المونودراما، خصائصها، وإشكالية التلقي
نشر في مجلة قوافل-العدد26، ربيع الآخر 1430هـ
سادت في الآونة الأخيرة عروض مسرح المونودراما، إذ لا
يخلو مهرجان مسرحي على مستوى العالم و العالم العربي من عروض مسرحية تنضوي تحت هذا
التصنيف، حتى باتت أشبه بموضة مثيرة للتجربة، فالعمل في عروض المونودراما صار يغري
الكثيرين بدءً من الكاتب، وحتى الممثل الذي يجد فيها فرصة لاختبار قدراته الأدائية
واستعراضها، مروراً بالمخرج الذي يضع كل إمكاناته في تدريب ممثل واحد بدل الجهد
الذي يبذل في تدريب طاقم تمثيلي في المسرحيات متعددة الشخصيات. مما حدا بالباحثين
المسرحيين إلى التنظير لهذا النوع المسرحي الذي لم يكن سائداً ولا معتنىً به، وحدا
ببعض الجهات المسئولة عن المسرح إلى تنظيم مهرجانات مسرحية لعروض المونودراما، تكون
تجمعاً لهذه العروض التي تتنافس على الأفضلية في مجال النص المونودرامي، التمثيل، الإخراج وبقية
العناصر المسرحية التي تشترك فيه المونودراما مع المسرح المتعدد الشخصيات.
المونودراما و المونولوج
وكلمة المونودراما Monodrama هي كلمة يونانية تنقسم إلى Mono وتعني (وحيد)، و Drama وتعني (الفعل).
وهي، إصطلاحاً، تعني مسرحية الممثل الواحد، بمعنى أن يقوم بتشخيص المسرحية ممثل
واحد فقط وهو المسئول عن إيصال رسالة المسرحية ودلالاتها جنباً إلى جنب عناصر
المسرحية الأخرى، وفي بعض الأحيان يستعمل تعبير رديف هو عرض
الشخص الواحد One Man
Show ،
أو الـ solo play عند الألمان. والمونودراما بهذا
المعنى تختلف عن المونولوج Monologue كما تشرحه الموسوعة
البريطانية Encyclopedia Britannica وهو "
حديث مطول لشخصية مسرحية. فالمونولوج الدرامي dramatic
monologueهو أي حديث توجهه شخصية لشخصية أخرى في المسرحية،
بينما المناجاة soliloquy نوع من المونولوج الذي يقوله الممثل للجمهور
مباشرة، أو يفصح عن أفكاره وما يجول في داخله بصوت مسموع حين يكون وحيداً أو حين
يكون بقية الممثلين صامتين"(1)، فثمة خلط يقع فيه الكثيرون بين المونودراما والمونولوج. هذا الاختلاف
يعني بأن المونودراما نوع مستقل من أنواع المسرح، بينما المونولوج هو جزء من
المسرحية وليس نوعاً منفصلاً، لذا يصح للمونودراما أن تمتلك خصائصها و نظرياتها
الخاصة، وليس بالضرورة أن تكون خاضعة لاشتراطات المسرحية، وإن تكن تأخذ منها بعض
هذه الخصائص وتشترك معها فيها.
الظهور الأول للمونودراما
وترتبط المونودراما بالأداء الفردي الذي يعتبر قديماً قدم الإنسان، فهي
نتاج فن القول أو سرد القصص، وهو فن له علاقة بوجود الإنسان و فعل من الأفعال التي
يعبر فيها الإنسان عن كوامنه، ولينفس من خلال الإستماع إلى القصص أو سردها عن
همومه وضجره. ولكن المونودراما كفن ارتبط بإرهاصات المسرح الأولى عند اليونانيين،
فمنذ نشأته، أعتمد المسرح، وبعد أن كان لا يعدو كونه طقوساً تعبدية، على الممثل،
الذي انتقل مع المسرح اليوناني القديم من
مرحلة السرد إلى مرحلة التمثيل مع أول ممثل في التاريخ ثيسبيس Thespis
،
والذي أخذ من إسمه المصطلح الأنجليزي Thespian ويعني مسرحي أو
ممثل، إذ يعد"(ثيسبيس) مرجعاً متطوراً في إعطاء المسرح نفحته الأولى والتي
كان يحكي فيها حكايات، ويشد شغف الجمهور إلى تلك التنويعة في تقديم شحصيات حكايته
من خلال الأقنعة والملابس والصوت والتكوين الجسماني، ومن هنا فهو يعتبر المؤسس
الأول لهذا النشاط البشري"(2).
هذا الممثل الأول الذي نقل المسرح من إطاره الديني إلى الدنيوي كان البذرة الأولى
لما يعرف الآن بالمونودراما، فهو كان يقدم مسرحياته وحيداً، قبل أن يدخل أبو التراجيديا أسخيلوس في القرن
الخامس الممثل الثاني على المسرح اضافة الى الجوقة، وكان الممثل الثالث قد استحدث
في المسرح على يد سوفكليس، ليخضع، بعد ذلك، قانون الكتابة والتمثيل للممثلين
الثلاثة لقرون. و انتهت الصيغة الجنينية للمونودراما بهذا التطوير الذي أحدثه
أسخيلوس بكسر فردانية الأداء. وبين هذا التاريخ والظهور الأول للمونودراما الحديثة،
ظهرت أشكال مسرحية تعتمد على الممثل الفرد، مثل عروض الجونجلرز Jongleurs والذي كانت
تقدمه بعض الفرق الجوالة، وهو شكل من أشكال المايم في زمن الرومان، إضافة لفن
البانتومايم وهو أن يقوم ممثل واحد بأداء عمل درامي إيمائياً وعادة ما يكون عرضاً
منفرداً.
الظهور الثاني للمونودراما
و المونودراما الحديثة كما هي معروفة اليوم يعود تاريخ ظهورها، كما تشير الدراسات إلى القرن الثامن عشر على يد رائد فن المونودراما الممثل والكاتب المسرحي الألماني جوهان كريستيان برانديز (1735-1799)، الذي أعاد الحياة لفن ثيسبيس واستحضره في مسرحياته التي كان يقدمها بنفسه وبشخصية واحدة بمرافقة الجوقة.
ويعود أوَّل نص مسرحي يصنف كمونودراما مكتملة الشروط الفنية إلى الفيلسوف و المفكر الفرنسي جان جاك روسو و كان ذلك عام 1760 م، وهو نصه (بجماليون)، ولكن أول من أطلق مسمى مونودراما على نصه (مود Maud)كان الشاعر ألفريد تينيسون Alfred Lord Tennyson في العام 1855م. لاحقاً، بدأت نصوص المونودراما تتكاثر و يرتفع لها الصوت، فكتب تشيخوف نصه الشهير (مضار التبغ) ووصفه بالمونولوج في فصل واحد، وكتب الفرنسي جان كوكتو نصه (الصوت الإنساني)، وكتب يوجين أونيل نصاً مونودرامياً بعنوان (قبل الإفطار)، بينما كتب صموئيل بيكيت (شريط كراب الأخير) والذي اعتنى بالمونودراما ووجدها أنسب الأشكال المسرحية للتعبير عن العبثية والتي تقوم على عزلة الفرد واستحالة التواصل الاجتماعي. هذا الاحتفاء بفن المونودراما من قبل كتاب مسرحيين معروفين، فتح الباب لتقبل هذا النوع من الفن المبتعث من زمن الأغريق، والاشتغال عليه من قبل كتاب ومخرجين وبالذات من ممثلين، ويتجلى الاهتمام بهذا الفن عالمياً بتخصيص مهرجانات تلتقي فيها الفرق التي تقدم عروض المونودراما، وأشهرها مهرجان ثيسبيس العالمي للمونودراما في ألمانيا الذي يقام سنوياً.
المونودراما عربياً
على المستوى العربي، يعد مهرجان الفجيرة الدولي للمونودراما هو الأشهر خاصة بعد حصوله على التصنيف الدولي من الهيئة العالمية للمسرح، و تنصيب مديره محمد سيف الأفخم رئيساً للرابطة الدولية للمونودراما، ولكن ثمة مهرجان في كل بلد عربي للمونودراما، ففي سوريا هناك مهرجان اللاذقية للمونودراما، وفي الكويت مهرجان للمونودراما، وكذلك في بغداد ومصر والمغرب وعكا الفلسطينية و في السعودية. ويعد فن المونودرما حديثاً حداثة المسرح، رغم أن أشكال التعبير الإنساني التي قد تعد صيغة أولية للمسرح موجودة منذ القديم، خاصة تلك التي يمكن ربطها بفن المونودراما، كفن الحكواتي، الذي اشتهر تاريخياً به (إبن المغازلي) الذي كان "يضرب الأرض بقدميه ويحرك يديه ويغير صوته إلى أصوات شخصيات روايته"(3)، والذي وصفه المسعودي في كتابه "(مروج الذهب) بأنه كان حكاءً في غاية الحذق يضحك الثكلى"(4). و يعود ظهور المونودراما، بشكلها الحديث، عربياً إلى العراقي يوسف العاني الذي قدم أول "مونودراما شهدها المسرح العراقي والعربي في مسرحية (مجنون يتحدى القدر) التي كتبهاعام 1949م ومثلها بنفسه على مسرح معهد الفنون الجميلة مطلع عام 1950م"(5)، أما أول نص مسرحي عربي مونودرامي نشر في الصحافة العربية فهو نص (إبن زيدون في سجنه) للشاعر المصري أحمد زكي أبو شادي الذي نشره في مجلة البعثة الكويتية في العدد الثاني الصادر في شباط 1954م. في سوريا دخلت المونودراما على يد المخرج الراحل فواز الساجر بعرضه المونودرامي (يوميات مجنون) عن نص لغوغول أعده الكاتب المسرحي الراحل سعد الله ونوس ومثله أسعد فضة، ويعد الممثل الفلسطيني زيناتي قدسية أشهر من أشتغل على عروض المونودراما وارتبط إسمه بها فقد قدم مسرحيات (الزبال, القيامة, حال الدنيا, أكلة لحوم البشر للكاتب وكلها للراحل ممدوح عدوان)، أما في لبنان فقد ارتبطت المونودراما بالممثل المسرحي رفيق علي أحمد الذي قدم عدداً من العروض ضمن مسرح الحكواتي (الجرس، جرصة)، وفي تونس، أشتهر المسرحي محمد إدريس بتقديم عروض المونودراما مثل عرضه (حي المعلم) التي كتبه وأداه، بينما يعد المغربي عبد الحق الزروالي رائداً لمسرح المونودراما في المغرب، إذ قدم أول عروضه في العام 1961، وكان واحداً من مؤسسي أول مهرجان مونودراما عربي في العام 1976 بالتعاون مع وزارة الثقافة.
المونودراما في منطقة الخليج العربي
ظهرت
المونودراما في الخليج متأخرة عن ظهورها العربي، ففي الإمارات كانت أول مونودراما
للمسرحي الدكتور حبيب غلوم في العام 1989م، وهي نصه "لحظات منسية"
المعدة عن نص للكاتب العراقي جليل القيسي وأدت دورها الممثلة سميرة أحمد، وقبلها
بأربع سنوات وتحديداً في العام 1985م قدم المسرحي البحريني إبراهيم خلفان المونودراما
الأولى في مملكة البحرين (عطسة بو منصور) وجسد شخصيتها الوحيدة عبد الله ملك، بينما
كانت بدايات المونودراما في المملكة العربية السعودية من الطائف، إذ قدمت جمعية الثقافة والفنون بالطائف
مونودراما (صفعة في المرآة) عام 1985م، وكانت من تأليف عبدالعزيز الصقعبي وإخراج
عبدالعزيز الرشيد وتمثيل راشد الشمراني. ومنذ تلك البدايات أفتتن بهذا الفن عدد من
المسرحيين الذي وجدوا فيه مغامرة فنية، أو صرعة مسرحية، أو حتى محاولة حقيقية
للتجريب على هذا الفن وتأصيله في المسرح العربي، فتنامى عدد العروض المونودرامية
حتى باتت إقامة مهرجان لهذه العروض ضرورة، لذا أطلقت دولة الإمارات مهرجان الفجيرة
للمونودراما والذي يستضيف فرق مسرحية عربية واجنبية العام 2003م، تبعتها جمعية
الثقافة والفنون بالطائف وأقامت مهرجانها الأول للمونودراما في ذات العام، ومهرجان
المونودراما التي أعلنت فرقة الخليج بالكويت عن إقامته في مايو 2008، ومهرجان المونودراما
في العاصمة السعودية الرياض والذي نظمته جمعية الثقافة والفنون بالرياض في يوليو
2008م.
إشكالية الوحدانية في المونودراما
ومع هذا الافتتان بهذا الفن وتزايد عروضه حول العالم،
يقف عدد من المسرحيين في وجهه، متسلحين بفكرة يمكن أن يختصرها بيتر بروك الذي كان
يقف في الضد تجاه المونودراما، إذ يرى "أن المونودراما تفقد المسرح الكثير من
ألقه ووهجه الخاص, لأنها تعتمد الممثل الواحد الذي ينبني عليه العرض بأكمله, فلا
تفاعل بين ممثل أول وممثل ثان ضمن ثنائية الأخذ والرد, التي تؤسس لفعل درامي حقيقي
على الخشبة"(6)،
و ما يذهب إليه بروك يصطلح عليه الدكتور فاضل خليل بالوحدانية، ويعتبرها إشكالية
محنة في فن المونودراما (7).
لكن الألق الذي يمكن أن تفقده المونودراما من الغياب، والحديث مع الغائب الذي يعد من
أهم "المشكلات في مسرحيات المونودراما"، يمكن أن يستعيده المشتغلون
بمسرح المونودراما، من خلال بعض الحلول، فغالبا "ما نرى الممثل حين يدخل
المحنة وحيدا على المسرح يبحث له عن من ينقذه من هذه الورطة. فيوجه الحديث إلى آخر
متخيل يساعده على قتل غربته فيكون هذا المتخيل هو النفس حين يوجه لها الحديث، أو
مع الأشباح التي تحيط به وهي كثيرة. وفي أحسن الأحوال يكون الحديث موجها إلى متخيل
عبر (المرآة) أو عبر (الهاتف)"(8)،
ولكن ثمة مقترحات لتجاوز هذه المحنة (الوحدانية)، فتشيخوف وفي مسرحيته (أضرار
التبغ) وجه الحديث لجمهور المسرحية الذي أعتبره هو ذاته جمهور المحاضرة التي تتحدث
عن أضرار التبغ، بينما أقحم شخصية (بتروشكا) في مسرحيته (أغنية التم) لتجاوز هذه
الوحدانية، أو بواسطة "تقديم الشخصية وهي تؤدي مجموعة شخصيات وبأصوات مختلفة
معتمداً أسلوب المخرج في تنوع المبتكر الإخراجي، والبعض يستخدم الدمى للمشاركة في
الحدث مبتعداً عن الشخصيات الحية. ومنهم من يحاور أصوات خارجية لشخصيات داخلة في
بنية النص"(9).
هذه المقترحات يمكنها أن تؤسس لفعل درامي داخل العمل المونودرامي، وقادرة على خلق
الصراع الذي ينتجه الحوار التبادلي بين شخصيات المسرحية ولتعويض الغياب الذي تفرضه
مسرحيات الممثل الواحد.
خصائص المونودراما
(الكتابة)
تقترب المونودراما من المسرحية العادية في تقنية
الكتابة "من الوضعية الاستهلالية والوضعية الأساسية وحبكة رصينة وحدث صاعد
وذروة وحدث متهاو وحل"(10)،
وتقترب في الرؤى الإخراجية واشتغالات السينوغرافيا وفي تقنيات أداء الممثل، إلا
أنها تمتلك خصائصها التي تفترق فيها عن المسرحية متعددة الشخصيات، وهذا لا يعني أن
ثمة قوانين تحكم الكتابة المونودرامية أو تحكم تنفيذ العرض المونودرامي، إلا أنه
يمكن من خلال قراءة نص مونودرامي إستنتاج خصائص هذه الكتابة، والتي فصلتها الممثلة
الأردنية مجد القصص في مقالها المعنون بـ(المونودراما:مسرح الشخص الواحد)(11)، فمن خصائص النص المونودرامي:
الموضوع: غالباً ما تكون موضوعات المونودراما
مأساوية الطابع، ناتجة عن تجربة ذاتية مريرة، هذه المأساوية هي ما يفتح الأسئلة
المصيرية، الكونية، والوجودية.
الزمن:
يكون الزمن في المونودراما ملحمي البعد، بمعنى أن
يكون متعدد المستويات، ولكن يكون للزمن الحاضر النصيب الأكبر، ويمكن أن تختلط
المستويات دون تسلسل منطقي.
المكان: المكان أيضا متعدد
المستويات في المونودراما، حيث تستحضر الشخصية الوحيدة ملامح الأمكنة خلال عملية
التداعيات الفكرية .
اللغة:
تميل لغة الحوار في النص المونودرامي إلى السرد
وصيغة الفعل الماضي، لأنها تعتمد غالباً على تداعي الأفكار.
الشخصيات
: يعتمد النص المونودرامي على شخصية واحدة، يكون حضورها فعلياً، بينما
يكون حضور بقية الشخصيات، متى ما اعتمد الكاتب حضورها كمقترح لتجاوز الوحدانية،
مجازياً.
الصراع: يقوم الصراع في بنية الحدث الدرامي على
تنامي الحدث وتصعيده من خلال ما يخلقه من التصادم و التعارض بين أطرافه ليستولد
الأزمات،
فهو جوهر الدراما، والصراع نوعان:
1)
الصراع
الداخلي، ويتجلى في الصراع بين الإنسان ونفسه وعواطفه.
2)
الصراع
الخارجي، ويتجلى في الصراع بين الإنسان وشخصية أخرى مضادة، أو مع الطبيعة
وظواهرها، أو مع المحيط والمجتمع، أو مع قوى كبرى (القدر – الموت – الزمن ).
وفي المونودراما تختزل كافة تجليات وأشكال الصراع في الصراع الداخلي، حيث تنمو حالة التداعي وتبرز حالة
الوحدانية المشار إليها، فالبطل في المونودراما يكون عرضة لكل أشكال الصراعات التي
تواجه الإنسان.
ونص المونودراما يحتاج لإمكانات كاتب واسع الخيال، وصاحب رؤية تمكنه من
ضبط السرد والترهل الذي يمكن أن ينتج عن
طبيعة اللغة في هذا النوع من الكتابة، وكاتب متمكن من تصعيد الحالة الدرامية بشخصية واحدة على الخشبة،
إذ يتحول "الفعل التبادلي، في المسرحية متعددة الشخصيات، إلى فعل ذاتي يقوم
الكاتب اثناءه بتحفيز شخصية واحدة ويدفعها نحو التطور والنمو ويحدد ردود أفعالها أثناء
نمو الحدث"(12)، المونودراما تحتاج إلى كاتب تشغله قضايا ذات أهمية، يتناولها بعمق ودون
تسطيح، عبر شخصية قادرة على انتزاع الدهشة من الجمهور، من خلال الحدث الدرامي
المتنامي، ومن خلال عملية الكشف الكامنة في الصراع الداخلي التي تعشيه الشخصية،
التي يجب أن تمتلك ديناميكيتها على الخشبة، شخصية غير ساكنة، شخصية تملك لغتها
المسرحية بحيويتها، والبعيدة عن الخطابات والشعارات. نعم كتابة المونودراما تختلف
عن كتابة النص المتعدد الشخصيات، ويمكن أن يقال أن النص المونودرامي أصعب في
الكتابة من النص المسرحي المألوف، فهو نص يمتلك استثنائيته وخصائصه.
(الإخراج)
مخرج المونودراما، هو الآخر، يجب أن يمتلك قدرات خاصة، فهو يتعامل مع نص
مختلف، فهو مطلوب منه توجيه هذا الممثل الفرد، ورسم حركة هذه الشخصية في مساحة
يملكها وحده، ومطلوب
منه أن يمتلك أدوات إخراجية لصياغة رؤية بصرية يقدم فيها فرجة مسرحية مدهشة، تقلل
من رتابة المونودراما وحوارها السردي الطويل.
(التمثيل)
أما المممثل
المسرحي الذي يجسد الشخصية المونودرامية، فيجب أن يمتلك ميزات خاصة، قد لا تحتاجها
المسرحيات متعدد الشخصيات، فهو ممثل من نوع خاص، يملك أدواته الخاصة، فالممثل
المسرحي هو الوسيط بين النص وبين الجمهور، وهو الذي يحمل دلالات النص ورسالته، والممثل
في المونودراما هو البطل الوحد، وهو وحده الذي يحمل عبء المسرحية، فهو الذي يسرد
حكايتها، وهو الذي يواجه الصراعات وصولاً إلى الذروة المفترضة في المسرح، وحده من
يواجه التحدي في مواجهته للجمهور، ووحده من يوصل رسالة المسرحية للجمهور عبر
(الكلام/ الإيماءة/ الإشارة/ حركة الجسد/ الصمت/ الانفعال الداخلي.. إلخ)، هذه
المسئولية تحتاج لممثل يملك قدرات أدائية عالية، وقدرة على ضبط إيقاع العرض،
فالمونودراما لاتحتمل أنصاف ممثلين، فإما أن يكون ممثلاً متميزاً هو من يقدمها، أو
يسقط العرض في الرتابة والفشل.
و يذكر لنا
تاريخ المسرح العربي ممثلون أنشغلوا بعروض المونودراما حتى صاروا علامة في
أقطارهم، ففي لبنان يبرز إسم المسرحي رفيق علي أحمد، وفي سوريا، الممثل الفلسطيني
زيناتي قدسية الذي صدر عنه مؤخراً كتاب (القابض على الجمر: زيناتي قدسية ومسرح
المونودراما) والذي يقرأ فيه إبنه قصي قدسية تجربته مع المونودراما، وفي المغرب
يبرز إسم عبد الحق الزروالي الذي قدم ما يقارب الأربع وعشرين مسرحية كان فيها
الكاتب والمخرج والممثل الوحيد على خشبة المسرح منذ العام 1961م، وفي الكويت يبرز
إسم الممثل المسرحي عبد العزيز الحداد الذي قدم عدد من المونودراما منذ أول تجربة
مونودرامية له في العام 1989م. هؤلاء الممثلون اختاروا المونودراما طريقاً، وابدعوا فيها لأنهم
يمتلكون هذه الأدوات الخاصة، أدوات جعلت من أدائهم مختلفاً، وتفوقوا على سردية
اللغة المونودرامية، ممثلون استطاعوا أن يشغلوا الحيز المكاني (الخشبة) والحيز
الزماني (مدة العرض) دون أن يتسرب الضجر إلى الجمهور، هؤلاء هم ممثلو المونودراما
المفترضون.
المونودراما، فن نرجسي
ولكن كثير ممن
ولجوا عالم المونودراما كانوا مدفوعين بالإنفراد الذي يحققه هذا النوع من العروض
المسرحية، والذي يغذي نرجسية الممثل الذي بدوره يبحث عن ذاته مؤمناً بقدراته، لكنه
غالباً ما يجد نفسه في ورطة الوحدانية التي تحدث عنها الدكتور فاضل خليل "
فالقلة من ممثلي المسرح العربي قادرين على تولي مسؤولية التورط في محنة الوحدانية على المسرح, لأنه غالباً لا يمتلك من
أدواته اكثر من موهبة (السير والحوار والبكاء) وهي أقصى غايات الإبداع لديه, وكلها
قاصرة عن تقديم عرض فني متكامل"(13).
إشكالية التلقي في مسرح المونودراما
ومع شيوع هذا
النوع من الفن وتملكه لمساحة من الاهتمام من قبل المسرحيين والمسئولين عن المسرح
حول العالم، إلا أنه يواجه إشكالية حقيقية، وهي إشكالية التلقي، فالجمهور هو الحكم
الأول لأي عرض مسرحي، وهو الذي يقرر نجاحه من فشله من خلال استجابته وتلقيه لهذا
العرض، لذا تلقى المونودراما نفوراً من جمهور المسرح، وتبدو أكثر نخبوية، يتابعها
الخاصة، إلا ما ندر من تجارب مونودرامية تمسكت بالجماهيرية بتناولها لقضايا تهم
الجمهور ولكنها لا تتنازل عن القيمة، كمونودراما رفيق على أحمد التي ربحت معادلة
الجمهور، وفي ذات الوقت لم تخسر القيمة، بينما لا يتابع عروض الكثير من
المونودراما سوى جمهور المهرجانات.
إشكالية
التلقي تنبع من القصور في مميزات وخصائص المونودراما، تلك التي تعطي للمونودراما
ألقها وجمالها، و تعطيها حالة الخلق. هذه الإشكالية تنبع من نص يتناول موضوع ليس
ذي أهمية، أو نص لا يحمل مقومات الجمال، نص لا يحمل سحر نص المونودراما وفرادته،
ونص ذي حوار سردي مترهل لا حيوية فيه، وهذه الإشكالية تبنع أيضاً من فقر مخرج في
رؤية خلاقة لعرض مونودرامي، وفقره في أدوات المسك بكل عناصر المسرحية وترجمتها إلى
عرض مبدع، و تنبع أيضاً، من أولئك الممثلين العاديين في أدائهم، المشغولين
بالبراني في فهمهم للشخصية التي يلعبونها، فالمونودراما تحتاج للممثل الذي لا
يستطيع أن "يحقق تناصاً حداثياً مع الأداء المسرحي إلا إذا ابتلع دوره، ويقوم
بلوك وهضم الدور، يفكك روح جسده وعادات وإشارات الشخصية التي سيلعبها في جسده هو
وصولاً إلى كيمياء روحي وجسدي بينه وبين الشخصية. إذ يمضي إلى أبعد من قشرة الدور
الخارجية وحتى يصل بوعي بصري ووعي فكري إلى نبش قيعان الشخصية"(14)، والإشكالية تنبع أيضاً من
غياب الهارموني في العناصر المسرحية و الممثل. كل هذا يرخي ذلك الخيط الوهمي
الموصول بن العرض والجمهور، فيفقد هذا الجمهور إنشداده للعرض واستجابته لمفرداته.
ومع شيوع هذا الفن المسرحي ورواجه، و
دخول قائمة طويلة من المسرحيين في مغامرته، فإن الأصلح هو من سيبقى، هو من سيترك
أثراً يذكره به التاريخ المسرحي، كما ترك فنانون أعطوا لهذا الفن من روحهم وفكرهم،
فأعطاهم خلود إسمهم، المونودراما ليست للجميع، وليست فناً سهلاً يحتمل العاديين من
كتاب ومخرجين وممثلين. المونودراما رديف حقيقي للإبداع.
إحالات:
(2) المونودراما.. مسرحية الممثل الواحد، محمو
أبو العابس-كواليس العدد 8 يناير 2003م.
(3) نفسه
(4) الممثل الواحد فن نرجسي بطله الاختزال،
مرعي الحليان-جريدة البيان العدد 14 يونيو 2008م.
(5) نفسه
(6) مفتش (بيتر بروك) يطلق العنان لسؤاله!!...، لميس علي-جريدة الثورة السورية، الأربعاء 18/6/2008م.
(7) إشكالية محنة الوحدانية في المونودراما :
د.فاضل خليل، مجلة الفوانيس المسرحية الالكترونية.
(8) نفسه.
(9) المونودراما.. مسرحية الممثل الواحد، محمو
أبو العابس-كواليس العدد 8 يناير 2003م.
(10) نفسه.
(11) جريدة الغد الأردنية، الجمعة 5 كانون أول 2008م.
(12) المونودراما:
مواجهة عميقة مع دواخل الذات بلا أقنعة، مجد القصص،
جريدة الغد الأردنية 24
تشرين ثاني 2008م.
(13) إشكالية محنة الوحدانية في المونودراما :
د.فاضل خليل، مجلة الفوانيس المسرحية الالكترونية.
(14) الموت نصاً ، حافة النص – جواد الأسدي –
دار الفارابي – بيروت، الطبعة الأولى 1999
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق