المشاركات الشائعة

الجمعة، 31 أغسطس 2012




مغامرة الكتابة و خصوصية الذات


د.عبد القادر رابحي / الجزائر


قد لا تطرح إشكالية الخصوصية في الكتابة الشعرية الجزائرية جل ما يختزنه معناها من حمولات معرفية و ظلال متفرعة لو أننا تناولناها من باب البحث عمّا يجعل النص الشعري جزائريا بالدرجة الأولى. ذلك أن النص الشعري سواء كان جزائريا أو غير جزائري ليس شخصا يمكنه أن يحمل الألوان الوطنية ليدلل على انتمائه الجغرافي أو المحلي في لحظةٍ ثم ينزعها في لحظة أخرى ليلبس غيرها. كما أن النص الشعري بوصفه إبداعا ينطلق من عمق الذات المبدعة لا يمكنه أن يجعل من البحث عن الخصوصية في ما يُقصد منها من ظاهرٍ دالٍّ على محليةٍ خاصة أو على مكانية ضيقة، حصانا يسهل ركوبه للولوج إلى عالم الإبداع و تحقيق الشهرة. ذلك أن العملية الإبداعية تبدو أعقد بكثير مما يمكن أن نتصوره من رؤيةٍ تتحكم فيها خطاطاتٌ مسبقةٌ لكتابة قصيدةٍ لا يمكنها في أخر الأمر إلا أن تدلل على فهمنا السطحي و الساذج لمغامرة الكتابة بكل ما تحمله من مجازفة و تحدٍّ و انطلاق نحو المجهول الممكن تحقيقه.
تبدو الخصوصية في شمولية طرحها للذات الشعرية بوصفها فعلا إنسانيا، شرطاً ضروريا يجب توفره مسبقا في هذه الذات لكي تُحقق شرط الكتابة المقرون دائما بشرط الوجود. و هي بهذا المعنى لا يمكن أن تخص نفسها بمخصوصات تُنقِص من اكتمال معناها في الذات، و لا يمكن أن تخصص لذلك فراغات قابلة لأن يُسوّدها الشاعر العابر بما يعتقد أنه جديرٌ بأن يطبع نصّه بطابع المحلية.
و من هنا، فإن الخصوصية أمرٌ و المحلية أمرٌ آخر. و لا يمكن من هذه الزاوية أن تتوفر الخصوصية في النص لكي تتحقق فيه المحلية، أو تتوفر المحلية لكي تتحقق فيه الخصوصية. فثمة نصوص مطبوعة بطابع الخصوصية في معناها الشمولي العميق لا تعكس بالضرورة محلية بعينها. و ثمة نصوص سعت إلى توفير المحلية من خلال استحضار كل ما يمكن أن يدلّل عليها، و على الرغم من ذلك لم تكن مطبوعة بطابع الخصوصية. ذلك أن الذي يضمن تفوّق النص في التعبير عن الذات و عن العالم هو هذه البصمة التي يتميز بها الشاعر في تفرده بالنظر إلى أقرانه و تميّز نصوصه عن نصوص الشعر التي سبقتها و التي ستلحق بها. و لا يمكن أن يأتي التفرد و التميّز من فراغ الذات الشعرية و هي تبحث عمّا يملأ تجاويف نصوصها من تعابير مستهلكة و أساليب مستعملة و تصاوير معروفة. فالسبق الشعري إنما يكمن في نسيان ما امتلأ به جوف الشاعر طيلة مدة تحصيله و سماعه، و الإصغاء بعدها إلى الذات المتأصلة و هي تعجن المعاني و الألفاظ و التعابير و الصور عجنا كافيا، و تطحنها طحنا وافيا، بحيث لا يبقى معهما أثرٌ لمؤثّر، و لا سياقٌ لسائق، و لا معنى لمعنيّ به. و سيكون الشاعر عندها كمن يريد أن يلد الكون و يعيد تغيير العالم ببيت (شعريّ) لم يسبقه إليه أحد، و بصورة لم يأت بها قبله شاعر آخر. و سيكون عند ذلك قد وُلِد ولادة تتميز فيها صرخةُ ميلاده عن صرخات الكثيرين من أمثاله من الشعراء. و لا مانع بعد ذلك في أن يكتب عن نفسه أو عن بيته أو عن قريته أو عن مدينته أو عن وطنه، أو عن أمته. فهو في كل هذه الحالات سيكون هو نفسه بخصوصية بصمته التي بها يُعرف إذا سُئلَ عنه، و إليها يُدلُّ إذا استُدلّ به.
و الذي يقرأ المتن الشعري الجزائري المعاصر خاصة، لأنه قريب منّا من الناحية الزمنية، فإنه لن يجد في جلّ نصوصه ما يُعرف به النص إذا سأل عن صاحبه، أو ما يدلّه على بيت الذات الشعري إذا استدلّ به إلى كاتبه. ذلك أن الذات الشعرية، ذات الشاعر، هي البيت الكبير الذي ينضح بما فيه من خصوصية إذا كانت، و يطفح بما فيه من محلية إذا تميزت. فكما أن صاحب البيت (الشعري) يدل على البيت، فإن البيت(الشعري) يدل على صاحبه.
و لطالما اعتقد العديد من الشعراء الجزائريين أن مجرد الكتابة بوجهة نظر خاصة كفيل بتحقيق شرط الخصوصية المعبرة عن أصالة الشاعر، فكانت نصوصهم إثر ذلك جوفاء إلا مما وضعوه فيها من تصورات خاطئة في مقاربتهم لهذا الشرط العظيم، فخطّأت هذه المقاربة من جاء بعدهم، و أبعدت عن الطريق (طريق الشعر) من اقتفى أثرهم. و لطالما اعتقد آخرون أن ما يجعل الشاعر متميزا و عظيما في نظر أقرانه على الأقل هو ركوب موجة ما يكتبه الآخرون في تحرير النصوص الشعرية و صبغها بصبغة عظمة الشعراء العالميين الكبار من خلال تلوينها بتلوينات غريبة، و تزيينها بتزييبنات عجيبة. لا هي من مقولات الآخرين فتُرد، و لا هي من مقولاتهم فتُعَدّ. فكان، و الحال هذه في كثير من النصوص، أنْ أصبحت المدونة الشعرية الجزائرية بابا مفتوحا على كلّ الاحتمالات الممكنة و غير الممكنة من حرصٍ على التأصيل بدعوى الحفاظ على الخصوصية دون أمل تارة، و من هوَسٍ بالتجريب بدعوى البحث عنها دون وعي تارة أخرى. فكان أكثر النص الشعري الجزائري المعاصر خاصةً كمن ثكلته أمّه و ضيّعه أبوه. لا يجد القارئ في ظاهره ما يدلّ على حضور موهبة، و لا في باطنه ما يدل على عمق تجربة، و لا يصله من عطاياه ما يروي عطشه من ماء طالما ألحّ على توفرّه الشاعر العربي القديم. و كأن الشاعر العربي القديم إنما كان يقصد هذه الخصوصية التي تدلّ على قائله في كلّ ما يُجوِّزُه الشاعر لنفسه من جوازات فكرية و معرفية ليس الغرض من توظيفها في المقولة الشعرية غير البحث المتأصل عن مخرج متفردٍ للقول الشعري يصبح به القائل خالدا ضمن الخالدين دون عناء في البحث عن الخصوصيات المُنفّرة، و دون تكلّف في توظيف المحليات بطريقة جافة، ينقلب كلاهما على الشعر و صاحبه فيجعلان منهما مضربَ مثلٍ لما لا يجب أن يقال.
غير أنه يجب الاعتراف، في خضم هذا السيل العرم من التهالك على كتابة النصوص المنمطة في معيارية طرحها للذات و سطحية تمثلها للعالم، أن ثمّة أصواتا متميزة بالنظر إلى هذا السيل العرم تشفع للمدونة الشعرية الجزائرية طموحها الطبيعي في مسايرة ما يُكتب في العالم عموما و في العالم العربي خصوصا من تجارب جديرة بالاحترام و التقدير. و هذه الأصوات الاستثنائية –كعادة كل ما هو أصيل- قد لا ينتبه إليها القارئ نظرا لتغطية الغث على السمين، و قد لا ينتبه إليها الناقد، و هو الأجدر بذلك، نظرا لما يشغل هذا الأخير من اشتغال بالأول عن الثاني حتى و لو كان في ذمه. فكان أن أصبحت النصوص المعبرة عمّا يمكن أن يكون تجاربَ ناجحةً في التعبير عن البعد المحلي لغةً و موضوعاتٍ و أساليبَ، في هامش المتن الذي سيطرت عليه النصوص التي لم تستطع التعبير عن هذا البعد. غير أن هذا كذلك، حتى و إن بدا عادةً راسخة، فإنه آيل إلى زوال حينما تتمّ الغربلة الطبيعية بين جوهر القول و خصوصية منطلقاته و بين زائف المعدن اللمّاع لا بدّ أن تبهت حدّتُه مع مرور الزمن.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق