"نظرية القصة القصيرة جداً" د. يوسف حطيني
By بدرية علي in مجموعة القصة القصيرة جدا
د. يوسف حطيني
ملاحظة أولية لا بدّ منها: هذه دراسة كتبت قبل أكثر من عشر سنوات، ونشرت في كتابي "القصة القصيرة جداً بين النظرية والتطبيق" الصادر عام 2004 عن دار اليازجي في دمشق، وبالتالي قد يجد القارئ بعض الاستثناءات والتحفظات والتوقعات التي كانت سائدة في ذلك الوقت، وهذا ما اققتضى التنويه. * * * لديّ، "إحساس" ابتدائي، ولكنه يقيني، يقود إلى أن القصة القصيرة جداً تتعامل بشكل مختلف مع العناصر القصصية التي تحاول أن تقربها من القصة القصيرة، فالحدث الذي تقدمه لا يتيح المجال لتقديمه عبر الوسائل غير المباشرة، كالحوارات الطويلة التي تكشف الشخصية أو المونولوجات أو المذكرات، من هنا تنشأ الحاجة إلى الجملة الفعلية، أو الجملة الاسمية ذات الطاقة الفعلية، أما في الأنواع الأدبية الأخرى فإن المرء يمكن أن يلجأ بشكل أكثر اطمئناناً إلى المراوغة. نضيف إلى ذلك أن الحكاية فيها مختصرة سهمية، والحدث يتجه رأساً ليواجه ظرفه المضاد، واللغة فاعلة لا تطمئن إلى الوصف الذي يجعل إيقاع السرد بطيئاً، والزمن والمكان مجرد إشارات برقية، هذا طبعاً إذا لم يكن الزمن أو المكان هو الذي يشكل زاوية الرؤية القصصية، لأنه عند ذلك سيتحول إلى ما يشبه الشخصية الرئيسة. وإن وجود عناصر مشتركة كثيرة بين القصة القصيرة وبينها، كالحكاية والشخصية والحبكة… لا يحرمها من استقلالها لأن هذه العناصر ذاتها موجودة في الرواية والمسرحية وفي كلّ أنواع النثر الحكائي. ويحتاج كاتبها إلى غير ما يحتاجه كاتب القصة القصيرة، لنقل إنه يحتاج إلى جانب الثقافة العالية وبراعة الالتقاط، القدرة على التركيز الذي يمكنه من رصد حالة اجتماعية أو سياسية أو فلسفية عبر أسطر محدودة، وليس كل روائي مبدع هو كاتب ناجح لها بالضرورة. ولكن الأمر لا يعدم بعض التداخلات بين الفنون عند بعض الأدباء، فثمة كثير من الذين يكتبون القصة القصيرة والرواية، وثمة من يترجح بين الشعر والنثر، أو بين النقد والقصة. وأنا أفترض، في مرحلة المخاض التي ما تزال تعيشها، أن يمر كاتبها بمرحلة كتابة القصة القصيرة كتمرين على السرد لأن ما أنتج حتى الآن لا يمكن أن يثقف الكاتب الثقافة الكافية لكي يكون بارعاً في هذا الفن الجديد. ومن الطبيعي أن يكون لهذه القصة لغتها التي تحدد هويتها، شأنها في ذلك شأن كل نوع أدبي، تلك اللغة التي تفرضها طبيعته ومكوناته الداخلية، ولكن هذا لا يفرض قاموساً معيناً على القاص، فهو لا يشترط مفردات متداولة أو غريبة، ذلك أن لكل حالة إبداعية، أياً كان نوعها، لغة خاصة بها. ويمكن لها، مثل القصة القصيرة والرواية، أن تستخدم الرمز والأسطورة ولغة المجاز والصورة، وكل هذه التقنيات لا تضر بها ولا تنفعها، والمسألة هي مسألة التوازن الداخلي للنص، فإذا كان النص يتطلبها ليعمق دلالته فهذا من شأنه أن يرفع سويتها الفنية، أما إذا كانت مجرد حاجة تزيينية فإنها ستعرقل السرد وتغلّ حركته. * * * وعلى الرغم من أن القصة القصيرة جداً بحاجة إلى معايير تميزها من فنون النثر الحكائي الأخرى، فأنا أعتقد أن الحديث ما زال مبكراً عن ضبطها بتلك المعايير من خلال مقياس نقدي صارم، صحيح أنني أطرح تصوراً نظرياً لأركانها، ولكنني لا أستطيع أن أفرض هذا التصور على المبدعين والنقاد على حد سواء. فثمة خلاف مع الناقد حول هذه العناصر، وثمة خلاف أيضاً مع المبدع الذي يمكن أن يطورها. غير أن هذا لا يعني أن الأمور ستبقى عائمة إلى الأبد، لأن السنوات القادمة، فيما أعتقد، ستفرز كثيراً من النصوص التي ستحاور النقد بجدارة، وعندها سيكون النقد مطمئناً أكثر للمقاييس التي تفرضها النصوص الأكثر تطوراً ونضجاً. ولا بد هنا من التأكيد أن وجود إطار نظري يحدد عناصرها لا يمكن أن يكون نهائياً، والمبدع الحقيقي هو الذي يلم بقواعد الفن من أجل أن يتجاوزها لا من أجل أن يتقيد بها تقيداً صارماً. وأنا شخصياً – مع إصراري على أن التنظير لها لا يكفي للعمل على رفع سويتها – أرى أن عناصر القصة القصيرة جداً هي: 1. الحكائية: فوجود الحكاية شرط كل نثر حكائي من الرواية إلى القصة إلى المسرحية والمقامة…إلخ غير أن غياب الحكاية في القصة القصيرة جداً يبدو مكشوفاً، فهذا النوع الأدبي لا يحتمل المواربة، بسبب قصره الشديد، وأي خلل لا يستطيع الاختفاء وراء مساحة النص، وقد يكون مثل هذا الغياب موارباً في القصة القصيرة والرواية، خاصة في السرد الوصفي. ويمكن للمرء أن يشير إلى بروز الحكاية فيها من خلال قصة "فجر" للقاصة ابتسام شاكوش: "اتفقت الكلاب على طرد الليل، اجتمعت بأعداد غفيرة في أعلى التل الكبير، ظلت تنبح مستعجلة الفجر ساعات وساعات، وحين جاء الفجر بموكبه المهيب من الشرق وجدها نائمة ". وعلى النقيض من ذلك فإن غياب الحكاية يفقد القصة القصيرة جداً أهم عناصرها، ويحولها إلى خاطرة في أحسن الأحوال، فإذا استعرضنا بعض النصوص التي تزعم الانتماء إلى هذا الفن وجدناها تضيع خطوط حكايتها، ولا تقدم حدثاً ولا تبني شخصية ولا تنسج حبكة تقود المقدمات فيها إلى الخواتيم أو الخواتيم إلى المقدمات، مما يجعل قصصهم أشبه بخاطرة، لا ترقى في معظم الأحيان إلى الأدب الرفيع، فإذا فزعنا إلى قصص القاص عماد النداف وجدناه في كثير من الأحيان يضيع الحكاية، وإن كان لا يضيع رونق اللغة فيما يكتب، ونستطيع هنا أن نشير إلى نص من نصوص "جرائم شتوية"، لندلل على إهمال الحكاية لصالح شاعرية اللغة وإنسانية النظرة. ففي نص "رسالة" يمكن أن نجد خلطاً واضحاً بين القصة والخاطرة إذ يقول: "حبيبتي اشتريت لك ثوباً كحلياً.. سأقدمه لك عندما أعود.. أنا الآن أمضي الليلة وحيداً أرقب النجوم.. اسمعي..هذه النجوم أستطيع أن أقطفها لك، وأرميها فوق ثوبك الكحلي، لكي تعرف النجوم أنك القمر" ¬ ولانريد هنا أن ننقص من قدر شاعرية هذا النص ورقته وجمال لغته، ولكننا نشير إلى ضياع الحكاية أو عدم تمركزها حول محور من المفترض أن يكون واضحاً، مما يفقد القصة هويتها وجدارة انتمائها إلى النثر الحكائي. ويبدو أن سحر الشعر يغري كثيراً من كتاب القصة، إلى درجة تتماهى فيها لغة السرد الحكائي مع لغة الشعر، وتضيع حدود الحكاية، ويمكن للمرء أن يلاحظ هذا الأثر في قصص حياة أبو فاضل القصيرة جداً، ففي قصة لا عنوان لها تقول حياة: "صداقتنا مذ خَلَعَ ألوانَ الخريف عن شجرة المشمش في حديقتنا. وقفتُ تحتها صغيرة، مأخوذة، شعري يصافح الورقَ الراقصَ والهواءَ البارد، وصوتُ أمي طائرٌ من داخل البيت: "ادخلي، أو ضعي قبعتك على رأسك!" سمعتها وما سمعتها. كنت أعقد عهد صداقة مع الشماليِّ الساحر القاسي. فكيف أخفي عنه شعري الطويل داخل جدران قبعتي؟ " وللمرء أن يعطي مثالاً آخر عن غياب الحكاية الذي يخرج هذا النوع عن جنس القص، فالقاصة عبير كامل إسماعيل التي قلما تفلت الحكاية من يديها تخفق في أحيان قليلة في القبض على أطرافها، فتقدم نصوصاً لا تنتمي بحالٍ إلى السرد القصصي، فثمة لديها نص عنوانه "حضور" تقول فيه: "تقول الحاضرة للغائب: ما أشدّ وقع حضورك في الغياب" . وعلى الرغم من الفكرة التي تحاول القصة إيصالها، ومن الجهد الواضح في انتقاء الكلمات، فإن عدم وجود الحكاية يخرج النص من القص. ولعل انشغال المبدع بشعرية النص يفضي به إلى تغييب الحكاية عن عمد، أو عن غير عمد، وفي هذا الإطار تندرج التجربة المبكرة للقاص والشاعر الفلسطيني محمود علي السعيد الذي بدأ بنشر هذا الشكل والتبشير به منذ بداية السبعينات، غير أن أول مجموعة من القصص القصيرة جداً صدرت له هي مجموعة "الرصاصة" وقد صدرت عام 1979، فالحق أن معظم قصصه تعاني غلبة الشعرية، وهو شاعر معروف، على الحكاية مما ينتج نصاً هجيناً ضائع الهوية بين القصة والشعر والخاطرة، وهذا أحد الأمثلة: "الورقة: في فسحة من فضاء الحلم الأزرق، راق في عينيه الطقس، فاستيقظ قبل زقزقة العصافير يحمل محفظته الشقراء كجدائل غيمات فصل الخريف، يمتطي قطار الريح، يعبق برائحة الفل المتطايرة كشرارات موقد الحطب من شرفات حارات حلب القديمة ذات الإيقاعات الجمالية الخاصة جداً بفن الهندسة والزخرف، يستقبل صفحات جريدة الجماهير العربية بعشق، يطالع إشكالات الثقافة العصرية عبر حوار طاقة من الشباب الطيب فكراً وثقافة وقشعريرة الشوق إلى فلسطين تخفق بجناحيها بمسافة طويلة تضم الوطن دفعة واحدة حتى يصحو من دوامة التساؤلات، وقد انفرطت من عقد القصة على صوت فاطمة يرشح من زجاج المقهى.. صباح الخير يا حبيبتي ". وللحق فإن مثل هذا الشكل من الكتابة- وإن كان يقوم على سلامة نيّات القاصين في خدمة القصة القصيرة جداً- يضيع حدود المصطلح ويجعل الحدود عائمة بين هذا النوع الأدبي وبين أشكال الكتابة النثرية الأخرى. 2. الوحدة: كما تعد الوحدة (وحدة الحبكة والعقدة بشكل خاص) ركناً لا غنى عنه، لأن تعدد الحبكات والعقد والحوافز المحركة للأحداث، وتكرر النماذج المتشابهة، يمكن أن يقود إلى نوع من الترهل الذي يفقد القصة القصيرة جداً تمركزها. في قصة "قاراقوش" يحشد عدنان كنفاني رموز الغابة ممثلة بحيواناتها المختلفة في وحدة قصصية مركزة من أجل أن يقدم قصة عميقة الدلالة مستفيداً من اسم العلم التاريخي في إسباغ صفة الظلم على الطاغية، ليجتاز النص الغابة نحو دلالة أكثر اتساعاً وتعدداً: "فرامان سلطاني شديد اللهجة يقول: كل حمار (مهما كان تصنيفه) ينهق في الأماكن العامة يتعرض لعقوبة الخوزقة. ساد الهرج والمرج وتزاحمت وحوش الغابة وطيورها وحشراتها تغادر مواطنها هرباً.. قال حمار يخاطب أرنباً هارباً: لماذا تهرب والفرامان يخصنا دون سوانا؟ ضحك الأرنب ساخراً، وأجاب: في غابة مثل هذه، كلنا حمير. وانطلق يركض على غير هدى ". ولعل قصة "تقمص" لعبير كامل إسماعيل تصلح مثالاً آخر لوحدة الحبكة والعقدة، إذ تركز اللغة على حالة العشق دون أن تضيع البوصلة: "عندما أحرقوا جسده انتقاماً.. أخذت رماده، مزجته بتراب حديقة منزلها.. بعد شهور نبتت ياسمينة بيضاء، امتدت.. وامتدت حتى سورت قصور المدينة كلها ". 3. التكثيف: وهو أهم عناصر القصة القصيرة جداًً، ويشترط فيه ألا يكون مخلاً بالرؤى أو الشخصيات، وهو الذي يحدد مهارة القاص، وقد يخفق كثير من القاصين أو الروائيين في كتابة هذا النوع الأدبي، بسبب عدم قدرتهم على التركيز أو عدم ميلهم إليه. في مجموعة "مرور خاطف" لمحمود شقير" يلجأ القاص إلى التكثيف، وهو عندما يلجأ إليه لا يذكر أي تفصيل غير ضروري، وإذا كانت القصة التي تحمل عنوان "تمساح" مهتمة ببعض التفاصيل الصغيرة، فإن هذه التفاصيل تبدو ضرورية في إثارة التمساحين اللذين تتحدث عنهما: "تمساح باهت الجلد، مسترخ تحت شمس الظهيرة، مرتاح لبلادته التي لا توصف، يرقب بسكينة ودعة، المرأة وهي تتعرى ببطء لذيذ، يرقب بالسكينة وبالدعة نفسها، الرجل وهو يتمسح بالمرأة التي تبدو مثل فريسة سهلة المنال، التمساح وهو مسترخ تحت شمس الظهيرة، يذرف الدموع، شفقة على المرأة التي ركضت، ضاحكة، مستثارة نحو حافة الماء، وهي لا تدري أنها تغوي تمساحين اثنين في وقت واحد) . وربما تكون قصة "الفاعل" لطلعت سقيرق أحد النماذج الناجحة للتكثيف الذي تتطلبه القصة القصيرة جداً، تقول القصة: "اصطف الطلاب.. دخلوا بنظام، جلسوا على مقاعدهم بهدوء، قال المعلم: درسنا اليوم عن الفاعل.. من منكم يعرّف الفاعل؟؟ رفع أحد الطلاب إصبعه.. وقف.. تثاءب.. قال: الفاعل هو ذلك الذي لم يعد موجوداً بيننا.. ضحك الطلاب، وبكى المعلم.. " غير أن الذي يوقع هذه القصة، ذات الفكرة المدهشة، في المكرر المألوف هو اللغة الإخبارية التي لا تجتهد في إعطاء السرد سمته الجمالية. وللتدليل على الأثر السيئ الذي يمكن أن يحدثه فقدان التكثيف في القصة يمكن أن نشير إلى قصة لمحاسن الجندي، بعنوان "بيتان" وكانت قد ألقتها في الملتقى الرابع للقصة القصيرة جداً: "اختلفا فيما بينهما، ولم يطيقا العيش معاً، ثم أعلنا الطلاق وبكى الأطفال.. أراد كل منهما أن يعمر بيتاً مريحا للأولاد: اشترت أرضاً قريبة من القلب واشترى مساحة قريبة من العقل المتسلط. أشادت غرفة صغيرة من الصدق والعفوية، وبنى غرفة شاسعة من الكذب والادعاء.. بنت غرفة من الحرية، وبنى غرفة من التربية الصارمة. ملأت مطبخها بفواكه الحنان والتضحية، وملأ مطبخه بفواكه الحب المطعمة بفاليوم الخوف والأنانية. سيجت بيتها المنمنم بورود الجرأة والتفاؤل والفرح، وسيج بيته بسياج الكآبة والتسلط.. حينها طار الأولاد صوب البيت الصغير على جناحي فرح إنساني لا تشوبه شائبة". فإذا قرأنا هذه القصة بهدوء وجدنا تكراراً على مستوى الفكرة، وعلى مستوى التضاد، وعلى مستوى اللغة: نحواً وصرفاً وتركيباً، وهذا ما يجعلها قصة مترهلة يمكن حذف الكثير منها دون أن تتأثر بنيتها الأساسية، بل إن الحذف يمكن أن يدفع القصة نحو تحقيق فكرتها بنجاح. 4. المفارقة: وهي عنصر من العناصر التي لا غنى عنها أبداً، وتعتمد على مبدأ تفريغ الذروة، وخرق المتوقع، ولكنها في الوقت ذاته ليست طرفة، وإذا كانت هذه القصة تضحك المتلقي، في بعض الأحيان، فإنها تسعى إلى تعميق إحساسه بالناس والأشياء، ولعل إيجاد المفارقة أن يكون أكثر جدوى في التعبير عن الموضوعات الكبيرة، كالعولمة والانتماء ومواجهة الذات. ولابد من الإشارة هنا إلى أن ضرورة وجود المفارقة فيها هي إحدى نقاط الخلاف مع الدكتور أحمد جاسم الحسين، فأنا أراها عنصراً لازماً أما هو فيراها تقنية ممكنة الاستخدام. وقد درست من أجل حسم رأيي حول هذه المسألة مئات النصوص المتوفرة، منطلقاً من أن النص القصصي هو الذي يفرز أدواته التي تناسبه، وثبت لدي أن ما قرأته من القصص الناجحة حتى الآن يعتمد اعتماداً كبيراً على المفارقة. ولا شك أن الحل لا يكون بالإقحام القسري لها بل بالبحث عن صيغ سردية مناسبة لأن المفارقة هي الأقدر على رفع إحساس المتلقي بالقصة القصيرة جداً التي لا يمكن أن تكون ناجحة أبداً بدونها. ومن القصص التي تحقق مفارقة ناجحة قصة للسيدة جمانة طه تحمل عنوان "مفاجأة" تقول فيها: "ملأت كفها بحفنة من تراب الوطن. حدقت فيه، وجدته مملوءاً دبابات وأسلاكاً شائكة" . ونشير هنا إلى قصة "صناعة محلية" للقاص عمر الككلي ، وهي قصة مبنية بدقة على فكرة الهامش/ الحرية التي تكبر في ذهن الكاتب مثل كرة الثلج، ويبدو هذا الأمر ضرورياً من أجل أن يزيد الإحساس بعمق المفارقة في نهاية القصة: "دخل محلاً لبيع القرطاسية والأدوات المكتبية، كان يريد كراسة أوراقها بأربعة هوامش.. اثنان.. واحد في أعلاها والثاني في أسفلها.. واثنان.. واحد على اليمين والآخر على اليسار، وكان الهامشان الأخيران الأهم لديه. - ليس عندنا كراسات صناعة أجنبية. ثم رمى أمامه بواحدة: - لدينا فقط هذا النوع. به هامش واحد على اليمين. لم يفحص الكراسة، وفكر في الانصراف.. لكن خطر له أن هامشاً واحداً يكفي، فهو سيكون على يمين وجه الورقة التي سكون شفافيتها كافية لتعويض الهامش الآخر، الذي ينبغي أن يكون على اليسار، بالهامش الموجود على يمين ظهرها.. أعجبته نباهته، وأحب أن يصوغ ذلك في قاعدة عامة: إذا توفر هامش وقليل من الشفافية، يمكن التحايل لتعويض الآخر. ارتضى هذه النتيجة، وأخذ الكراسة دون أن يفحصها، فهو محتاج في جميع الأحوال إلى ورقة للكتابة.. عندما جلس وفتح لكراسة للكتابة تبين أنه لا يوجد بها أي هامش" . ومثل هذه المفارقة تبنى غالباً على سرد سابق، وتأتي تتويجاً لمجموعة من الجزئيات الموضوعية أو اللغوية، وثمة قصة لمحاسن الجندي بعنوان "مع من وردة اللقاء" تنجح في إقامة مفارقتها ببراعة: "رنّ الهاتف… قال بضع كلمات وهمّ بمغادرة مكان عمله. سأله منذر عن السبب، فأجاب باختصار المستعجل: - تلك التي كانت تحدثني على الهاتف مدة شهر كامل، ولم أعرف اسمها أو شكلها، أعطتني موعداً في الشارع المجاور.. قال منذر: - وكيف ستتعرف عليها…؟ - قالت إنها ستلبس ثوباً أزرق، وغطاء رأس أبيض، وستحمل في يدها اليمنى 0وردة حمراء. وعندما دخل غرفة النوم ليغير ملابسه رأى منذر على السرير ثوباً أزرق وغطاء رأس أبيض.. أما الوردة… " وينبغي التأكيد أن المفارقة ليست هي النكتة بالضرورة، وإنما هي تفريغ الذروة التي يرفعنا نحوها السياق الأدبي، والنكتة أو الطرفة نتيجة غير حتمية لها وليست أساساً. إذ ثمة كثير من القصص التي تقوم على مفارقات تعمّق الإحساس بالحياة وتزيد من رصيد الوعي الفكري والجمالي لدى الناس، ولنا أن نشير إلى قصة "تضامن" لعلي صقر حتى نرى تلك المفارقة التي تتوجه إلى قارئ يضحك مذبوحاً من الألم: " بعد بروفات دموية على جسد محمد الدرة.. سمحوا بمسيرات تضامنية. فخرجوا يصرخون: نحن مع.. مع.. مـــاع.. مـ…ـــاع.. مــ…ـاع.. مـ..ـ..ـ..ـ..ـاع" 5. فعلية الجملة: ويبدو هذا العنصر نتيجة أكثر من كونه شرطاً، فالقاص الذي يتابع حكايته، وينمي حركتها، يتعامل بشكل أكبر مع الجملة الفعلية، أو مع الجملة ذات القدرة على الفعل (كالجملة الاسمية التي يأتي خبرها جملة فعلية)، وقد استعرضت عدداً كبيراً جداً من هذه القصص فرأيت ميلاً حاداً، يبدو لي قسرياً، نحو استخدام هذا النوع من الجمل. إن المطلوب من القصة القصيرة جداً إيصال الدلالة عبر أقصر الطرق التي لا تخرج بالفن عن طبيعته الجمالية، وبالتالي فإن إعطاء الأولوية لتطوير الحدث يتطلب استثمار الطاقة الفعلية للغة إلى أقصى حدّ ممكن لأن إهمال ذلك من شأنه أن يؤدي إلى ترهل الحكاية وعرقلتها عبر سرد وصفي يكون أكثر قبولاً في القصة القصيرة والرواية. في قصة "انفتاح" للقاصة الكويتية ليلى العثمان دعوة للانفتاح على الآخر ومحاورته من خلال أربع عبارات متلاحقة ذات قدرة على الفعل، ويستطيع القارئ أن يلحظ مدى توفيقها في الجمع بين وضوح الرؤية وتكثيف العبارة، وقدرتها العالية على التكثيف، وهذا ما يجعل القصة القصيرة جداًً، كما قالت القاصة السورية ضياء قصبجي "خلاصة كمية كبيرة من الأزهار في نقطة عطر واحدة" . تقول ليلى العثمان في قصتها: "سألت الزهرة رفيقتها: -لماذا تفتحت قبلي؟ قالت الرفيقة بانتشاء: -فتحت قلبي للنور والمطر قبلك." وعلى العكس تماماً فحين يغيب الفعل عن السرد، فإن النص يكون – غالباً - أمام عدة احتمالات: فقد يترهل، وقد يطول بحيث ينتمي إلى نوع أدبي آخر، وقد يخسر حكائيته وسرعته وتكثيفه، وفي جميع الأحوال فهو يكف عن أن يكون قصة قصيرة جداً . القاص السعودي ناصر سالم الجاسم يقدم لنا في قصة "الجامعة" بانوراما وصفية تقود إلى مجموعة من الشخصيات، راصداً تلك الشخصيات في حالاتها المختلفة دون أن يعنى بتطوير حكاية تنبثق من علاقتها بعضها ببعض، ولعل ما أسهم في عرقلة الحكاية اعتماده في بداية القصة على الجملة الاسمية التي يمكن أن تقدم وصفاً جيداً لقصة قصيرة: "السور رفيع، الباب موصد، النوافذ علوية زجاجية عاكسة، موظفو الأمن عند بوابة الخروج ببذلاتهم الأنيقة يطابقون الأسماء في البطاقات المحددة ويطلون برؤوسهم داخل السيارات من خلال نوافذ السائقين وينظرون إلى الأجساد الجالسة والحلي الفارة من سواد العباءات السوداء والحقائب الجلدية الموضوعة فوق كل حجر، والرجال في المواقف المكشوفة للشمس ينتظرون ويدخنون ويقرؤون الصحف اليومية بدون شهوة، كنت منتظراً معهم، وأسأل نفسي: كم جميلة بداخل هذا المبنى؟ كم عاشقة خلف هذا السور؟ كم خائنة في قاعة المحاضرات تناقش بارتياح؟ كم حبلى واقفة في طابور الكافيتريا تمد يديها أمام بطنها تخشى الإجهاض؟ وكم..؟ وكم..؟ ". ولابد لنا قبل أن ننهي الحديث عن عناصر القصة القصيرة جداً وأركانها من الإشارة إلى أن ثمة خلافات في التصور حول هذه الأركان. فالدكتور أحمد جاسم الحسين يشير في كتابه عن القصة القصيرة جداً أن أركانها أربعة وهي: القصصية والجرأة والوحدة والتكثيف. ونرى هنا أن مصطلح الحكائية أكثر دقة وتعبيراً عما نريد، إذ إن القصصية تساوي الحكائية مضافاً إليها اللغة والزمن والمكان وغير ذلك. أما الجرأة التي يجعلها الدكتور أحمد عنصراً لا غنى عنه، فنحن لا نراها أكثر من تقنية ممكنة الاستخدام. وكم من القصص القصيرة الناجحة تفتقر إلى الجرأة؟! والدكتورة لبانة المشوح أشارت عدة مرات في مداخلاتها الشفوية اللامعة عن القصة القصيرة جداً إلى عنصر الإدهاش، ونحن نرى خلافاً لذلك، إذ إن الإدهاش في رأينا نتيجة للمفارقة، وليس عنصراً فاعلاً في النص. ولعل من المناسب أن نشير إلى أن الأستاذ نبيل المجلي - وهو أحد الذين اشتركوا في الملتتقيين الثالث والرابع – قام مؤخراً، بعد أن قرأ كل ما كُتب حول القصة القصيرة جداً، بنظم هذه العناصر من خلال أرجوزة تذكر بأراجيز النحو والحديث والعلوم المختلفة: سردٌ قصيرٌ متناهٍ في القِصـَرْ كالسَّهْم،بل كالشُّهْب تطلق الشَّرَرْ كَتَبـَها الأوائـلُ الكـبارُ وليسَ يُدرى مـَنْ هـوَ المغـوارُ قـَد ميزَتها خمسةُ الأركانِ حـكـايةٌ غـنـيـّةُ المعـاني وبعـدها يلزَمـُنا التكثيفُ ووحـدةٌ يحفَـظُها حصيـفُ واشـترطَ الناسُ لها المفارقهْ وأن تكونَ للحـدودِ فـارقـهْ وجمـلةٌ فعليـةٌ بها كمُلْ بناؤها.. وحقـُّهُ أنْ يكتـمـلْ * * * ويذكر أن هناك مجموعة من التقنيات اللغوية والفنية التي يمكن أن يستوعبها فن القصة القصيرة جداً كونه فناً قادراً على الإفادة من جميع منجزات السرد الحديث، وهذه التقنيات قد تُستخدَم – جزءاً لا كلاً - في نص، وقد تغيب في نص آخر، ووجودها ليس شرطاً من شروط القصة القصيرة جداً وليس ركناً من أركانها، بل هي محسّنات تسهم في رفع سوية النص الفنية. وعلى هذا الأساس فإن النص الذي تغيب عنه الحكائية أو الوحدة يخرج من النوع أما النص الذي تغيب عنه التقنيات، كلاً أو جزءاً فليس كذلك. وإن التقنيات التي تعمل على رفع سوية السرد كثيرة جداً، وهي تتقاطع في هذا مع كثير من الفنون الأدبية، كالتناص والتشخيص، ووضع العنوان في خدمة النص…إلخ ويمكن أن نفصل في التقنيات المستخدمة في هذا الفن من خلال البحث عن أثرها في نصوص القاصين: • فقد أفاد القاصون إفادة عظيمة من التناص، وثمة من استخدم الأمكنة، وأسماء الأعلام ذات الرصيد الثقافي والديني والتاريخي، وغير ذلك. وقد ظهر ذلك في نصوص الكتاب الشباب خاصة، إذ برز ليهم قاراقوش وغودو وعنترة وآخرون، ولعلنا نشير هنا إلى نص "غودو ينتظر" لمايا عز الدين عبارة الذي يشكله وعي ثقافي يؤمن بتطوير المفاهيم البالية: " كان غودو يأتي و يذهب دون أن يروه ...أو أنهم لم يتعرفوا عليه. و مرة قال لهم:أنا غودو ..تعالوا معي أيها المنتظرون، ووقف ينتظرهم، لكنّ أحدا لم يعره اهتماما. ظلوا يدورون في دوائرهم اللانهائية العبثية. تفاجأ غودو فهو كان قد سمع كثيرا عن انتظار أولئك البائسين و المعذبين له و سمع عن انتظار الأطفال المشردين له و سمع عن انتظار المحبين الذين لا يجدون مكانا للقاء على هذه الأرض إلى أن غادروا معه. فقال بصوت عال: أنا أتيت لأني قرأت في إحدى مسرحياتكم أنكم تنتظرونني بشدة و حين انصعت لأمانيكم ولبنات أفكاركم و جئت لأخلّصكم لا تردون على ندائي!! لكنهم كذبوه قائلين :أنت لست غودو . أنت كالراعي الكذّاب و نحن قرأنا هذه القصة و لن نصدقك . أقسمَ غودو بأنه غودو وإن تأخر بالقدوم ، لكنهم أنكروا قدومه و أقنعوه بأنه وهمٌ لا يستطيع إنقاذ أحدهم .. فاعتمادا على ذات المسرحية التي اعتمد عليها هو لن يأتي وإن أتى لن يروه. أشاحوا بوجوههم عنه بينما ظل غودو ينتظر الناس جميعا بعدما كانوا ينتظرونه وحده. و حين ملّ من الانتظار و شعر بالوحدة و العزلة .. انضم للناس و انصهر معهم في دوائرهم ." غير أن الذي خان القاصة في هذه القصة هو التكثيف إذ يمكن أن لها تقدّم هذه الدلالة عبر تراكيب أقل، ولاسيما أن مايا تكتب القصة القصيرة جداً منذ فترة وقد شاركت في ثلاثة ملتقيات حتى الآن. وللأمانة فإننا نشير إلى قصة تشبه هذه القصة من حيث دلالتها العامة وبعض تفاصيلها، للقاصة كوليت بهنا، بعنوان حديث خاص . ولا بد لنا أن نشير هنا إلى تجربة القاص بسام شلبي الذي أعد سلسلة من القصص المتتالية بعنوان "استنساخ" يستنسخ فيها القاص في كل قصة شخصية من الماضي البعيد أو القريب ويضعها في مواجهة الحاضر، فهو يستسخ آدم وجحا وطرزان وأبا ذر الغفاري، يقول في قصته "استنساخ4": "هرم عنترة، وشعر بالوهن يتسرب إلى شرايينه.. فقرر استنساخ رجل من إحدى خلايا صدره.. استعاد فتوته وهو ينظر إلى شعره الأسود الشعث وعضلاته المفتولة.. لكن نسيخه لم يخض أي حرب ولم يكسب أي معركة.. كل ما كان يجيده الاستعراض بالسيف أمام آلات التصوير والتشدق بأبيات الشعر الحماسية خلف مكبرا الصوت.. حزن عنترة الأصلي ومات كمداً، وعاش المزيف في الروايات والحكايات الشعبية. " وفيما يتعلق بالتشخيص فقد أجرى القاصون كثيراً من قصصهم على ألسنة الحيوانات والجمادات، كما استخدموا مثل هذه الجمادات والحيوانات داخل بنية النسج القصصي، ومن التجارب الشابة المميزة في هذا المجال تجربة أسامة الحويج العمر إذ إن كثيراً من قصصه تعتمد على المحاورات والمواقف التي تطورها شخصيات غير بشرية لتحصد دلالات إنسانية وارفة، ومن قصصه الكثيرة في هذا المجال نختار قصة "عندما سجن العصفور": " ما إن أدخل العصفور القفص حتى شعرت الحرية بأنها فقدت طاقة من نبضات قلبها، فسالت الدموع على وجنتيها ماسحة السعادة، وفي اللحظة ذاتها ارتفع القفص على مد الفرح العارم، وقد شعر بمعنى لحياته." وإذا كان أسامة في قصته السابقة قد جعل الشخصيتين اللتين قامت عليهما القصتان غير بشريتين، فإنه في قصة "الماس والفحم" يجعل البطلين من البشر ولكنه يستعيد منهما جدارة البطولة عبر شخصيات تنتمي هذه المرة إلى عالم الجمادات: "تجادل شابان ، الأول ثري و الثاني فقير حول مستقبل كلّ واحد منهما . فوضع الثّري قطعة ماس كبيرة على الطاولة و قال بحماسة: هذا هو مستقبلي. و وضع الفقير قطعة فحم حجري و قال بيأس: هذا هو مستقبلي . ثم خرج الاثنان كلٌّ في طريق ، لكن الماسة شعرتْ بالحنين إلى أصلها … فاقتربت من قطعة الفحم و التصقت بها بقوة ! ". • كما أفاد القاصون من إمكانات الإيقاع النحوي والتركيبي، والموضوعي، كما أفادوا من إيقاعات أخرى مثل إيقاع الطبيعة وإيقاع اللون، إذ رأينا استخدام الألوان في أكثر من قصة، وبشكل لا يخرج عامة عن المـألوف السردي. وربما نقرأ قصة تعطي الألوان اهتماماً لافتاً على نحو ما نجد عند هيمى المفتي التي أعطت أهمية بالغة للألوان في قصة حملت عنوان "ألوان": "لا تزال، ومنذ أن أبدى إعجابه الخجول بفمها البكر الممتلئ، تطلي شفتيها كل يوم بلون جديد... لونتهما بالأحمر القاني يوماً، وبالأرجواني يوماً، ثم رسمت خطوطاً قاتمة على حدود الشفاه لتبدو أكثر اكتنازاً، وطلتها بلون الرمان الشهي... جربت اللون الناري، المرجاني، الخمري، التوتي، البرتقالي، الزهري، الفوشيا... وحين انتهت التشكيلة المتوافرة في السوق، أخذت تمزج بين أصابع الشفاه المختلفة فتأتي بألوان جديدة لا اسم لها ولا تشبه غيرها... الألوان الصارخة في الشفتين تبهره بجديدها كل يوم، وتغتصب إعجابه الجريء السافر... أما كل ما تأتي به الشفتين من ابتسامات، وكل ما يصدر عنهما من كلمات أو قبلات، بل كل ما يحيط بهما من ملامح، فقد فقدَ لونه.." • ومن المعروف أن عنوان القصة يمكن أن يقوم بدور كبير جداً في فهم دلالاتها، ومن الطبيعي أن يزداد العنوان أهمية حين تكون مساحة النص أصغر. ولا شك أن امتحان العنوان كان من أصعب امتحانات القصة القصيرة جداً، وقلما ينجح الكاتب في إطلاق عنوان مثير على قصته، فقد يطلق عنواناً لا علاقة له بالقصة، وقد يطلق عنواناً يكشف نهاية القصة، وقد يترك قصته دون عنوان. ونشير هنا إلى تجربة حياة أبو فاضل في مجموعتها "حياة" وإلى الكثير من قصص ضياء قصبجي القصيرة جداً ونسأل لماذا غابت العناوين؟ أينبع هذا من عدم الشعور باستقلالية النص، أم أن ثمة سبباً آخر؟ كما حاولت بعض القصص على تفاوت في ذلك على أن تفيد من الحوار المشهدي الذي يعطي الحدث سرعته الزمنية الفيزيائية بشكل يطابق الواقع، وهنا لا بد منا الإشارة أن الحوار في القصة القصيرة جداً ليس قسرياً، ولكنه قد يفيد فائدة جمة، وقد تقوم بعض القصص على الحوار فقط، ونشير هنا إلى قصة "معاُ" لليلى العثمان، وهي قصة تجسد التعاون المنتج بين قطبي البشرية (الرجل والمرأة)، ذلك التعاون الذي يمنح الحياة روحها، والشجرة اخضرارها: "قال لها الشارع: - أنا طويل جداً. قالت: - سأمشيك. قال: -أنا وعر مليء بالحفر. قالت: - قوية ولن أتعثر. قال: - ليس بي حانوت لو جعت، ولا بيت لو تعبت، ولا موقد لو بردت، ولا مكتبة لو اشتهيت أن تقرئي. قالت: - سيوجد كلُّ هذا. قال: - كيف؟ قالت: - في نهايتكَ رجلٌ مثلي ينتظر." ومن الطريف أن هذا الاختلاط بين العناصر والتقنيات أخذ شكلاً لافتاً للنظر عند سليم عباسي، إذ جعل الغلاف الأخير من مجموعته القصصية (البيت بيتك) مسرحاً لتصوره النقدي الذي لا يميز ولا يعرّف بقدر ما يفتح الآفاق أمام التساؤلات جديدة. ومن خلال النظر في لوحة الغلاف الأخير تمكن ملاحظة ما يلي: • إن الكاتب لا يفرض نفسه ناقداً ووصياً، بل يرى أن ما قدمه هو "معالم في طريق القصة القصيرة جداً". • إنه يحدد أركان القص القصير جداً كما يلي: - الحكائية. - المفارقة والسخرية. - التكثيف الذي يشمل اللغة والحدث والوصف الشخصيات. • إنه يحدد تقنيات القص القصير جداً كما يلي: - اللجوء إلى الأنسنة (أحياناً). - استخدام الرمز والإيماء والتلميح والإيهام. - الاعتماد على الخاتمة المتوهجة الواخزة المحيرة. - طرافة اللقطة. - اختيار العنوان الذي يحفظ للخاتمة صدمتها. • إنه يخلط بين الأركان والتقنيات. ويبدو أن الخلط بين الأركان والتقنيات ليس مشكلة عباسي وحده بل هي مشكلة كتاب القصة القصيرة جداً ونقادها على حد سواء. * * * لقد أثبت كثير من القصص القصيرة جداً أن هذا النوع الأدبي قادر، بكفاءة، على حمل الهموم الكبيرة: الاجتماعية والوطنية والقومية والإنسانية، إذ إن المتابع لها يدرك مدى حضور قضية فلسطين، والصراع العربي الإسرائيلي، والموقف من سعي النظام العالمي الجديد إلى فرض هيمنته على العالم، وغير ذلك من القضايا، مما يثبت أن قصر القصة لا يعني بالضرورة قصر الرؤيا كما حاول بعض الكتاب أن يستنتج . لقد أدرك كثير من القاصين الذين يتعاملون مع هذا النوع الأدبي حجم المسؤولية الملقاة على عاتقهم حين أدركوا ضرورة أخذ موقف من كل ما يجري حولهم، ولعل قصة "الناس" للدكتور أحمد زياد المحبك تبرهن أن القصة القصيرة جداً مشغولة بصياغة المواقف لأن من لا موقف له، فهو ليس إنساناً جديراً بالحياة: - كيف أنت والناس ياولدي؟ - كلهم أصدقائي يا جدي. - أنت إذن لا تقدر على تمييز عدوك من صديقك. - ليس لي عدو يا جدي. - إذن ليس لك رأي ولا قول ولا فعل. وتمكن هنا الإشارة، بشكل خاص، إلى قصص أسامة الحويج العمر التي طرحت كثيراً من الرؤى الإنسانية البديعة، يقول أسامة في قصة ( قصر من الضعف): "قام ثلاثة من الأولاد ببناء قصر رائع من الرمل على شاطئ البحر ثم تركوه ضاحكين، وبعد أقل من ساعة تقدم المدّ بإصرار محطماً القصر، وهو يقول: لا مكان للضعيف في هذا العالم" كما تمكن الإشارة إلى قصة "عراق" للقاصة وفاء خرما، وهي قصة تحكي بكثير من الشفافية وجع الشعب العراقي، وكبرياءه في آن: "دخلا دارتهما في بغداد. صاح الزوج: سرقوا كيس الرز! لطمت الزوجة خدها صارخة: بل سرقوا مصاغي.. خبأت مصاغي في كيس الرز! رن جرس الدارة، وقفت بالباب امرأة تمد يدها بصرّة، وهي تهمس في خجل: خذوا ذهبكم أطفالي جياع إلى الرز فقط ". وفي قصة "أمركة" تقدم عبير إسماعيل قصة ذات مدلولات وطنية وقومية، مستخدمة الغناء الشعبي الذي يبدو معادلاً نفسياً لغربة البطل الذي ظلّ رغم كل التذويب الذي عاشه عربي القلب: " لقد استطاعت أن تنتقم من قلبها الذي جعلها تحب عربياً، فعملت على أمركته. كان إكراماً لعينيها يرتدي الجينز، وينتاول غداءه في مطاعم ماكدونالدز، ويتكلم الإنكليزية باللكنة الأمريكية، ويرفع العلم الأمريكي على سارية فوق بيته كبقية المتعصبين. لكنه عندما أصيب بالحمى أثار دهشة زوجته وجميع الأطباء المتحلقين حول سريره، فقد كان يهذي ويغني بلغته، وبصوت قروي حزين: "بي بي الغربة.. الوطن حنونا ". لكن هذا لا ينفي وجود عدد من القصص ذات المضمونات الفارغة التي حولت القصة القصيرة جداً إلى ملحة أو طرفة لا هدف لها إلا الإضحاك، وقد تجلى ذلك في بعض قصص أحمد جميل الحسن، من مثل قصة "مانع" التي يقول فيها: "خطّت له رسالة طويلة جداً، ملأتها بالأشواق والقبل، والرموز والتصريحات، وختمتها: "حبيبي: من شدة حبي لك لم أستعمل حبوب منع الحمل معك، مثلما كنت أستعملها مع غيرك. " ومثل هذا السعي إلى الإضحاك الذي لا طائل وراءه نجده في قصص وفيق أسعد التي ألقاها في الملتقى الثاني للقصة القصيرة جداً، على الرغم من أن هذا القاص استطاع في نماذج قليلة أن يجيد غاية الإجادة مما يشي بإمكانية تطوره إلى قاص مبدع في حال ابتعاده عن الطرفة المجانية، يقول وفيق في واحدة من أجمل قصصه، وهي تحمل عنوان "لغة العصر": "أردت تعلّم النباح. أسكنت معي كلباً صوته جميل. بعد شهور طردته معلناً أنه معلم فاشل، لكن حين اضطررت للامتثال أمام أحد رؤسائي مرة… وجدت نفسي أنبح بإتقان وطلاقة". من هنا نرى أن القصة القصيرة جداً لها أركانها وتقنياتها، ولها موضوعاتها الكبيرة، وهي يمكن أن تؤثر مثل أي نوع أدبي آخر، إذا كتبها كتاب قادرون على رفع شأنها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق