المشاركات الشائعة

الأحد، 2 نوفمبر 2014


النقد .. نص ثان ٍ ...
الناقد .. مؤلف ثالث للعرض المسرح
د. باسم الأعسم

في ضوء التوصيف المعرفي يمثل النقد المسرحي خطاباً أدبياً وثقافياً ينتج مفاهيمه وإجراءاته ومصطلحاته من جرّاء تماسه المباشر بالفن المسرحي والبنى المجاورة له ، إلى جانب العلوم الإنسانية ، ولاسيما علم الجمال المسرحي ، الذي يعنى بطروحات علم الجمال في الفن على تنوع مستوياته . فضلاً عن ذلك ، أنّ الخطاب النقدي المسرحي يكتسب فرادته عبر توفره على جملة من العلاقات التكوينية والأنظمة التي ينتظم بها كالنظام اللساني والدلالي ، وهما من عناصر الخطاب الرئيسة ، إلى جانب مكوناته وما يحوي من فلسفات وتصورات معرفية وأدوات منهجية نابعة من بنية الخطاب ومرجعياته ، وأن علاقة الناقد بالخطاب النقدي تكون حسب طبيعة الإجراءات والأدوات العقلية والمعايير المستخدمة لتحديد معالم الخطاب النقدي نفسه .
ويعد المستوى التطبيقي من أشد اجراءات خطاب النقد المسرحي قدرة على استجلاء غوامض المنجز الأدبي المتمثل في النص الدرامي ، ومستوياته المتعلقة بالجانب البصري ( العرض المسرحي ) .
وعلى وفق هذا المنظور ، نجد أن وظيفة النقد لاتقف عند حدود الوصف أو التفسير ، بل تتعدى ذلك ، متجلية في التحليل ، والتأويل ، بقصد توليد المعاني المبثوثة في منظومة الخطاب المسرحي (( السمعية والبصرية والحركية )) ومن ثم اكتشاف النظم المتناغمة في خطاب العرض المسرحي ، بوصفه نسقاً رمزياً متحولاً وحافلاً بكمٍّ وافر من العلاقات السيمائية المنبعثة من داخلية خطاب العرض نفسه .
ولاريب أن المهمات الملقاة على عاتق الناقد المسرحي بوصفه منتجاً ثالثاً للعرض المسرحي ، تعد شاقة لاقترانها بالشرط الثقافي والمعرفي ، الذي يمثل المزية التي يتفرد بها الناقد سواء على صعيد المقاربات النقدية التنظيرية أو المعالجات النقدية التطبيقية التي تتصدى للمنجز الفني ( العرض المسرحي ) .
ولعل من أخص اشكاليات النقد المسرحي أنه ( أضحى مباحاً للجميع فولج إلى عوالمه صحفيون توهّموا أنهم أصبحوا نقاداً عبر مقالاتهم الصحفية التي تضم كل شيء ، إلا النقد المسرحي بمفهومه العلمي الأكاديمي الرصين ، فلقد كان الاعتقاد سائداً لدى بعض ممن مارس كتابة التعليقات الصحفية المبتسرة أن النقد المسرحي لا يعدو كونه محض آراء آنوية منفعلة أو مجرد تعليقات صحفية منمقة وفضفاضة تعول على بريق الكلمات وحسن انتقاء اللفظ وحلاوة الأسلوب ) (1) .
لقد أمسى النقد المسرحي – طوال عقود خلت – بشقيه ( التنظيري والتطبيقي ) على هامش الفعالية النقدية الكفء ضمن فضاء الظاهرة المسرحية ، وذلك ، لهيمنة الاشكاليات العديدة التي اعترت الخطاب النقدي ، إذ ( أنّ النقد المسرحي كان يمر بمرحلة (( الطفولة النقدية )) ويصح أن نطلق على هذا الاتجاه ((بالاتجاه التأثري )) العفوي في النقد ، لأنه لم يستند إلى نظرية أو منهج نقدي معين ، فلا شيء سوى الحس التأثري غير المعلل ) .(2)
إنّ الناقد المبدع ، هو من ينتج نصًّا نقدياً خلاقاً لايقل شيئاً عن النص أو العرض المنقود ، نصّاً يفصح عن رؤية ( نقدية تحليلية ) متبصّرة تكشف للمتلقي عما هو مضمر خلف الأنساق المؤسسة لبنية منظومة العرض المسرحي ، بقصد استظهار القيم الفكرية والجمالية التي تبثّها الكتل والتكوينات المتحركة والثابتة ، بحيث ينال استحسان القائمين على العرض والمتلقين على حدّ سواء .

وإذ لم يفهم الناقد طبيعة الديكور ووظائفه في العرض ، وتركيبة الإضاءة وألوانها ، والازياء وخاماتها والموسيقى وتأثيراتها ، فكيف يتسنى له فهم حيثيات العرض وقراءته نقدياً وجمالياً ؟
من هنا (( تبرز أهمية الحاجة إلى وجود ناقد فني متخصص ، مثقف الحواس ، يمتلك رؤياه وحساسيته الخاصة إزاء العرض المسرحي ، وأن يستجيب لمحتويات العرض ويتعرف على صفاته الفنية والجمالية ليكشف عن مواطن قوتها وضعفها صوب تقويمها نقدياً وفنياً ))(3) .

أما الآراء الذاتية لاتعدو كونها انطباعات خاصة ، قد تنفع في الكشف عن مزاج الناقد ، ولكنها لاتفيد في تبيان جوهر القيمة الفنية والجمالية في العرض المسرحي .
لذلك ، فإن مشاهدة العرض المسرحي كما هو ، والبحث عن جميع تقنياته الباطنة والظاهرة ، يمثل في جوهره البحث عن العرض نفسه ، بوصفه عملاً فنياً ، ومقترحاً جمالياً ، لاينتج بحسب النوايا والإدعاءات الجوفاء ، بل ينتج بالرؤى الحداثية المختلفة والمقاربات التجديدية المغايرة لما هو مألوف .

ولعل (( غياب النقد الأكاديمي ، يسهل الوقوع في وهم نقدي سائد ، مؤداه : ( تعجبني الطريقة الإخراجية هذه ، ولا تعجبني تلك !! ) وهذا مسرح وذاك لا ، بلا أدنى محاولة للدفاع عن تلك الأحكام الجزافية )) (4)
إن جملاً مبتسرة جداً على وفق الكلائش الآتية : ( وقد كان جعفر موفقاً في توزيع أدوار المسرحية ، أو أن المسرحية استطاعت إبراز الشكل الذي أراد لها المخرج أو كان التمثيل بديعاً جداً .. أو قول أحدهم : شاهدوا المسرحية وعلى مسؤوليتي .. أو المسرحية جيدة والتمثيل جيد ، لكن النحو ردىء .

ونقرأ النقد الآتي : ( لقد شكل سامي وسعاد وسليمة وطعمة رباعياً مؤثراً ومتناغماً فقدموا لنا ( برتقالة مرة شديدة المرارة ، لكنها تحمل ( نكهة طيبة ) .. الخ .
إن الكتابة عند الإخراج أو التمثيل بحسب ( كليشيهات ) مسبقة وقوالب جاهزة ، مفعمة بالصور المجازية غير الملائمة ، تفقد الناقد شخصيته الخاصة به ، وتسيء إلى المخرج والممثل في الوقت نفسه . وبلا أدنى ريب ، إن التعرف على النماذج النقدية العالمية ، وعلى الكيفية التي يكتب بها النقد المسرحي ، سوف يتيح لنقادنا فرصاً كبيرة ، تجعلهم قادرين على أن يدركوا مواطن ضعفهم وما ينبغي أن يكون عليه النقد المسرحي ، وتجعلنا ندرك حجم التباين بين هذا وذاك .

على الناقد أن يدرك أنّ ( العرض المسرحي ، مثلما هو النص text مثير يخلق الاستجابة الجمالية (( Aesthetic respon )) عبر التشكيل الأمثل بمستوييه القصدي والعفوي لمفردات المشهد المسرحي في ضوء التحولات النوعية في أنساق منظومة العرض وخاصة تلك التي تطرأ على النص عندما يعتلي فضاء العرض ، حيث ينتقل إلى خطاب آخر اقتضته صيرورة التشكيل المتفاعل لمنظومة العلاقات المشيدة لبنية العرض )) (5) .
كما أن العرض المسرحي يشكل جوهر الفعالية الجمالية ، لأنه مدرك فني وجمالي وأن العلائق المباشرة التي تمليها التأثيرات الحسية المتبادلة بين المتلقي وبين مراكز البث في منظومة العرض تغني مسببات المتعة الجمالية ، مما يؤكد أن العرض المسرحي يستند إلى خطاب ( فلسفي جمالي ) ضمن خطابات متعددة ومتنوعة تشكل فيها الإشارات اللفظية وغير اللفظية علامة على التكوين السيمانتيكي للعرض المسرحي كتكوين علاماتي مثلما هو النقد الذي يعد نصا ثانيا يلخص خبرة الناقد وثقافته .
ولذلك ، فإن النقد ينبغي أن يخوض غمار تلكم الفضاءات المتداخلة في خطاب العرض المسرحي ، كيَّما تكون آراء الناقد ذات سند علمي ، مدعم بفهم عميق لحيثيات الأنساق المؤتلفة ضمن نسيج العرض ، لكي يكتسب الناقد مصداقية حكمه النقدي وفاعلية تصويباته النقدية المتبصرة ، فيلتقي – عندئذٍ – الخطاب النقدي مع الخطاب الفني والجمالي ، ومثلما أن المخرج هو المؤلف الثاني للعرض فإن الناقد هو المؤلف الثالث للعرض المسرحي .
ولا يمكن للباحث المنصف أن ينكر ما أحدثته الأسماء النقدية الفاعلة في رابطة نقاد المسرح – خاصة -، إذ شكلت تلك الطروحات والمؤلفات والأطاريح الجامعية – خاصة – انعطافة نوعية متقدمة في مسار الخطاب النقدي الحديث ، من دون تناسي المجهودات النقدية التي أثثت فضاء النقد المسرحي على تباين مستوياتها .
باختصارأن العرض المسرحي يمكثل خلاصة لتصاهر الإرادات المتآزرة باتجاه انتاج خطابٍ فني جميل وجليل يستند إلى استراتيجية تؤسسها ذهنية تحليلية تشترط وجود الدقة في التحليل والسرعة في الاستجابة والبراعة في المقارنة والنزاهة في الحكم النقدي إلى جانب سعة الأفق المعرفي للناقد .

منقول

http://negativepress.ucoz.com/forum/3-14-1
المصادر
1- د. باسم الأعسم ، مقاربات في الخطاب المسرحي ، سوريا ، دار الينابيع ، ط 11 ، 2010 ) : ص 202-203 .
2- د. باسم الأعسم ، النقد وعلاقته بمكونات العرض المسرحي ، رسالة ماجستير ، جامعة بغداد ، كلية الفنون الجميلة ، 1987: ص19 .
3- المصدر نفسه : ص 122 .
4- د. عقيل مهدي يوسف ، في النقد المسرحي ، مجلة فضاءات مسرحية ، تونس : ص38 .
5- د. باسم الأعسم ، الجميل والجليل في الدراما ، ( دولة الامارات العربية المتحدة ، حكومة الشارقة ، دائرة الثقافة والاعلام ، ط1 ، 2002 ) : ص 108 .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق