المشاركات الشائعة

الأحد، 17 أكتوبر 2010


                                        
                المقبرة   

المرة الأولى والأخيرة يقتحم هذه البقعة من هذا الوطن المسترسل والحزن جبل جاثم على قلبه..كان متأكدا أنّ كلّ شيء قد تمّ..
-تبا لهذه المسافة الطويلة ولهذا الطريق غير المعبّد.".ما من أحد إختار إنما هي الأقدار"..
توحد وانصهر مع ذلك الممثل في تلك الأوبرات التي كتبها ذات رمضان وراح يتمتم المقطع وكأنه على خشبة المسرح:
    هـا إنّي أتـلمس الطرقات              عجبا ما كل هذه الحشرجات
    وعــصاتي أصداء أزمان              مـملوءة حسرات حسرات
    زيديني نـقرا كي أحـياك               يـا دنـيا سوداء اللحظات
    حولي سواد نوح الثكـالى               حـولي قبور غير مسمـاة
    ويشدّني حزن الرمال عليك              وثــراك موشوم الحـبات
    يومي ليلي أسـتبيح المآقي               بدمــوع حمراء القسمات
    أسمعوني لا تقتلوها رحمة              هي الأرض شامة المعجزات
تنازع باله خليط من الذكريات والأفكار..تذكر رسالة أخيه الصغير يبشرهم بقرب إنتهاء المدة..
-(أخي يا براءة مزّقها السكين بين أحجار غريبة وبعيدة..ياوقع الدموع على تجاعيد أمّي المفجوعة..ياخطى الغيب تسيرين دون نقع ولا وقع..يا غربة ما أقساها ...ها أنا ووجوه هذه القرية المتسربة بين اللحظة واللحظة.. في حذر تقودني خطى بطيئة وباحثة..لا بدّ أن أعثر عليها..سأسأل و لا يهم..)
كان ينظر وينتظر، يتأمل ويتساءل في صمت..لا أحد يجهل أنه غريب..قطع شارعا..لمح شخصا يحمل محفظة ..سار نحوه..
-عفوا سيدي أين المقبرة؟
تفحصه الشخص بعيون غجرية لم يفهمها..أهمله ومضى..تاه في دوامة من الاستفسارات..تأمل حذاءه الملمع وقد تغير لونه..نزع نظارته الطبية ماسحا شعيرة..بصق على بقايا طفل فرّ لتوه..فجأة إنتبه للمنازل القديمة وقد إستوت الشوارع في خطوط مستقيمة وجماعات من السكان هنا وهناك، وبعض الأطفال يلاحقون كرة في فوضى وكلام بذيء..بغتة تحولت الجدران لأشكال غريبة وراحت الحجارة الصغيرة ترتفع نحو الأعلى وقد تشكلت لها رؤؤس وأيد..تزحزح بصعوبة، كاد أن يسقط..تذكّر أنّه قضى يوما ونصف اليوم وهو يركب الطريق..
-(كل الشوارع في وطني تتشابه وكلها تعشق الأسرار وإختزان الحكايا ..وحدهم السكان يعرفون الحقائق ووحدهم المجانين والناقمون يفضحونها..)
مثلما جرته الخطوات المتعثرة، راحت  الذاكرة رويدا رويدا تنير زوايا مظلمة في أعماقه..هي العادة تلاحقه كلما حاصرته الفجائع والهموم..في لحظة خرج (محمد توتو) في زي أبيض وراح يشد كل خيوط الذاكرة إليه..كان يعشق التبول على جدران الإدارات وقبر كل مسؤؤل يموت..وحده كان يسب ويشتم المنافقين الذين يصلون في الصفوف الأولى كل جمعة..وحده كان يفضح أشباه المجاهدين لكنه في لحظات الصفو والتجلي يعشق تقبيل الأطفال في بكاء والجلوس للبسطاء مرددا لازمته الأبدية:
-"نمل ياكل نمل والباقي يهمل."
لكن المسكين قتل لخرقه حظر التجول..
-(سبحانك يا رب من كان يفكر يوما أن.....
-بطاقة التعريف ألا تسمع؟!
إكتشف يدا مبسوطة أمامه وأخرى تحمل السلاح..
-نحن فرقة الدفاع الذاتي..لم أنت هنا؟
-أنا أبحث عن المقبرة...أقصد..أقصد ..أنّه اليوم سيدفن أخي الجندي..
-إذن أنت هنا بسبب دفن الجنود.
تنفس الصعداء..هاهو يجد منقذا..لكنهم..إنهم ينصرفون..توقف كل الصراخ وكل الكلام في جوفه..سار في إرتباك ، في جوع وعطش..إنفجر شتائما في لحظات شطبت فيها الشمس وحلّت محلها سحب حمراء وسوداء..لأول مرة ينتبه للجو السائد وكأن عاصفة رملية
تتأهب للهجوم..سار إتجاه مقهى ظهر فجأة..لمح شابا يقرأ جريدة بنظارات شمسية..
-(يا عجائب الدنيا همّ يضحك وآخر يبكي..لا شمس وهذا الأحمق يضع النظارات..والأدهى أنه يتمتع بالظل الوارف..)
فلتت عنوة إبتسامة شاحبة..إتجه نحوه يروم المساءلة لكن  السؤال توقف في حلقه..حملق جيدا في الجريدة (الوطن) لكن الغريب أنها مقلوبة..قهقه كالمجنون ..قام الشاب منتفضا
-حتى هنا لاحقنا المجانين.
تداخلت الأحاسيس..تبخر العقل وأصبح مجرد جمجمة..غاب عن الوعي،عن النظر وحتى التساؤل..حين آب وجد طفلا الأكيد أنّه صغير السن..كان يتلهى برسم خارطة تشبه خارطة هذا الوطن..كان حافي القدمين، ممزّق الثياب، مبعثر الشعر، يجلس بالقرب من طاولة سجائر..سأله في يأس وتردد صارخا كي يسمعه الجميع:
-أين المقبرة؟
قذفه الطفل بنظرة لاحقته طوال اليوم المشؤؤم كلما ردّد نفس السؤال..حين أراد الهروب يائسا،صرخ الطفل في أعقابه ملوحا بما كان يرسم:
-كلّ هذي مقبرة..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق