المحاكاة الساخرة في القصة القصيرة جدا عند أحمد جاسم الحسين-مصطفي لغتيري
By بدرية علي in مجموعة القصة القصيرة جدا (Files) · Edit doc
و إذا كان الحسين قد حقق هذه الريادة في المجال النقدي ، فإنه قد ساهم كذلك بشكل فعال في ترسيخ جنس القصة القصيرة جدا في مدونة السرد العربي ، إذ له قصص متناثرة في كثير من المنشورات الورقية و الالكترونية ، كما يتوفر على مجموعتين قصصيتين قصيرتين جدا صدرت إولاهما عام 1996 ،و اختار أن يسميها ب " همهمات ذاكرة" .. تقع هذه المجموعة في أربع و ستين صفحة ، ضامة بين دفتيها عددا كبيرا من النصوص يتجاوز الخمسين نصا.
و لا شك أن المطلع على هذه المجموعة سينبهر بالغنى و التنوع، اللذين تزخر بهما المجموعة شكلا و مضمونا ، و سأحاول في وقفتي هذه عندها أن أثير الانتباه إلى جزء من هذا التنوع و الغنى ، رغم اعترافي بعجزي عن الإحاطة بكل ما تضج به من مضامين و أساليب في الكتابة ، فهذه القراءة النقدية المتواضعة لا تزعم ذلك و لا تطمح إليه.
و لعل أهم ميزة تلفت الانتباه عند الحسين ، و تفرض نفسها بقوة على المتلقي ملمح السخرية المهيمن على جل النصوص ، فالكاتب عمد إلى طرح جملة من القضايا الهامة بأسلوب ساخر ، بنوع من الباروديا أو المحاكاة الساخرة ، ليعمق الإحساس لدى القارئ بالمفارقات التي تحبل بها المواقف ، دون أن يكشف عنها بشكل مباشر ، موظفا في سبيل تحقيق ذلك الفانطستك أو العجائبي و الغرائبي و تقنيات " الفابلات" أو ما يمكن تسميته بقصص الحيوان كما ترسخت في الذهن من خلال كتاب "كليلة و دمنة ، و لدى الكاتب الفرنسي "لا فونتين" ، بل و التجأ الكاتب إلى كل ما يسعفه لتفجير المواقف ، التي بقدر ما ترسم البسمة على الشفاه ، فإنها بالقدر ذاته تذكرنا بالواقع المرير الذي نحيا في أتونه ، يقول القاص في قصة "دعوة":
دعا الديك الدجاجات إلى المائدة
أعدتها صاحبة البيت،
صفهن بانتظام
أمرهن ألا يأكلن إلا بعد أن يشبع
اقتربت منه صاحبة المنزل و السكين في يدها ، لم يأبه
بها ، عندما حاولت ذبحه ذكرها أنها أنثى.
يطرح الكاتب في هذه القصيصة قضية المرأة في بلداننا العربية ، التي لازالت مصرة على سلب المرأة إنسانيتها ، بأسلوب بسيط و ساخر ، و كاريكاتوري شديد العمق ، و كأني بالديك أعلى مكانة من المرأة بفضل ذكورته ، حتى أنه لا يحل لها ذبحه ، إنها قصة تعبر عن الواقع بما قل و دل ، بليغة إلى حد القسوة في تشخيصها لمكانة المرأة الدونية ،و عنترية الذكور و زهوهم اللذين لافضل لهم فيهما سوى لذكورتهم ، فمهما بلغت المرأة في أوطاننا العربية من شأن في العلم و العمل ، فإنها تظل في وعي و لاوعي المجتمع العربييين إنسانا من الدرجة الثانية ، بل و أحط مكانة من الحيوانات ، التي يمثلها الديك في هذه القصة.
أما قصة "مغامر" فتطرح قضية أخرى تشمل الجنسين معا ، بل و أبناء الجنس البشري عامة ، و إن كنت أميل إلى التخصيص ، للتركيز على الإنسان العربي الذي غالبا ما يتشبث بالقشور تاركا لب الأشياء لغيره من الشعوب ، والقصة تفضح بأسلوب ساخر تفاهة هذا الإنسان المغتر بنفسه ، بينما هو في حقيقة الأمر يستحق الرثاء ، لأن رأسه فارغ يعاني من فقر ثقافي مزمن يقول القاص:
عن على بال الحذاء أن يغير مكانه
فطار إلى رؤوس الناس...
وجدها محشوة بالتفاهة و القمل...
عاد إلى قواعده )سالما).
لعب الكاتب هنا على مستويين ،أعلى و أسفل ، فالأسفل دوما يرمز في عرف الناس إلى الانحطاط و القذرة و التفاهة ، بينما يؤشر الأعلى على الشرف و السمو و الرفعة ، تصور لنا القصة حكاية الحذاء الذي مل مستواه المتدني فطمح إلى الصعود إلى الأعلى ، و حين سنحت له الفرصة للقيام بذلك فوجئ بأن الأمر لا يستحق حتى عناء المحاولة ، لقد اكتشف أن في الأعلى تستوطن التفاهة و القمل ، فعاد إلى "سفليته المجيدة " قانعا غانما. و كأني بالقاص ينبهنا إلى أن من يوجدون أعلى الهرم الاجتماعي و السياسي ليسوا كما نتصورهم.
و إذا كانت المجموعة القصصية زاخرة - كما سبق- بكثير من القضايا ، فإن المواضيع السياسية و الاجتماعية طاغية عليها ، و هذا أمر مبرر ، إذ لا يمكن أن نتصور كاتبا عربيا لا تستفزه قذارة السياسة التي تخنق كل مجالات الحياة و تهيمن عليها، بما في ذلك هيمنتها على الثروة الاقتصادية ، يقول القاص في قصة نزهة:
تفسحت الجبال مرة
فانكشفت كل الثروات الباطنية ، خاصة النفط.
جاءت الشرطة فأخذتها ) حية) إلى )خزينة الدولة).
إن القارئ هنا أمام حالة تنطبق على الدول العربية جميعها ، فكل ما يتحرك على الأرض أو يستقر فوقها أو تحتها للدولة نصيب فيه ، بل إنه جميعه في ملكيتها ، بينما يكتفي المواطن باجترار مرارته ، و هو يرى خيرات بلاده تستنزف من قبل قلة من المنتفعين دون أن يناله منها نصيب . و تستمر قصص المجموعة على هذا النهج طارحة عددا من القضايا المهمة و المتنوعة ، التي تشغل المواطن البسيط و المثقف على حد سواء ، فتصورها بما تعارف عليه القدماء ب " تجويع اللفظ و إشباع المعنى " موظفة أسلوبا ساخرا عميقا.
و إذا كانت بعض القصص في المجموعة قد غلب عليها البعد الواقعي من خلال حملها لرسالة اجتماعية أو سياسية معينة ، فإن قصصا أخرى اتخذت لها الترميز سبيلا في التعبير ، لا يمكن للقارئ التعاطي معها إلا عبر آلية التأويل في أعمق معانيه، يقول القاص في قصة "إحساس" :
قررت الأبواب أن تثور في وجه الحيطان ، و اتفقت
أن تهجرها في الليل..
صباحا استهزأ الجميع بمنظر الحيطان عندما أحست بقيمة الأبواب ، و لم تعد تتفاخر
عليها أنها هي التي تضمها.
و إذا كانت هذه الإطلالة النقدية على المجموعة قد أشارت إلى التنوع و الغني ، اللذين تتميز بهما قصص الحسين ، فتجدر الإشارة إلى أن ذلك لا يقتصر على المضامين فحسب ، بل طال أساليب الكتابة كذلك ، إذ نجد الكاتب قد عمد إلى كثير من التقنيات الأسلوبية ليدبج قصصه ، فنصادف السرد المحايد الموضوعي ، و السرد الذاتي الجواني ، و الجمل الإخبارية و الإنشائية و الحوار و الاستفهام و التعجب ، يقول الكاتب في قصة "هجرة"
- أمي .. أمي ، لماذا تهاجر السنونو كل عام؟
ابتسمت : لأنها تملك وطنا آخر.
لماذا لا نملك...؟-
لطمتني، تلفتت إلى الشبابيك ، هل هي مغلقة.
و تبقى في الأخير "همهمات ذاكرة" للكاتب السوري أحمد جاسم الحسين من المجاميع القصصية الفارقة في تاريخ القصة القصيرة جدا ، يؤهلها لذلك عدة أسباب منها ، أنها من بواكير المجاميع القصصية التي رسخت جنس القصة القصيرة جدا في الأدب العربي ، كما أن كاتبها ناقد عارف بتقنيات القصة القصيرة جدا ، مما يعني أن تجربته الإبداعية نابعة عن رؤيا و تصور واضحين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق