الحين، أن يصبح ناسكا."[8]
فالحيوانات المذكورة في هذه القصة القصيرة جدا ماهي في الحقيقة سوى أقنعة رمزية، تحيل على الكائنات الآدمية الممتسخة ، كما تحيل أيضا على الذوات البشرية الكلبية التي أصبحت ، وذلك عبر أفعالها المشينة، مخلوقات حيوانية جحيمية ملعونة .
وقد تتنوع الرموز في القصة القصيرة جدا إلى رموز طبيعية، ورموز فنية، ورموز فانطاستيكية ، ورموز مكانية ، ورموز لغوية، ورموز تاريخية، ورموز أسطورية، ورموز صوفية، ورموز أيقونية، ورموز سيميائية.
* مقياس الانزياح:
يعتبر الانزياح من أهم شروط القصة القصيرة جدا ، و تشترك فيه مع باقي الأجناس الأدبية، كالقصة القصيرة والرواية والشعر والمسرح. وغالبا ما يتشخص الانزياح في خلخلة التركيب والمعنى، وتدمير الدلالة المنطقية ، و الخروج عن معايير التفضية البصرية المألوفة، مع تخريب الانسجام الإيقاعي.
وهكذا، نجد كاتب القصة القصيرة جدا يشغل أحيانا جملا مركبة تركيبا مألوفا، يحترم الرتبة النحوية، بيد أنه تارة أخرى يخلخل الرتبة، ويوظفها بطريقة شاعرية انزياحية، يتقدم فيها الحال عن الفعل، أو الاسم عن الفعل، أو شبه جملة عن الفعل ، قصد تحقيق الوظيفة الشعرية السردية، واستحصال التخصيص الدلالي، و خلق التبئير الموضوعي، كما في الأمثلة التالية:
- مخمورا دخل الطفل إلى الفصل؛
- وفي أذن الطفل همست حنان؛
- يقينا أنني كنت أحلم.
ويخضع مصطفى لغتيري أيضا جمله لخاصية الانزياح النحوي، وتخريب رتبة الجملة تقديما وتأخيرا ، كما في قصة " وحدة ":
" وحيدا ظل العصفور في القفص.. كئيبا لا يسمع له صوت...فكر الرجل ، فاشترى له عصفورة تؤنسه..
حين حلت الضيفة الجديدة، أصبح العصفور نشيطا، لايتوقف عن الحركة، وامتلأ البيت بوصوصاته المسترسلة..
حين حلت الضيفة الجديدة، أصبح العصفور نشيطا، لايتوقف عن الحركة، وامتلأ البيت بوصوصاته المسترسلة..
صباحا تأمل الرجل العصفورين، فرأى منظرا بديعا، أدهشه...
لحظتها فقط، أحس بأنه وحيد بشكل فظيع."[9]
ومن الشواهد النصية التي تبين هيمنة الجمل البسيطة في القصيرة جدا قصة :"الموت":"
على هيئة رجل ، تقدم الموت نحو شاب، يقتعد كرسيا على قارعة الطريق...جلس بجانبه، ثم ما لبث أن سأله:
- هل تخاف الموت؟
- واثقا من نفسه، أجاب الشاب:
- لا، أبدا، إن لم يمت المرء اليوم، قطعا سيموت غدا.
بهدوء أردف الموت:
- أنا الموت... جئت لآخذك.
ارتعب الشاب...انتفض هاربا...لم ينتبه إلى سيارة قادمة بسرعة مجنونة، فدهسته".[10]
وعلى أي، فالانزياح من أهم شروط القصة القصيرة جدا، ومن أهم خاصياته العرضية، وبه تحقق لنفسها الثراء الإبداعي والشاعرية الحقة ، وروعة التلقي والتقبل.
* مقياس الفانطاستيك:
يعد الفانطاستيك من أهم سمات القصة القصيرة جدا، ومن أهم شروطها الخارجية . والآتي، أنه ينبني على العجيب والغريب على حد سواء. وقد يثير الفانطاستيك الخوف والاستغراب أو الإعجاب والاندهاش.
وهكذا، تشغل القصة القصيرة جدا عند مصطفى لغتيري خاصية الفانطاستيك، وذلك من خلال التأرجح بين الغريب والعجيب،واستعمال خطاب التحولات الخارقة التي تعبر عن تداخل الوعي واللاوعي، وتنافر الواقع واللاواقع، والمألوف واللامألوف، لتشبيك عالم الغرابة والفانتازيا، والتدليل على الامتساخ البشري والحيواني، والإشهاد على انبطاح الإنسان أخلاقيا، وتأكيد انحطاط، المجتمع البشري، الذي علبته القيم الكمية والمعايير الرقمية والمادية. يقول مصطفى لغتيري في قصته:" تقمص: "
أبدا لم تنطل حيلة الرداء الأحمر على الثور...
أمام اندهاش الجميع، قصد المصارع، وأصابه إصابة قاتلة...
كان الثور يتقمص روح خفاش، قادر على تحديد أهدافه، بالتقاط الذبذبات".[11]
تصور هذه القصة وحشية الإنسان، وتحوله من كائن آدمي إلى مجرم ، يسفك دماء المخلوقات الضعيفة ، دون شفقة ولا رحمة، ليتلذذ بانتصاره الوهمي الزائف.
*مقياس الإيحاء:
تتسم مجموعة من القصص القصيرة جدا بخاصية الشاعرية ، وبلاغة الإيحاء، ولغة المجاز والتغريب. وترد القصص في شكل قصائد نثرية ، سماها البعض " أقصودة"؛ لأنها تجمع بين المحكي السردي والخطاب الشعري المتوهج. وقد ترد الإيحائية البلاغية عبر أسطر شعرية موحية ومعبرة، تذكرنا بقصيدة النثر:
"اقتلعوا ضرسه وعلموه كيف يأكل بعينيه....
اقتلعوا لسانه وعلموه كيف يكلم الناس رمزا...
لكنهم أبقوا على شفتيه...ليقبل يد الرئيس..."[12]
تشبه هذه الطريقة في الكتابة تلك القصيدة الشعرية المنثورة الموحية برموزها المنفتحة ، وشاعريتها الخلاقة ، ووظيفتها الشعرية التي يتقاطع فيها المحور الاستبدالي والمحور التركيبي.
وبناء على ماسبق، تعتبر مجموعة سعيد بوكرامي:" الهنيهة الفقيرة" زاخرة بالإيحاء الشاعري، ونابضة بالصور القصصية الحبلى بمتعة الإبداع الشعري الرائع.
* مقياس الغموض:
تميل بعض القصص القصيرة جدا إلى تشغيل خاصية الغموض الفني، والتغريب الإبداعي إلى درجة قصوى ، من أجل خلخلة عملية التقبل لدى المتلقي العادي، وإرباك مفاهيمه الجمالية المألوفة، واستبدالها بمفاهيم أكثر حداثة و جدة وجرأة.
ومن النماذج التي تجسد غموض الكتابة القصصية القصيرة جدا مانلفيه عند: سعيد بوكرامي ، من حيث التباس علاماته السردية، وتوغلها في التجريد والرمزية الموحية ، والمنفتحة على عوالم نصية ممكنة، من الصعب الإحاطة بها ، وتطويقها دلاليا ومقصديا، كما يتجلى ذلك بينا في قصة:" النحل" لسعيد بوكرامي:" كانوا ثلاثة ورابعهم النحل
تحدثوا عن البحر عن الهجرة وعن الصمت
قطرات صغيرة تلتقي في الليل
لأن الربيع مات ولأن الأزهار ماتت
جاء النحل إلى دخان المقاهي إلى طاولات الموت
يحدق فيها بيأس، يختار عنق الزجاجة وينتحر"[13]
وهكذا، تعتمد مرحلة التجريب في القصة القصيرة جدا على خلخلة النسق السردي الكلاسيكي التقليدي ، والانتقال من الإيقاع الكرونولوجي التعاقبي نحو كتابة شعرية رمزية إيحائية، تجمع بين بين الأجناس الأدبية، وتوظيف الغموض، وتشغيل الانزياح السردي الحداثي.
زد على ذلك،تتسم قصص مصطفى لغتيري بالرمزية والتجريد في التشكيل اللغوي والدلالي؛ مما أوقع الكثير من قصصه في الغموض، الذي يثير صعوبات ذهنية متعددة على مستوى التقبل؛ بسبب الانزياح الذهني ، وكثرة الإضمار الدلالي، وإيحائية المستنسخات، وتشعب الإحالات التناصية، كما يظهر ذلك في قصة "الخطيئة"، التي تشير إلى خوف الطبيعة من الإنسان الذي لا يعرف سوى العنف والإجرام، وارتكاب الأخطاء في حق البراءة والطفولة والطبيعة، وتدمير المكان:"
بخطى واثقة، توجه " نيوتن" نحو شجرة...
توقف تحتها، وطفق يتأمل ثمارها...
أحست تفاحة بوجوده فارتعبت...
ألقي في روعها أنه آدم يوشك، ثانية، أن يرتكب فعل الخطيئة...
حين طال مكوثه، انتفضت التفاحة فزعة، فانكسرت سويقها...
هوت على الأرض، واستقرت هامدة بالقرب من قدميه".[14].
وتبلغ الرمزية منتهاها عندما يلتجئ الكاتب إلى التفلسف والتجريد الذهني، كما في قصة "المرآة"، التي تعبر عن الفراغ والخواء الإنساني، وانقلاب المواضعات الزمكانية، وتغير الإنسان، وتعدد وجوهه في صور مفارقة متعددة ومتناقضة. ومن ثم، صارت المرآة تشكو من الإنسان الذي تغير، ولم يعد على صورته الحقيقية، فبدأت ترى في وجهها البشاعة، والقبح الآدمي ، والزيف البشري. أي: إنها تعلن موت الإنسان الذي تشيأ بفعل غياب القيم الكيفية، ورجحان القيم التبادلية الكمية والمادية:"
حين تطلعت إلى المرآة، لتتأمل وجهك فيها، أذهلك فراغها. مرتبكا تقهقرت إلى الوراء، فركت عينيك جيدا. من جديد حملقت في صفحتها الصقيلة. بصلف تمدد الخواء أمامك.
بعد هنيهة، تبينت حقيقة الأمر: المرآة كانت تتأمل وجهها فيك".[15]
وهكذا، نستنتج أن الغموض مقوما ثانويا من مقومات القصة القصيرة جدا، وتشترك فيه مع باقي الأجناس الأدبية الأخرى.
* مقياس التجريد:
يعد التجريد من أهم خاصيات القصة القصيرة جدا، وينتج عن تجاوز الواقع نحو اللاواقع، وخلخلة المقاييس العقلية المألوفة بمقاييس أكثر غرابة وانتهاكا.
ويعتبر سعيد بوكرامي من أهم كتاب القصة القصيرة جدا الذين نحوا منحى تجديديا ، وذلك بتخريب النسق السردي الكلاسيكي ، وتشغيل خاصية الاستعارة والتشخيص البلاغي. ويعمد الكاتب ، بعد ذلك، إلى استخدام التجريد بكثرة، من خلال تشغيل الرموز الموحية، واستخدام اللغة الشعرية الزئبقية التي تنفلت من كل مواضعات الاصطلاح، حتى إن نصوص الكاتب تتحول إلى لوحات تشكيلية بصرية مجردة ، تختلط فيها الألوان الباردة مع الألوان الحارة. ومن هنا، يبدو الكاتب في مجموعته المتميزة الرائعة" الهنيهة الفقيرة" شاعرا مبدعا، وقصاصا محنكا، ورساما متمكنا من أدواته الفنية والجمالية، يحسن التعبير والتشخيص والتلوين ، وتكثيف الانفعالات، وتجسيدها بجمل وصفية مقتضبة موحية مقتصدة، وذلك في لسعاتها التعبيرية ولدغاتها الفنية.
المبحث الرابع: معيار التخطيب:
* مقياس الأسلبة:
من أهم مقومات القصة القصيرة جدا تنويع أساليبها السردية، ومستوياتها اللغوية، وسجلاتها الكلامية والتلفظية ، والانتقال من الإخبار إلى الإنشاء، واستثمار نظريات الحجاج ونظريات أفعال الكلام ، والاسترشاد بالقدرات التداولية الإنجازية ، وذلك عن طريق تشغيل الجمل الإنشائية الطلبية وغير الطلبية، والاعتناء بالخطاب المسرود ، والخطاب المعروض، والخطاب المذوت.
ويستحسن أن يتفادى الكاتب الأساليب التقريرية المباشرة، والكتابات السطحية الفجة، ويستبدل ذلك بأساليب رمزية انزياحية نابضة بالخرق والشاعرية والإيحاء.
وغالبا مانجد كاتب القصة القصيرة جدا يهجن أساليبه السردية، منتقلا من السرد إلى الحوار ، ومن الحوار إلى المناجاة الداخلية، كما ينتقل من الأسلوب السامي إلى الأسلوب العامي المنحط الدوني، الذي يختلط بألفاظ سوقية وأساليب عامية شعبية، مع الإكثار من صيغ القدح، والباروديا، والمحاكاة الساخرة، وألفاظ الجنس، ودوال الجسد والعهارة، كما في قصة ( خنز) ، و(السوليما) في مجموعة" الكرسي الأزرق" لعبد الله المتقي.
ويستعمل حسن برطال في مجموعته القصصية " أبراج" لغة شعبية مهجنة، وملقحة بالفصحى، والدارجة المغربية، والعامية المفرنسة، والإسبانية الممغربة (البوكاديوس). ويعبر هذا التداخل اللغوي المختلط عن تعدد الفئات الاجتماعية ، والتراتبية الطبقية، والتهجين الواقعي في المجتمع المغربي . كما يحيل هذا التهجين على الصراع الطبقي، والتمايز الاجتماعي الذي يتميز بالتضارب بين مصالح الفقراء والأغنياء. كما يجسد التهجين اللغوي مواقع السخرية، والوضعية الطبقية المتفاوتة، ويرصد أيضا القيم الإنسانية، كما في هذه القصة:" تزوج برائحة الشحمة في الساطور...فسكن الـگرنة ولازمته الكلاب" [16].
وتدل اللغة في هذه القصة القصيرة جدا على طبيعة الوضع الاجتماعي، وتدني الإنسان في قاع القيم المنحطة:" كان بياض الثلج عاجزا عن تبيض قلبه...وبقع الطلاء الأبيض كذلك...
قلب أسود ووجه أسود كان فأل شؤم على كل من يقابله صباحا
كل الصباغين جاد الله عليهم ب"بريكولات" إلا هو..فرغ
المكان من حوله، التفت يمينا وشمالا حمل سطله المعوج وسلمه الأعرج
ثم غادر" الموقف" ". [17]
وعليه، فالأسلبة من مظاهر بوليفونية القصة القصيرة جدا ، ومن أهم طرائقها السردية الرئيسة ، وتشترك فيها مع باقي الأجناس الأدبية الأخرى.
* مقياس التبئير السردي:
من المعروف أن كاتب القصة القصيرة جدا يشغل المنظور السردي تنويعا ورصدا وتصويرا، كما يشغله الآخرون في الفنون السردية الأخرى، فينتقل من الرؤية من الخلف إلى الرؤية " مع"، ثم إلى الرؤية من الخارج.
وعلى أي ، تستخدم أغلب القصص القصيرة جدا الرؤية من الخلف، وضمير الغياب بكثرة ، من أجل الالتزام بالحياد والموضوعية في نقل الأحداث الخارجية، وتصوير المشاعر الداخلية. ويسمي جيرار جنيت هذه الرؤية السردية بدرجة الصفر في الكتابة. وهنا، ينزل الكاتب منزلة الحياد الموضوعي ، ويأبى التدخل داخل عالم القصة، بل يكتفي بالوصف، مقتصرا على نقل الأحداث تعليقا وتقويما وتصويرا وتنسيقا، وذلك من خلال فعل السخرية، والتنكيت الملغز.
ومن الأمثلة الدالة على هذا المنظور السردي الذي يعتمد على المعرفة المطلقة قصة:( درجة الصفر في الكتابة) لعز الدين الماعزي:" في غرفته وجد نفسه وحيدا ...باردا...
كانت الطفلة تعزف على بيانو...
أسند ظهره للحائط وبدأ يستمع، رأسه يدور...
كان واضحا أن الموسيقى حركت وجدانه،ذكرياته، هي دائما هكذا تسمعه جديد الأنغام الشجية، أحس بذاته تمتلئ إلى درجة أنه فكر في كتابة مواضيع...,طرح أسئلة...بهدوء تام وحذر أخذ القلم وبدأ يكتب...".[18]
وعلى العموم، فالمنظور السردي يعتبر مقياسا أساسيا في عملية تخطيب القصة القصيرة جدا، وتحبيكها مكانيا وزمانيا.
* مقياس الالتفات:
يلاحظ المتتبع للقصة القصيرة جدا هيمنة ظاهرة الالتفات بشكل لافت ، وذلك من خلال تنويع الضمائر تكلما وتخاطبا وغيابا . ويعبر الالتفات الضمائري عن اختلاف مستويات الرصد الشخوصي ، وطبيعة التفاعل بين الأصوات المتحاورة في القصة القصيرة جدا. وهكذا، تنتقل الكاتبة السعدية باحدة من ضمير الغياب إلى ضمير المخاطب، ومن ضمير المخاطب إلى ضمير الغياب. بيد أن الالتفات الغيابي هو المهيمن في مجموعتها القصصية: " وقع امتداده...ورحل"":
" فيما مضى، كنت تمارس لعبتك المفضلة
في التزحلق فوق الكلمات
الآن...
صارت الكلمات تمارس لعبتها في
التزحلق من رأسك"[19]
ويبدو أن الالتفات البلاغي من أهم مقاييس معيار التخطيب السردي لمعرفة وجهة الأصوات الساردة أو المتحاورة.
المبحث السادس: المعيار الدلالي:
على الرغم من قصر حجم القصة القصيرة جدا، فإنها قادرة على رصد القضايا الجادة والمصيرية ، وطرح الأسئلة الكبيرة، كما يقول نجيب العوفي في مقال بعنوان:" القصة القصيرة والأسئلة الكبيرة"[20]، إذ تناولت في مسارها قضايا اجتماعية واقتصادية وثقافية وسياسية ومحلية وجهوية ووطنية وقومية وإنسانية، علاوة على مناقشتها لقضايا الذات والواقع الموضوعي، والتركيز على القضايا الشائكة كالعولمة والحروب وواقع المهمشين واللاجئين والمشردين، وتصوير الصراع العربي الإسرائيلي، ورصد الاستبداد في علاقته بالعدالة الاجتماعية ومنظمة حقوق الإنسان، وتصوير جدلية الذكورة والأنوثة، وتجسيد أزمات العالم، وتشخيص أدوائه، وطرح مقاربات العلاج، والانفتاح على العالم الرقمي، والتقاط صور الامتساخ البشري ، والإشهاد على استلاب الإنسان قيميا وحضاريا وأخلاقيا ووجوديا.
ومن ثم، ينبني المعيار الدلالي على مجموعة من المحكات والمقاييس التي يمكن الاستعانة بها، وذلك من أجل بناء القصة القصيرة جدا، ومن هذه المقاييس الدلالية ، نذكر:
* مقياس التشخيص:
على الرغم من كون القصة القصيرة صغيرة الحجم ، فإنها تطرح أسئلة كبرى جادة وجدية ومصيرية وهامة. لذا، يمكن الحديث عن أنواع ثلاثة من التشخيص:
- التشخيص الذاتي:
من أهم مميزات القصة القصيرة جدا على المستوى الدلالي أنها تعنى بتشخيص الذات الإنسانية سواء أتعلق ذلك بذات المبدع أم بالذات الغيرية تشخيصا إيجابيا وسلبيا. و في الغالب ، كانت تنقل لنا الذات في انكسارها وانبطاحها وذوبانها وجوديا وثقافيا وحضاريا وقيميا وأخلاقيا. كما صورت لنا الذات، وهي تتصارع مع نفسها تمزقا وتآكلا وانهيارا ، وصورتها لنا أيضا، وهي تتصارع مع الواقع الموضوعي في تناقضاته الجدلية.
هذا، وقد عكست القصة القصيرة جدا سيزيفية الإنسان، وعذابه التراجيدي، وسقوطه المأساوي، وانتظاره اللامعقول. فتعددت الرؤى الفلسفية تجاه الذات التي أصبحت مرقمة، كما عند فاطمة بوزيان في مجموعتها:" ميرندا"، أو ذاتا ممتسخة كما في مجموعة:" وقع امتداده ... ورحل" ، أو ذاتا منهزمة متقاعسة عن النضال والجهاد والكفاح، كما عند وفاء الحمري في مجموعتها:" بالأحمر الفاني"، و الحسين زروق في مجموعته: " الخيل والليل". وصارت أيضا ذاتا اجتماعية محبطة، كما في مجموعة:" عندما يومض البرق" للزهرة رميج، أو ذاتا متحجرة افتقدت إنسانيتها ، كما عند عبد الحميد الغرباوي في مجموعته القصصية: "أكواريوم"، أو ذاتا شبقية،كما عند هشام بن الشاوي في مجموعته :" بيت لاتفتح نوافذه" ، و عبد الله المتقي في مجموعته: " الكرسي الأزرق"، أو ذاتا شعبية مهشمة، كما عند حسن برطال في مجموعته " أبراج"، أو ذاتا فقدت براءتها وطفولتها ، كما عند عزالدين الماعزي في مجموعته:" حب على طريقة الكبار"، أو ذاتا تعاني من التضخم الذهني،كما في مجموعة مصطفى لغتيري:" مظلة في قبر"...
- التشخيص الموضوعي:
تناولت القصة القصيرة جدا مجموعة من القضايا الموضوعية الجادة، كالقضايا المحلية ، والقضايا الجهوية، والقضايا الوطنية، والقضايا القومية التي تتعلق بمشاكل الأمة، كما تناولت هذه القصة الجديدة قضايا كونية، وعالمية، وإنسانية ، وبيئية. كما حملت هذه القصص رؤى رومانسية، وعبثية، وإسلامية.
هذا، وقد عبرت هذه القصص المستحدثة عن مجموعة من القيم الإنسانية السلبية والإيجابية ، وذلك من خلال رؤى فلسفية تختلف من مبدع إلى آخر.
ومن أهم القضايا الكونية التي شخصتها القصة القصيرة جدا ظاهرة العولمة التي أصبحت امتساخا حضريا وأخلاقيا . وهكذا، نجد الكاتبة المغربية فاطمة بوزيان ، وذلك في آخر مجموعتها :" ميريندا"، تثور صارخة على العولمة التي غيرت مجموعة من القيم الاجتماعية والأخلاقية في مجتمعنا العربي؛ فألقت شبابنا بين أحضان التغريب، والانبهار، والاستلاب ، والتقليد الأعمى للغرب في القشور السطحية، والموضات التافهة ، والتقليعات الشكلية ، دون تفكير أو روية:
" كلما هم بالكتابة تكسر الطباشير أو أصدر صريرا يقشعر له ما تبقى في رأسه من شعر...اغتاظ والتفت إلى يمينه قائلا:
- اتفو، في زمن العولمة يسلموننا أرخص طبشور!
أتم كتابة الدرس بصعوبة... التفت إلى تلاميذه وجد الذكور يلعبون بأقراط آذانهم والإناث مشغولات بأقراط سراتهن..التفت إلى يساره وبصق على العولمة."[21]
هذا، وقد خصص الحسين زروق مجموعته القصصية " الخيل والليل" بالتنديد الهجائي بويلات الحرب تخطيبا وتمطيطا ، وذلك من خلال استحضار مآسي واقع الأمة العربية الإسلامية ، الذي يئن من وطأة الاستعمار، ويتألم من بطش الغطرسة الصهيونية، ويعاني من تشريد الشعب الفلسطيني، ومن تمزق العرب إربا إربا كما في هذه القصة:
" الابن: أماه أين أبي؟
الأم: مسافر ياولدي.
الابن: ومتى سيعود أماه؟
الأم: لاأدري ياولدي.
وبعد شهور...ومع استمرار الحرب.
الابن: أماه لماذا لم يعد أبي؟
الأم: لاأدري ياولدي.
بعد سنة...والحرب تزداد شراستها...
الابن: لماذا لانسافر أيضا يا أماه؟
الأم: ربما نفعل يا ولدي.
الابن: ومتى يا أماه؟
الأم: لا أدري يا ولدي.
وفي أول غارة كان القصد منها شل الحركة الطبيعية للأحياء سافر الابن ولم تضع الأم مزيدا من الوقت... بل سارعت لشراء تذكرة سفر... صارت تملك بندقية"[22]
ويلاحظ أن الكاتبة المغربية وفاء الحمري في أضمومتها القصصية تنبع من مستند قومي إنساني، حيث تتعاطف مع القضية الفلسطينية تعاطفا وجدانيا وانفعاليا وأخلاقيا، فتلتقط تفاصيل الحياة اليومية للإنسان الفلسطيني ، ثم تنقل لنا ما يمارس ضده من حروب وحشية ومجازر همجية ، وذلك باسم الاحتلال والتنكيل والإقصاء، كما في قصة"أنقاض" [23].
كما تصور لنا الكاتبة بريشتها المختزلة مشاهد الطفولة المغتصبة، فتعكس لنا الموت الفلسطيني المترنح؛ بسبب كثرة القتلى، وتكدس جثث ضحايا الاستشهاد ، كالأكوام المفعمة بالمأساة والتراجيديا القاتلة، التي تتجادل فيها ثنائية الأرض والسماء، أو ثنائية الدنيا والآخرة:
" جلس شيخ على ربوة من أنقاض بعد انفجار صاروخ...
مر به صبي...
أين أهلك ياعمي؟
هنا تحت
وأهلك يا صغيري؟
هناك فوق في السماء
نظر إلى بعضهما البعض بأسى
وبقي السؤال الآخر معلقا بين السماء والأرض"[24]
وعليه، فقد تناولت القصة القصيرة جدا كل المواضيع اليومية، بمافيها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية ، كما ركزت أيضا على المواضيع المحلية والجهوية والوطنية والقومية والإنسانية والكونية.
ومن ثم، فقد اكتفت بعض القصص القصيرة جدا بالوصف، وتشخيص الأدواء والعيوب والنواقص، بينما غدت أخرى لتقدم حلولا، فكان تطبيقها يتراوح بين الكائن والممكن والمستحيل.
- التشخيص الميتاسردي:
لم تكتف القصة القصيرة جدا بتشخيص الذات والواقع فقط، بل شخصت كينونتها الفنية والجمالية ، وذلك من خلال طرح أسئلة جوهرية وميتاسردية، تتعلق بدواعي انكتابها، وطرائق إبداعها، ووظيفتها في المجتمع ، والبحث عن ماهيتها النظرية والتطبيقية ، ورسالتها في الحياة. أي: إن القصة القصيرة جدا بدأت أيضا تفكر في نفسها ، وذلك على غرار الأجناس الأدبية والفنون الأخرى، كالرومانيسك بالنسبة للرواية ، والميتاقصة بالنسبة للقصة القصيرة، والميتامسرح بالنسبة للمسرح ، والسينما داخل السينما. واليوم ، أصبحنا نتحدث عن قصصية القصة القصيرة جدا أو الميتاميكروسردي.
وإليكم بعض النماذج التي رصدت فيها القصة القصيرة جدا نفسها، ووضعية انكتابها ، وكيفية تقبلها من الذات المبدعة والذات القارئة. يقول حسن البقالي في قصته:" دمى روسية":
" لاشك أن الأمر يتعلق بانتهاك فادح لروح الإبداع ، أن أسود الصفحات، لالشيىء، إلا لأن الناشر ينتظر مني العمل الجديد الذي وعدت به في لحظة حماسة زائدة.
لذلك، وعوض الخمسمائة صفحة الموعودة، سأكتفي برواية من مائة صفحة، بل بقصة قصيرة من ثلاث صفحات، وفي النهاية، لم لا أحصر اهتمامي في قصة قصيرة جدا من سطر واحد تكون كالتالي:
" أخيرا...كتبت قصة قصيرة جدا".[25]
ونورد في هذا الصدد نموذجا آخر لفاطمة بوزيان بعنوان:" قصص قصيرة جدا"، فيه سخرية ، ومفارقة إبداعية، ورمزية موحية:
" قرأت عليهما كل ذلك
قال:
- إنها تشبه بوكاديوس
قالت:
- تشبه النسكافيه
قال:
- تشبه الكليبات
قالت:
- تشبه
قلت
- نسميها ميريندا ونرتاح"[26]
ومن هنا، نجد أن القصة القصيرة جدا قد شخصت الذات الإنسانية في آلامها وآمالها، كما شخصت الواقع في سلبياته وإيجابياته، ولم تنس أن تشخص مكوناتها الفنية والجمالية نقدا و تساؤلا على المستوى الميتاسردي.
2- مقياس الجرأة:
تتميز القصة القصيرة جدا بخاصية الجرأة في تناول المواضيع المحرمة، كالتقاط المواضيع الجنسية ، وتكسير الطابوهات الدينية والأخلاقية والسياسية والاجتماعية. أي: بدأ هذا الفن المستحدث يتغلغل في خبايا الذات الإنسانية شعوريا ولاشعوريا ، من أجل تشخيص المكبوتات، وتعرية الجسد . كما استطاعت هذه الكبسولة الجديدة فضح السياسة المطلقة لحكام هذا الزمان،فوقفت في وجه الذين يستغلون الدين نفاقا ورياء وتخديرا، كما سلطت ريشتها الإبداعية على كل المشاكل الواقعية التي عاشها الإنسان في تفاصيلها الجزئية.
وهكذا، نجد الكاتب المغربي هشام بن الشاوي يستهل أضمومته السردية الجديدة :" بيت لاتفتح نوافذه..." ، باستدعاء مجموعة من المشاهد الإيروسية التي تعبر عن ذكريات السارد الغرامية ومغامراته الماجنة مع الجنس الآخر، فيلتقط الراوي صورة عشيقته الولهانة بشعره، وحماقاته الإبداعية ؛ مما سيدفع به المآل إلى افتراس صهوتها، والركوب بين أحضانها، لإشباع غرائزه الشعورية واللاشعورية، من أجل إثبات ذاته الوجودية، وفحولته الرجولية: "تحت جنح الظلام، لاحت لي واقفة أمام باب البيت... بتنورتها القصيرة، وأصباغها الفاقعة... جذبتها من يدها، دون أن أنبس بكلمة....
لم أكن أعرف لم لم أكن استلطفها، ولم أفكر في يوم من الأيام أني سأمتطي صهوتها..هي، أول امرأة أدخلها إلى حياتي، وأول امرأة تدخل جحري...
اجتازت عتبة حجرتي، وفي عينيها سرور، وكأنما تدخل معي إلى معبد... فهي الوحيدة في هذا الحي المقبري، التي تعترف بموهبتي، وتقرأ أشعاري...وكم من مرة ضبطتها متلبسة باختلاس النظر إلي، وأنا أكتب حماقاتي، وهي تنشر الغسيل، فإذا التقت نظراتنا، ندت عنها آهة حارقة، وعضت على شفتها السفلى..أهي مغرمة بي؟"[27]
ويبالغ الحسين زروق كثيرا في نقد الأنظمة السياسية المستبدة الجائرة، داعيا إلى استبدالها بالنظام السياسي الإسلامي، ولو أدى الأمر إلى تغييرها بالدعوة إلى الجهاد، والاستشهاد في سبيل الله: "بدأت الحرب...أول المهاجرين كانوا من فئة المثقفين حاملي لواء الكلمة... سخر منهم الشعب...هو كان يعرف أن ثرثرتهم لا تعني شيئا من الشعب وفي غمرة الحرب انبثق مثقفون جدد... صفق الشعب لا لأنهم يستحمون كل يوم ألف مرة ولكن لأنهم يكتبون بالبندقية."[28]
و ينتقد الكاتب أيضا في قصصه القصيرة جدا نظام الحكم الجائر؛ بسبب استبداده، وقمعه للحريات الإنسانية الخاصة والعامة، وتماديه في اغتصاب حقوق المواطن الطبيعية والمكتسبة، وذلك باسم قانون الأهواء والرغبات والمصالح:
" التلميذ: أستاذ...أستاذ...لماذا نرسم الحدود بين دول حضارتنا؟
الأستاذ: لاستنفاذ الأسلاك الشائكة.
التلميذ: ولماذا الأسلاك الشائكة؟
الأستاذ: لأنها تسهم في خلق فرص الشغل.
التلميذ: ولماذا فرص الشغل؟
الأستاذ: حتى لاتقوم الفوضى في البلاد.
التلميذ: ولماذا الفوضى؟
الأستاذ: للإطاحة بالنظام.
التلميذ: ولماذا النظام؟
الأستاذ: لأنها رأس الحربة.
التلميذ: (يفكر ثم يسأل) ألا يمكن كسر هذه الحربة؟
الأستاذ: ( ينظر عن يمينه وعن شماله ويتلعثم) أش ش ش."[29]
وعليه، فالجرأة هي أهم خاصية من خصائص القصة القصيرة جدا، وتنضاف باعتبارها قيمة جمالية إلى المستوى الدلالي.
تلكم-إذاً- أهم الشروط الثانوية التي تنبني عليها القصة القصيرة جدا، وتلكم هي كذلك أهم مقوماتها وتقنياتها الفنية والجمالية التي تحضر وتغيب، وبها تشترك القصة القصيرة جدا مع باقي الأجناس والأنواع الأدبية والأنماط الفنية الأخرى. وقد لاحظنا أن هذه المقومات العرضية تمس الجانب النصي، و التركيبي، والبلاغي، والدلالي، والسردي. وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على مرونة هذا الجنس الأدبي الجديد، وانفتاحه على باقي فروع نظرية الأدب، والاستفادة من كل الفنون والعلوم والمعارف الأخرى بشكل من الأشكال. وبهذا، يكون جنس القصيرة جدا جنس أدبي منفتح بامتياز.
الهوامش:
[1] - البشير الأزمي: الضفة الأخرى، منشورات جمعية تطاون أسمير، الطبعة الأولى سنة2007م.
2 - مصطفى لغتيري:تسونامي، ص:41.
3 - محمد شويكة: القردانية، منشورات وزارة الثقافة، الطبعة الأولى، 2007م، ص:39-40.
4 - سعيد بوكرامي، الهنيهة الفقيرة، منشورات مجموعة البحث في القصة القصيرة بالمغرب، ص:51.
5 - إبراهيم الحجري:استثناء، ص:68.
6- مصطفى لغتيري: تسونامي، ص:58.
7- السعدية باحدة: نفسه، ص:53.
8- مصطفى لغتيري: تسونامي، ص:40.
9 - مصطفى لغتيري:تسونامي، ص:31.
10- مصطفى لغتيري: تسونامي، ص:14.
11- مصطفى لغتيري: تسونامي، ص:28.
12- حسن برطال: أبراج، ص:32.
13- سعيد بوكرامي: الهنيهة الفقيرة، ص:60.
14- مصطفى لغتيري: مظلة في قبر، ص:14.
15- مصطفى لغتيري: مظلة في قبر، ص:15.
16- حسن برطال: أبراج، ص:81.
17- حسن برطال: أبراج، ص:93.
18- عزالدين الماعزي: حب على طريقة الكبار، ص:20.
19- السعدية باحدة: نفسه، ص:21.
20- نجيب العوفي: ظواهر نصية، نشر عيون المقالات، الدار البيضاء، الطبعة الأولى سنة 1992م، صص:115-117.
21- فاطمة بوزيان: ميريندا، ص:60.
22- الحسين زروق: الخيل والليل، مطبعة النور الجديدة، الدار البيضاء، الطبعة الأولى سنة 1996م، ص:7.
23- وفاء الحمري: بالأحمر الفاني، ص:14.
24- وفاء الحمري: نفسه، ص:13.
25- حسن البقالي:الرقص تحت المطر، منشورات سندباد للنشر والإعلام، ، القاهرة، الطبعة الأولى سنة 2009م، ص:5.
26- فاطمة بوزيان: ميريندا، منشورات اتحاد كتاب المغرب، الطبعة الأولى سنة 2008م، ص:61.
27- هشام بن الشاوي: بيت لاتفتح نوافذه، سعد الورزازي للنشر، الرباط، الطبعة الأولى 2007م، ص:5.
28- الحسين زروق: نفسه، ص:13.
29- الحسين زروق: نفسه، ص:57.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق