المصطفى المعطاوي
الإزاحة والإحلال. إضاءة في صيغ التجلي داخل القصة القصيرة جدا
الإزاحة...والإحلال
إضاءة في صيغ التجلي داخل القصة القصيرة جدا
المصطفى المعطاوي
(المغرب: 19-04-2013)
أولا قبل البدء.
إلى حدود اللحظة – ولاعتبارات منهجية - لا تدعي هذه الورقة أنها قراءة بمفهوم الكلمة الدقيق، بقدر ما تتشرف أن تكون «إضاءة». كما لا تزعم أنها نحتت مفهوما جديدا في بناء النص القصصي القصير جدا، وإنما اعتمدت في ذلك على آخر المستجدات في عالم النقد الأدبي، خاصة مفهوم«الكتلة النصية » الذي برز ضمن نظرية « تراسل الأجناس الأدبية». لتبقى هذه الإضاءة وفية لمنهجنا الذي تناولنا به في مقالات سابقة نصوصا شعرية وسردية؛ منهج ينطلق من قناعة أن الأدب في عصرنا الحديث قد كسر إلى حد كبير حدود الجنس فما بالنا بالنوع، ومن تم بدا لزاما أن تتبادل بشكل خلاق المفاهيم النقدية الأدوار في القراءة والمعالجة، فلم يعد هناك مفهوم نقدي خاص بالشعر وآخر خاص بالنثر، وإنما مفهوم واحد يتمظهر في أشكال وصيغ.
من ناحية أخرى ارتأت هذه الإضاءة أن تستعير من البنيوية توجهها في التحليل، ليس استعارة القهقرى إلى نظريات من القرن الماضي، وإنما كونها في اعتقادنا الوسيلة الأمثل لتحقيق الغاية؛ الغاية هي الكشف عن كيفية انكتاب النص لكل محموم بفن القصة القصيرة جدا، وعملية الكشف يكون فيها التحليل البنيوي للملفوظات السردية أكثر إيضاحا وفاعلية.
«الإزاحة والإحلال» مفهوم نقدي اعتمدناه في هذه الورقة، ولكن ليس تماما كما قرأ به نقاد الشعر قصائد أبي نواس. فهو هناك مفهوم إجرائي يوضح كيف أزاح أبو نواس قالب عمود الشعر الذي صنعه المرزوقي، وأحل محله نظاما جديدا هو في حقيقته مجرد تكسير للنمط. أما في السرد فالمفهوم يفتح لنفسه مساحات واسعة للتمظهر والتجلي تكشف هذه الورقة عن بعضها.
وتجدر الإشارة إلى أننا لم نستدع المفهوم كـ«مراقب» على النصوص لولا أننا رأينا من خلال قراءتنا الأولية أن المفهوم محدد فيها، ومن تم فالكشف عنه يجعله مفهوما نقديا قادرا على إضافة ذات طابع نوعي لبناء القصة القصيرة جدا. يزيد من قوة هذه الإشارة أن بعضا من النصوص التي كانت مقترحة في هذه الإضاءة لم يتم إدراجها لأنها – ببساطة - بنيت بشكل يتجاوز المفهوم، وخصصت لها بالتالي ورقة خاصة. كل هذا يعني أننا لم نستعرض عضلة أي مفهوم على أي نص، وإنما فقط أظهرنا تجلياته التي كانت وراء «إبداعية » ذلك النص.
ثانيا:تجليات «الإزاحة والإحلال» في بناء القصة القصيرة جدا
1- سؤال:
قال الأمير الصغير وهو يرفل في الحرير لطفل ضامر يقف عاريا علي قارعة الطريق(صف لي هذا الجبار الطفل الضامر حتي بانت مصارينه الخاوية وقال للأمير( صدقني يا مولاي أنه لايمر في طريق تعبره انت المسمي بالجوع حتي أقتله، فالشكوي منه كثيرة هنا، هل يظن هذه البلاد بلا ملك يحميها؟) ضحك وأبيك أبدا، أما نحن فلا نراه ، ولكننا نعرفه جيداً، لو نظرت تراه الأن يصهل مسرجا خيله وتسمع جلبة ظاهرة)، نظر الأمير حوله بهلع، كان ثمة أجساد كثيرة ضامرة علي الأرض من حوله، اعاد نظره الي الصبي ، لم يجده، لكز الأمير حصانه في هلع ومضي ينهب الأرض هو وحاشيته دون أن يعبأ بشئ...
*****
صحيح أن القارئ لهذا النص يشعر بثقله، نظرا لأن السارد أراد أن يقول أشياء كثيرة، ولكنه اعتمد التشخيص بدلا عن التكثيف وهو ما يفسر الاستطرادات والأوصاف وأحيانا التكرار. ونحن هنا لسنا في محاسبته على ذلك، بل سعينا هو إزالة تلك القشرة لنشق نواته الحلوة الحاوية للذة. فإذا عدنا به إلى صفائه الذي كان مرسوما في وعي السارد نصل إلى هذه الصورة التقريبية:
الأمير:
- صف لي الجوع كي أقتله، أيعتقد أن البلاد بلا ملك يحميها؟
الطفل المتضور جوعا:
- إنه لا يمر في طريق الأمراء والملوك.
صرف الأمير بصره عن الطفل، كان ثمة أجساد كثيرة ضامرة تنظر إليه. أعاد النظر إلى الصبي، لم يجده. لكز حصانه ومضى وحاشيته ينهب الأرض.
أعتقد أن الذي منح للنص إبداعيته هو نوع من الإزاحة والإحلال، ولكن ليس على مستوى صورتين أولية وثانوية وإنما على ثلاثة مستويات: الشخصية والزمن والقيم. والملاحظ أن هذه التقنية لم تكن مباشرة بل خالقة للمفارقة ومن تم الدهشة.
كلنا يتذكر أميرا قال ذات زمن:« لو كان الفقر رجلا لقتلته» . وها هو النص في زمن غير ذاك الزمن يتحدث عن أمير يسعى إلى تحقيق ما عجز عنه سابقه:
- صف لي الجوع كي أقتله، أيعتقد أن البلاد بلا ملك يحميها ؟
أزاح النص أمير الزمان وأحل محله أمير الآن، وأزاح النص عجز الماضي وأحل محله إمكانية الحاضر. ولكنه احتفظ بالصفة ( الأمير) كرابط يضمن للنص حبكته ويرسم طريقه نحو النهاية. هذا من جهة، من جهة أخرى فالنص حشر نفسه منذ البداية في المنعطف الحاسم الذي عادة ما تحتفظ به القصة القصيرة جدا لتحقيق القفلة في النهاية، فكان لزاما عليه أن يجد منذ البداية مخرجا فنيا هادئا ( سياسيا لو سمحتم) لإيصال الرسالة. وأعتقد أنه حقق ذلك بكل فنية عبر مستويين:
الأول (دلالي): ويتجلى في الاشتغال على صراع خفي للقيم بين الماضي والحاضر، وعملية إخفاء هذا الصراع كانت مقصودة من طرف السارد وذلك بتوظيف الطفل كرمز للبراءة، وكأن الحال يقول على لسان الطفل: « يا سيدي الأمير لقد فكر أمير قبلك بهذا في زمن كانت فيه القيم تعلو ولكنه رأى فيها استحالة. وعليه فإن صدورها عنك في زمن تسفل فيه تلك القيم يمثل سذاجة وبلاهة (في الظاهر) أو سخرية (في القصد)». هذا ما أرى أن السياق يسمح به عبر هذا الملفوظ السردي:
- إنه لا يمر في طريق الأمراء والملوك.
الثاني ( فني): تكسير بناء النص من الحوار إلى مباشرة السرد باستدعاء فضاء تشكيلي يؤثثه الطفل، والأجساد الضامرة، والأمير والحاشية، (وهو أمر ينهل من شعرية المكان والأشياء كما هو الحال في الرواية)، وثلاثة أفعال سردية حركية ذات طبيعة حادة وصارمة ألقت بالنص بسرعة إلى نهايته:( صرف- أعاد- لكز- مضى). وسرعة انقذاف النص نحو نهايته كان وراء ما حققه من دهشة عبر ملفوظ سردي فعلي اعتمد الفعل المضارع الدال على استغراق الحدث في الحاضر والمستقبل وأنيطت به مهمة خلق المفارقة « ينهب الأرض».
اختصارا ماذا قال النص؟ قال إن الحاكم يمارس لعبة بسيطة، فهو يخاطب عواطف المحكومين لتضليلهم وصرف وعيهم عما ينهبه من ممتلكات هي في الأصل لهم، أمنوه عليها لرعايتها وتدبيرها.
فنيا كيف أوصل النص الفكرة؟ عبر بناء مزدوج سعى فيه السارد إلى خلق المفارقة؛ ففي الوقت الذي كانت الدلالة تبني نفسها عبر ثنائية تشبه إلى حد ما التناص من خلال الصراع بين الماضي والحاضر على مستويات الزمن والقيم والفعل، وفي هذا المستوى كان يوهم المتلقي أنه يعالج هذا الصراع بشكل هادئ ودود؛ كانت الحبكة تشكل نفسها عبر ثنائية مماثلة وذلك بتكسير بنية الحوار والتوجه في غفلة من المتلقي نحو الجملة السردية الخبرية السريعة والصارمة والصادمة. إن الانعطاف السريع في بنية السرد هو الذي خلق الدهشة عند المتلقي لأنه شعر حقا أن الهدوء في معالجة الصراع لم يكن سوى إيهاما. فلا يتعلق الأمر بمعالجة وإنما بحمل رسالة كاشفة عن واقع سخيف.
كلمة للتداول: اعتماد المفارقة كان إحدى أدوات الاشتغال المعتمدة في النص من أجل خلق الدهشة، ولكنها لم تكن بسيطة بل مركبة زاوجت بين تناص الدلالة في صورة إزاحة وإحلال، والانعطاف المفاجئ للحبكة من بنية الحوار إلى السرد عبر الخبر، مما يوحي بأن ثمة عملا مخططا له بإتقان يمنح للنص جماله وقيمته ضمن القصة القصيرة جدا. وكما أوردت في مفتاح هذا النص ( وتلك وجهة نظر ) أن ما جعله مضببا أحيانا هو الثقل الذي خلقه الاستطراد والوصف على نمط ما نجده في النصوص السردية الطويلة.
*****
2- زليخة
اعتد لهم متكأ في جنته الغناء باسطا خيام الكرم ..أكلوا سعداء ,مادحين له..فجَّرَتْ ضحكاتهم رِضًا في قلبه المسكون بها فناداها تشاركه خبز فرحته
-اخرج عليهم !!..
فلمَّا رأوها تَعانقتْ خناجرهم في جسده من دبر.. أستطيع أن أقول منذ البداية إن النص لعب على الوتر الحساس في فن القصة القصيرة جدا، وهو السير بالمتن الحكائي نحو تفريغ ذروته بسرعة. وهذا ما يجمع الدارسون على أهميته في بناء هذا اللون الفني والمعروف عندهم بالاختزال. وأرى شخصيا أن النص نجح في توظيف هذه التقنية عبر توالي أفعال السرد عن طريق تبادل الأدوار، وهو التبادل الذي وقى السرد من الرتابة. احتفظ ضمير السرد بسلطته كمراقب وعارف بكل شيء على طول النص ولكن بخلق مشاهد مختلفة ومتناغمة: المفرد (اعتد)، الجمع (أكلوا)، المؤنث المعنوي (فجرت)، المفرد(ناداها)، الجمع(رأوها)، المؤنث المعنوي( تعانقت). ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل إن تبادل الأدوار بدا وكأنه محسوب رياضيا:
المفرد + الجمع+ المؤنث المعنوي (فعل الأمر) المفرد + الجمع+ المؤنث المعنوي
ثمة تشكيل هندسي يوظفه النص - وهنا تتجلى فرادته المحققة لإبداعه- ويعتمد هذا التشكيل على ملفوظين سرديين متفقين في البناء. يتضح هذا جليا من خلال الترسيمة البسيطة التالية:
اعتد لهم متكئا أكلوا سعداء فجرت ضحكاتهم
ناداها تشاركه رأوها تعانقت
وكون هذين الملفوظين السرديين متناغمين، فإن مركز القص ( إن صح هذا التعبير الهندسي) سيكون في الملفوظ السردي المختلف وهو: « أخرجي عليهم». ويزكي زعمنا هذا أنه يحمل – من جهة - كل الإشارات السابقة على مستوى البناء. فكل أفعال السرد المتناغمة في الملفوظين ذات طابع حركي دونما استثناء وهو الطابع الذي يجسده الخروج، كما أن ما سميناه بتبادل الأدوار حاضر أيضا: المفرد في السارد، والمؤنث في ياء المتكلم والجمع في عليهم. ومن جهة أخرى فإنه يضطلع بالمركزية الدلالية، وأرى أنه حقق ذلك على مستويين:
- إشاري بالنسبة لعتبة النص الأولى وهي العنوان (زليخة).
- وظيفي كونه حقق المفارقة الدلالية بين أن يشمل مديحهم (زليخة) باعتبارها اليد الخفية في المتكئ والأكل السعيد، وبين أن يغتالوا مضيفهم من أجل (زليخة) طبعا.
كل هذا مثل مستوى واحدا من فنية النص، أما المستوى الثاني فيظهر في توظيف حكاية (زليخة) بصورة مقلوبة. إنه شكل من الإزاحة والإحلال في شقها الدلالي. ففي الوقت الذي تحكي فيه القصة التراثية عن إقدام زليخة على فعل الإغراء عبر المراودة الفعلية، يخرج علينا النص بصورة جديدة للإغراء تتجسد في التأثير العاطفي والنفسي.
على مستوى التأويل أرى أنه يمكن اعتبار هذا التقاطع الدلالي بين القصتين إعادة قراءة وفهم لمفهوم المراودة كما ذكرت في قصص التاريخ وفي النص القرآني أيضا.
كلمة للتداول: إضافة إلى التشكيل الهندسي الدقيق الذي كتب به النص والتناغم الدلالي الذي حققه، فإن التناص مع النص التراثي لم يكن تماهيا معه بل هو إزاحة لدلالة مفهوم وإحلال دلالة جديدة له. وهذا الفهم الجديد هو الذي حقق توازن النص وتماسكه كونه تحكم في بنائه، سواء بوعي من السارد أو بدونه. وإذا كان نص زليخة صارما وحادا في بنائه وهذا ما يدفعنا إلى أن نندهش له كمحللين فأرى – وهي وجهة نظر- أن عتبة العنوان لعبت دورا كبيرا في فنيته إلا أن عبارة «من دبر » بقدر ما أريد لها أن تحافظ على التناغم بين النصين الغائب والحاضر إلا أنها وضحت العنوان أكثر فلم تترك لنا فرصة كبيرة للاستمتاع أكثر بالدلالات التي يمكن أن نعاني من أجل الوصول إليها. فمتعة القصة القصيرة جدا تكمن في لحظة تخطي عتبة المعاناة أثناء الكشف الفني والجمالي.
*****
3- حجامة
على شرفةِ (الفيلا) المُطِلَّةِ على البَحْر ..
الوزيرُ المتديِّنُ يئنُّ ويسألُ:
ــ ألَمْ تنْتَهِ بعد ..؟
ــ لا يا سيِّدي .. فما زال الدَّمُ الفاسدُ يتدفَّق
- جسم مريض يخضع للعلاج في غرفة عمليات تقليدية.
يباشر العملية ممرض يؤكد للطبيب المشرف أن العملية لا زالت مستمرة طالما أن الدم الفاسد لا زال يتدفق.
التقنية الموظفة في النص هي اعتماد صورتين تكون الأولية منها قابلة لحمل الصورة الثانوية دونما أي تنافر أو خلل يفقد النص حبكته.
الصورة الأولية تضافر كل من العنوان والقفلة في نسجها. فالحجامة (عتبة العنوان) هي إزالة الدم الفاسد(القفلة). أما الصورة الثانوية المحمولة عبر الصورة الأولية فهي التي حلت عبر ملفوظين سرديين هما «الوزير وسيدي» وهما اللذان اضطلعا بوظيفتين متكاملتين: إزاحة الصورة الأولية وإحلال الصورة الثانوية التي هي قصد السارد ورسالته المحمولة إلى المتلقي. صعوبة هذه المغامرة الفنية تكمن في أن أي خلل في عملية التركيب قد يجعل النص مترهلا وتصبح الحبكة على المحك. وأعتقد أن النص نجح في الحفاظ على تماسكه وذلك من خلال توظيفه لمخيال مشترك بين السارد والمتلقي يتوضح بالإيحاء إلى مفهوم « الشعب» وذك على الشكل التالي:
الحجامة: علاج (شعبي)
الوزير: علاقة حكومة (وشعب)
الدم الفاسد: موضوع العلاج (الشعبي)
كلمة للتداول: اعتماد صورتين أولية وثانوية، وتوظيف تقنيتي الإزاحة والإحلال، وانتخاب ملفوظ سردي تناط به المهمتان، واستحضار مخيال المتلقي كلها عناصر توحي بأن النص تم الاشتغال عليه ولم يخضع لعفوية أو ارتجال أو تداع لصور ما، يعني أن له حقه من الإبداع. وهذا في اعتقادي يغني عن غياب تقنيات أخرى للقص. لأنه ليس لزاما على النص أن يكون محشوا بالتقنيات حتى يأخذ صفة إبداع بل الاشتغال الفني الخلاق هو الذي يضمن له هذه الصفة.
وجهة نظر: ما دامت هذه القراءة قد بلغت في زعمها إلى ما بلغته، فخارجها تتشكل وجهة نظر تعني صاحبها، وهي ما دام أن النص تشكلت لديه القدرة على إيصال الدلالة فنيا عبر ما ذكر فهناك يتجسد صفاؤه وشعريته، وما تبقى يعتبر هامشا وهذا هو المشكل الحقيقي في القصة القصيرة جدا، لأن توظيف الهوامش أحيانا يغني النص عبر التأويل وأحيانا يفسد عنه نقاءه ( ولا يفسد النص طبعا). فأنا أرى أن شرفة الفيلا المطلة على البحر وصفة المتدين قد تفتح على النص هامشا هو في غنى عنه. بعبارة أخرى قد ينصب النقاش على الهامش ويترك الجوهر يتيما. وهذا خطر على الإبداع عامة.
*****
4- التباس
تكدست أوهامه حول رأسه...نفضها عنه بالتفاتة...أخيراً جاوز سور المنزل....أدخل يده بجيبه ليخرج منها هويّة لا تشبهه.
« إن الإنسان هو ما يحمله من أوهام». هذا هو جوهر الفكرة في هذا النص. فإذا لم ننظر إلى عبارة «أوهام» نظرة سيكولوجية خالصة، فإنها تقذف بنا إلى الفلسفة التجريبية الإنجليزية وخاصة عند فرنسيس بيكون المعروف بأوهامه الأربعة ( الجنس والكهف والسوق والمسرح). ليس من الصعب إذاً أن نصوغ أفكارا فلسفية في قالب فني، وهذا النص بقدر ما هو شاهد على ذلك بقدر ما يشكل ذلك جزءا من فنيته وجماليته. ولكون مقاربة هذا النص بدأت دلاليا فلا بأس أن نضع فهمنا الخاص له، تماشيا مع السياق الذي افترضناه على أن نبحث في بنائه لاحقا.
ليكن بطل النص صورة لما تصوره فرانسيس بيكون عن الإنسان الحامل للأوهام، باعتبارها نتيجة لعجز العقل عن الإدراك، فالملفوظ السردي «نفضها عنه بالتفاتة» يحمل إشارة واضحة إلى التحول نحو العقلانية، نحو ذات وكيان جديدين، وبعبارة النص نحو هوية جديدة، هوية تختلف عنه حاملا للأوهام «هوية لا تشبهه». من هذه الزاوية فالقائل إن النص يطرح تناقضا لم يعد لها أي سند يدافع به.
من هذه الزاوية تبدأ محاورتنا الفنية للنص. فعتبة العنوان لم تلعب لا دورا وظيفيا ولا إشاريا ولا تكثيفيا على عادة ما تضطلع به العناوين، وإنما لعبت دورا تضليليا إيهاميا. إنه مستوى من مستويات الإزاحة والإحلال. إزاحة الصورة النمطية لعتبة العنوان وإحلال صورة جديدة مبتكرة. هكذا تتداعى العتبة مع الذروة، أو هكذا يتداعى الملفوظ السردي «هوية لا تشبهه» مع العنوان «التباس» فيخلقان لنا عبر التداعي تضليلا بأن البطل يعيش انفصاما أو تناقضا. في حين أن النص متدرج منطقيا في متنه. وأنه مارس خدعة فنية ليس إلا، وذلك عبر تقنية الإزاحة والإحلال داخل العنوان.
كلمة للتداول: أرى أن الدهشة التي تصيبنا ونحن نفك لغز هذا النص كافية لتجعل منه نصا إبداعيا له موقعه ضمن فن القصة القصيرة جدا، وقد ساعده في ذلك اعتماد تقنية تسريع الحكي والسير بالنص إلى ذروته في أقصر زمن سردي ممكن باعتماد أفعال السرد الماضية، هذا إذا ما تجاهلنا نقط الحذف لأنها تلعب – من وجهة نظري - دور الإبطاء في تلقي النص، وهو ما لا يتماشى مع التسريع المعتمد فيه، وإذا ما تجاهلنا أيضا عبارة «أخيرا» التي تفرغ أنفاس المتلقي قبل الذروة، في حين أن اللام الملتصقة بالفعل «يخرج» وإن كان تأثيرها خفيا إلا للقراءة المتأنية فأرى أن الاستمرار في الفعل الماضي يكون أفضل:« أدخل يده في جيبه، أخرج منها هوية لا تشبهه». وكان بإمكان النص أيضا أن يمارس تضليلا فنيا أكبر لو تذيل بعلامة استغراب (!).
*****
5- السُّبب
كُلَّما احْتدَّ نقاشُهما في زيادةِ المصروف ..
تلجأ للبكاء .. يخرج ممتعضا ..
وفي الطريق إلى البقالة يراجع نفسه ويقنَعُ تماما بأنّه السّبب ..
يشتري لها مناديل ويعود .. !! حالة اجتماعية قد تحدث بين الفينة والأخرى داخل البيوت محدودة الدخل. وهذا ما يعطي للنص شعريته، كونه عمد إلى التقاط جزء من الواقع في بساطته، بحيث لا يشعر المتلقي أنه أمام نص لغوي أكثر ما يشعر أنه أمام واقع دنيوي. والدلالة واضحة فيه سوى أن بناءها كان إبداعيا كما سنرى: ما الذي يمكن أن يقوم به صاحب دخل محدود حين يرى أن زوجه تضيف على كاهله مصاريف إضافية فوق طاقته؟ لا بد من مناقشة الأمر، وطبيعي أن يحتد النقاش سيما مع امرأة لا تدرك أن مطالبها خارج الإرادة. وإذا تعلق الأمر بها من طينة «معزة ولو طارت» !، فالواقع المعقول يدفعها إلى توظيف السلاح الأكثر تأثيرا وهو البكاء. وإذا تعلق الأمر بزوج يحسب الأمور في نطاق ما تسمح به الظروف لا في نطاق ما تمليه عليه العواطف، فإن بكاء الطرف الآخر بالنسبة إليه ما هو إلا لعبة للتضليل، وإيهام بعدم الاهتمام، وما إلى ذلك مما يثيره البكاء في نفس الرجل من مشاعر جمة. وكونه يراه لعبة فلتبك قدر ما شاءت. يتدرج بنا النص عبر مشهدين: المشهد الأول: فضاؤه البيت، وموضوعه النقاش بين الزوجين الذي أفرز حالتين نفسيتين: البكاء والامتعاض. المشهد الثاني: فضاؤه الشارع العام، وحالته النفسية مراجعة الموقف، وموضوعه شراء المناديل. بين المشهدين الأول والثاني عناصر ثلاثة: فضاء وموضوع وحالة نفسية. واللعب بهذه العناصر هو الذي كان وراء المفارقة التي اعتمدها النص في بناء الدلالة. والأمر من الناحية التصورية غير معقد، فلا يتضمن سوى إزاحة وإحلال شملا الحالة النفسية والموضوع، بحيث أزيح الموضوع في المشهد الثاني من رتبته الثانية كما تموقع في المشهد الأول، وأحل في الموقع الثالث الذي أزيحت منه الحالة النفسية التي أحلت في الموقع الثاني. وبين الإزاحة والإحلال المتبادلتين تحققت المفارقة. ويوضح ذلك الخطاطة التالية المشهد الأول: 1- فضاء (المنزل) 2- موضوع ( النقاش) 3- حالة نفسية ( البكاء والامتعاض) المشهد الثاني: 1- فضاء ( الشارع) 2- حالة نفسية ( مراجعة الموقف) 3- موضوع ( شراء المناديل) كلمة للتداول: نص اعتمد المفارقة كاستراتيجية فنية، والتدرج نحو تحقيقها تضمن لعبا بالمواقع الثلاثة المذكورة كشكل من أشكال الإزاحة والإحلال. وكون النص جاء سريعا وكانت النهاية حادة بما يتلاءم مع عنصر المفارقة المعتمدة، فمن وجهة نظري أن نقط التوتر (..) التي ذيلت الملفوظات السردية «المصروف»، و«ممتعضا»، و«السبب» كان النص في غنى عنها. كما أن الملفوظ السردي الأخير كان في حاجة إلى نقط للتتابع(...) عوض علامتي الاستغراب ونقطتي التوتر. مع إشارة إلى أن صفاء النص من الاستطرادات والأوصاف الكثيرة خدم البناء والدلالة معا. *****
6- رصاصة كان يعلمُ بأنَّ مقالاتَه لَنْ تمرَ بسلامٍ.
نقلَ أُسرتَه إلى سَكنٍ آخرٍ.
في المساءِ، يَشعُرُ بأنَّ هناك قناصاً في البنايةِ المقابلة.
قال لنفسِه:
لنْ أتحوَّلَ لجرذٍ... لابد من المواجهة.
القنَّاصُ يُنظِّفُ بندقيتَه ذات المنظارِ الليلي.
فتحَ الكاتِبُ نافذةَ مكتبه، أعدَّ القنَّاص بندقيته.
وقف الكاتبُ على النافذةِ، فتحَ صدرَه، صوَّب القنَّاص عليه.
خرجتْ رصاصةٌ فأصابتْ..... القنَّاص في رأسه.
نظرَ الكاتبُ مندهشاً لقلمه، وجدَ حِبالاً مِنْ الدُخَان تخرج منه «السيف أصدق إنباء من الكتب ***** في حده الحد بين الجد واللعب بيض الصفائح لا سود الصحائف في ***** متونهن جلاء الشك والريب والعلم في شهب الأرماح لامعة ***** بين الخميسين لا في السبعة الشهب أين الرواية بل أين النجوم وما ***** صاغوه من زخرف فيها ومن كذب» من منا لم يستعذب هذه البائية التمامية الحماسية الجميلة الموقعة على البسيط؟ وأي شاعر من شعراء الإحياء لم ينهل منها بغية بعث الشعر العربي من سبات القرون الوسطى؟ نعم لقد كان لفتح عمورية صداها في الأدب العربي الحديث، فعاد إليها الأدباء ليعيدوا إليها الحياة. وإن كان لهذا النص الذي بين أيدينا من قيمة جمالية فلأنه أعاد مطلعها في فكرة مختلفة، بحيث أنه مارس على مطلعها نوعا من الإزاحة والإحلال ولكن في صورة جزئية. ففي الوقت الذي أزاح فيه عن الكاتب دلالة التنجيم التي تحملها عبارة الكتب في مطلع القصيدة، احتفظ بالسيف في صورة الرصاصة ثم بنى الدلالة المعكوسة:" «الكتاب/ المقالات أصدق إنباء من السيف/الرصاصة». والحقيقة أن هذا اللعب الجميل بالدلالة الماضية من خلال تناص مبني على الإزاحة والإحلال هو ما يعطي للنص فرادته وأصالته في بناء الدلالة الحاضرة. وقد اعتمد النص في هذا البناء على عنصر المفارقة التي أبدع حقيقة في تشكيلها. ففي الوقت الذي تدرج فيه النص عبر تصوير مشهدين متوازيين من بنايتين متقابلتين اعتمد فيهما أفعالا ماضية حركية ذات طابع انفعالي تشد أنفاس المتلقي المتشوق إلى معرفة ما الذي سيحصل في النهاية. يخرج السارد بحدث غير متوقع: « خرجت رصاصة فأصابت القناص في رأسه». ليبقى المتلقي في حيرة السؤال عن مصدر الرصاصة. وحتى هنا بقي النص خارج القصة القصيرة جدا، لأنه يمكن إنشاء سيناريوهات تجعل الحدث عاديا كأن يتلقى القناص رصاصة من شرطي كشف أمره. غير أن الملفوظ السردي الأخير:«نظر الكاتب مندهشا إلى قلمه وجد حبالا من الدخان تخرج منه» منح للدلالة انعطافها نحو غير المتوقع ومن تم خلق المفارقة التي منحت للنص قوته البنائية وفرادته الدلالية. كلمة للتداول: اعتماد التناص مع النص التراثي – بوعي أو بدونه ليس مهما – وإخضاع مضمونه إلى تقنية الإزاحة والإحلال جزئيا وليس كليا، أراه كان وراء اعتماد المفارقة في بناء النص، ويظهر الجهد الفني (الإبداع) في عملية البناء من خلال اعتماد المشهدين المتوازيين عبر البنايتين المتقابلتين الأمر الذي يفيد أن بناء الدلالة مر من مرحليتين: التصور والتخطيط. ومن وجهة نظري أن الشعور بمتعة الوصول هو الذي فوت على النص أن يعيد تأثيث نفسه، فانطرح دون تنقيح يضفي عليه مزيدا من الصفاء فجاء في بعض محطاته شارحا وموضحا تارة، وواصفا أحوال النفس تارة أخرى، مما خفف من سرعته نحو تفريغ الذروة حيث المتلقي ينتظر صدمة المفارقة الجميلة. كلمة أخيرة لقد كشفت هذه الإضاءة – في انتظار سليلتها المقبلة – كيف انكتبت النصوص أعلاه انطلاقا مما مارسه فعل السرد من إزاحة وإحلال، وتبين أن للمفهوم تجليات كثيرة شملت البناء والدلالة معا، بشكل كلي أو جزئي. وتنتظر هذه الإضاءة من يسلط عليها مزيدا من الضوء لتشع الطريق نحو القصة القصيرة جدا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق