مما قرأت اليوم وأنا أردد من لم يمت بالسيف..إنها مأساة شعب يبكي شبابا في مقتبل العمر..مأساة الطائرة العسكرية الجزائرية في مطار بوفاريك..
في حضرة الموت!
الجمعة ٢٣ أيلول (سبتمبر) ٢٠١٦، بقلم فاروق مواسي
ومن لم يمت بالسيفِ مات بغيره
تعدّدت الأسباب والموت واحد
هذا البيت لابن نُباتةَ السعْدي (938- 1015م) أحد شعراء بلاط سيف الدولة، ولمن لا يعرف فهناك شاعر آخر هو ابن نُباتة المصري (1278- 1366م).
يروي ابن خَلِّكان في وفَيَات الأعيان (مادة: ابن نباتة الشاعر) عن شهرة هذا البيت، فيقول:
حكى ابن نباتة أنه كان يومًا قائلاً من الحرّ في دهليز بيته، فدقّ عليه رجل، فقال: مَن؟ قال: رجل من أهل المشرق، فقال: ما حاجتك؟ فقال: أأنت القائل:
ومن لم يمت بالسيف مات بغيره ... تعددت الأسباب والداء واحد
فقال له: نعم، فذهب.
فلما كان آخر النهار دُقَّ عليه الباب، فقال: مَن؟
قال: رجل من تاهرت في المغرب. فقال: ما حاجتك؟
فقال الرجل: أأنت القائل:
ومن لم يمت بالسيف مات بغيره
تعددت الأسباب والداء واحد
فقال له: نعم.
فتعجب ابن نباتة كيف وصل هذا البيت إلى المشرق والمغرب.
عدت إلى ترجمة ابن نباتة السعدي فوجدت القصيدة وفيها البيتان:
ويصطدم الجمعان والنقع ثائر
فيسلم مقدام ويهلك حائد
ومن لم يمت بالسيف مات بغيره
تعددت الأسباب والداء واحد
كلمة (الداء) وليس (الموت) هي التي وجدتها في عجز البيت، وذلك في جميع المصادر القديمة التي طالعتها.
ثم إني وجدت الكثير من الأشعار التي تختم فيها بالشطر:
"ومن لم يمت بالسيف مات بغيره"، وهذا يدل على سيرورته، على نحو:
بروحي مكفوف اللواحظ لم يدع *** سبيلاً إلى صبّ يفوز بخيره
سوالفه تغني الورى ختل طرفه *** ومن لم يمت بالسيف مات بغيره
لا مشاحة أن الموت حق وحتم، ففي الذكر الحكيم: كل نفسٍ ذائقةُ الموت- الأنبياء ، 35.
و "كل مَن عليها فانٍ" – الرحمن، 26... وثمة آيات أخرى كثيرة.
من الشعر الجاهلي أقتطف في هذا المعنى قول طرَفة:
لعمرُكَ إن الموتَ ما أخطأ الفتى
لكالطِّولِ المُرخى وثِنياه في اليد
(الطِّول هو الحبل، فعندما يشد الحبل يقبض الروح، ولا يعرف أحد منا متى الأجل).
يقول أمية بن أبي الصلت:
ومن لم يمتْ عبطةً يمت هرمًا
للموت كأسٌ والمرء ذائقُها
(العبطة الموت في الشباب).
ويقول لبيد:
وما المالُ والأهلونّ إلا ودائعٌ
ولا بدَّ يومًا أن تُردّ الودائعُ
ومن الشعراء المخضرمين اشتهر بيت كعب بن زهير:
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته
يومًا على آلةٍ حدباءَ محمول
(الآلة الحدباء هي النعش).
نصل إلى المتنبي الذي يقول:
نحن بنو الموتى فما بالنا
نعاف ما لا بد من شربه
وفي مكان آخر:
يدفّن بعضنا بعضًا ويمشي
أواخرنا على هام الأوالي
وما أكثر ما قيل الموت شعرًا ونثرًا، ومن أحب أن يقرأ كتابًا في ذلك فعليه بكتاب:
"أروع ما قيل في الموت" من إعداد إميل ناصف.
غير أني سأقف على خطأ شائع طالما سمعناه يتردد على الألسنة ظانين أن الاستشهاد فيه هو آية.
والجملة المقولة هي: "وجعلنا لكل منيّة سببا"!
الجملة بالطبع قريبة من المعنى في بيت ابن نباتة السعدي، ولكنها ليست آية مطلقًا.
أظن أن سبب الخطأ قد يعود إلى آية أخرى تتحدث عن ذي القرنين، إذ لها بعض المشترك لفظًا:
وآتيناه من كل شيء سببا- الكهف، 84
سأختم بطريفة ولكنها لطيفة:
نُقش على قبر الشاعر الألماني هينه بيتان من الشعر نظمهما الشاعر إبراهيم عبد القادر المازني:
أيها الزائر قبري
أتل ما خُط أمامَكْ
ها هنا فاعلم عظامي
ليتها كانت عظامَك
لما سئل الكاتب أنيس منصور:
"وأنت ماذا تكتب على قبرك؟"
أجاب: "عاش ونام ليلة واحدة، واستجاب الله لدعائه فأمات أمه قبله، حتى لا تتعذب من بعده، وكانت حياته حول ألف سؤال، لم يتلق إجابة إلا عن واحد منها"!
أرأيتم هذه القفلة التي تلقى الجواب فيها؟ هل عرفتموها؟
يبقى السؤال:
هل من الضروري أن يطلب المرء أن يُكتب على قبره؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق