البيضة والدجاجة
في قرية بعيدة عن الأنظار، عامها منشطر بين شتاء بارد وصيف تعكره العواصف الرملية النازلة من السماء، إعتاد أن يجلس تحت الشجرات الباقيات من غابة أكلها الدّود ومزّق أوصالها وجمالها فأس الجاهلين، مجموعة من الشيوخ..إعتادوا العام بأكمله على لعب (السيق)* ..لا يقهرهم قرّ ولا حرّ حيث تتعالى صيحاتهم ومداعباتهم طوال النهار..
-(سيق..سيق..سيق ولربعه..العورة..خربز...خربز..)*
حتى كان يوم ذاك الإثنين وقد جاء الحاج (لخضر) من بيته متأخرا على غير عادته يحمل معه سؤالا كان قد سأله إياه إبنه ذي العشر سنين وقد تشاجر مع إبن الجيران لأجله.
-من أتى أولا الدجاجة أم البيضة؟!
بُهِت الجميع لهذا السؤال ..وضعوا القصبات جانبا وراحوا يتأملون وجوه بعضهم البعض..الكل أحس بالخجل فغير معقول أن يقولوا:
-لا نعرف...لا إجابة لنا..
وهم من علياء القوم وممن تسمع كلمتهم في المجتمع..بدأ الخجل يملأ قسمات الوجوه فأيّ كلمة تقال تحسب عليهم وهم أدرى القوم أن كلامهم في هذه البقعة من الجهة الشرقية للقرية تتداوله الأجيال وقد أضحى من الحكم والدرر التي يتفاخر بها أهل المنطقة فلا تخلوا نوادي سمرهم من طرائفها.
هزّ الصمت مشاعر الأغلبية وقد قابل فريق الفريق الآخر..قال الحاج (المخطار) وهو المعروف بعدم اكتراثه وسرعته إذا تكلم. فأحيانا يعيد الكلمة مرات متعاقبة.
-سؤال ذكي ولكن الإجابة بسيطة بسيطة..طة..طة.لولا الدجاجة جه..جه ما جاءت البيضة..
هزّ رهط من القوم رؤؤسهم موافقين وفي نفس الوقت يملؤهم الزهو والإعجاب لأن الحاج (المخطار ) ما عبّر إلا على رأي في قرارة نفوسهم..
لكن رهط آخر كان يضمر غير ذلك..ضحكوا مستهزئين وما فعلوا ذلك إلا لحاجة في نفس يعقوب والأقرب أنه الإنتقام..قال أحدهم وهو الحاج(حمّد) طويل القامة،نحيف الجسم..
-إن كان كما قلت فمن أين جاءت الدجاجة؟
تملْمل صاحب الرأي الأول ورأى بعضا من الصواب فيما قاله صاحبه إلا أن طبع العناد غلاّب..صاح يضرب الأرض بالعصا ضاغطا على أسنانه بكل قوة دافعه الإحساس بالإهانة:
-لا..لا قلت الدجاجة جه..جه أولا..
ردّ الثاني بالمثل ملوحا بعصاه بقوة..أصبحت الآن المسألة مسألة تفوق وذكاء ومكانة ..في عمر دقيقة إنفصل القوم بين مؤيد ومناصر..الغريب أن الصفين مالاَ ميولاً عشائرية..قال أحدهم إشتهر بإحياء النعرات القبلية في كل مجلس:
-إبن عمّي هو الأصح..
صاح ثان يسمّى همْسًا بالشيطان لأنه يحب النميمة ويفرح إذا ابتلي أحدهم بمصيبة ويحزن إذا حلّ بعض الخير على ثانٍ:
-أبن عمي هو الأصح..
تهاوت العصي..في لحظة امتلأ المكان بالنقع مخفيا الوجوه..ما هي إلا بعض سويعة حتى إمتلأت المستشفى بالمصابين وبجثتين هامدتين كانت للرجلين اللذين ابتدآ العراك..انتشر الخبر كالنّار في الهشيم..غزت الحكاية القرية..إنفصل المجتمع الموحد بين الدجاجة والبيضة..ثم عمّ الألسن مصطلح غريب :
-"حمارنا ولا عود* الناس.."
هاجت وماجت القرية..هذه القرية التي قال عنها (إبن عرعار) ذات مرة مازحا..(أن سيدنا نوحا عليه السلام عاد يطوف بالدنيا وكلما سألوه عن منطقة أنكرها حتى وصل هنا فعرف المنطقة و حين سئل عن سر معرفته لها قال هذه البقعة الوحيدة التي لم تتغير منذ فجر التاريخ)
هذه القرية البسيطة الهادئة..مرّت عليها سنون المحن وتعاقب عليها جيل من عابري الطرق وشذّاذ الآفاق فما وجدوا غير الترحاب والكرم..لم تزعزعها سنوات الجفاف والأمراض المتعاقبة التي تتفجر بين الحين والفينة كحوادث الشرف والقتل والسرقة..إلا أن هذه الحادثة بالذات أشعلت فتيلا من التناقضات فالحمّام الوحيد أصبح يفتح يوما لنساء الدجاجة وآخر لنساء البيضة، كما انقسم المسجد إلى قسمين وإمامين كذا الكتّاب وأطفال المدرسة..فما كان على المعلم الوحيد إلا أن يهجرها فارا برأسه..
حاول الفريقان التقّرب من (السعدي) الدرويش الذي طالما أحبّوا قرباه وخافوا غضبته..الكلّ يريد الفوز بما ينوي..لكن (السعدي) الذي صمت طويلا أكثر من أسبوع إختفى لا يعلم مكانه إلا الله صاح ذات مرة وهو يهرول:
-"الديك..الديك..الفروج..الفروج..)
ثم رحل دون رجعة لا يلوي على شيء..تعقدت الأمور وتجمدت مشاغل القوم وهم لا يزالون يركبون رؤؤسهم.فما كان على الوالي إلا أن ينظم إستفتاء الفائز به ينصاع لأمره الآخرون....بعد موافقة الجميع جرت حملة إنتخابية حشد لها الطرفان المال والرجال ولكل رايته..راية الدجاجة وراية البيضة..إلا أن هذا الإستفتاء أسفر عن تعادل الطرفين..بقيت القضية معلّقة..
حين عاد المعلم بعد زمن وجد الحال لم يتغير والقلوب ازدادت اسودادا والرؤؤس تعنّتا..حينها اقترح عليهم أن يراسلوا أكبر المنظمات الدولية حتى تحل المعظلة..استلطف الخصمان الفكرة واقترحوا عارضة صاغها المعلم بأسلوب بديع..إستلطفوه جميعا ولو على مضض لأنهم على أميتهم يحسدون هذا المعلم لوسامته، لفصاحته، لثقافته وعذوبة كلامه..للقرى نفوس لا يعلم أسرارها إلا خالقها..فهي مزيج من الحقد والحسد والحب والمجون والكرم والخبث وأكثر من ذلك النفاق والرياء..تناقضات لو غاص في دراستها الفلاسفة لأنكروا كل البحوث..وشرّ البلية أن الفرد منهم يأتيك باسما ويجود عليك بأطايب الأحاديث وهو يُضمر الشر والحسد داخل قفصه العظمي..
بقيت الحالة سنوات وسنوات ..مات أول المتعاركين وشاخ الصغار وما زال كل طرف ينتظر ردّا من الهيئات الدولية حتى تعود القرية لهدوئها ويعود (السيّاقةٌ ) إلى مربع لهوهم الأول الذي لم يبقى عنده غير شجيرة واحدة تتذكر كل الأحداث لكنها تنوء تحت الصمت الإجباري..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*السيق : لعبة شعبية يصنع من القصب
*العود/في اللهجة المغاربية يعني الحصان
*كلمات تستعمل في لعبة السيق.
في قرية بعيدة عن الأنظار، عامها منشطر بين شتاء بارد وصيف تعكره العواصف الرملية النازلة من السماء، إعتاد أن يجلس تحت الشجرات الباقيات من غابة أكلها الدّود ومزّق أوصالها وجمالها فأس الجاهلين، مجموعة من الشيوخ..إعتادوا العام بأكمله على لعب (السيق)* ..لا يقهرهم قرّ ولا حرّ حيث تتعالى صيحاتهم ومداعباتهم طوال النهار..
-(سيق..سيق..سيق ولربعه..العورة..خربز...خربز..)*
حتى كان يوم ذاك الإثنين وقد جاء الحاج (لخضر) من بيته متأخرا على غير عادته يحمل معه سؤالا كان قد سأله إياه إبنه ذي العشر سنين وقد تشاجر مع إبن الجيران لأجله.
-من أتى أولا الدجاجة أم البيضة؟!
بُهِت الجميع لهذا السؤال ..وضعوا القصبات جانبا وراحوا يتأملون وجوه بعضهم البعض..الكل أحس بالخجل فغير معقول أن يقولوا:
-لا نعرف...لا إجابة لنا..
وهم من علياء القوم وممن تسمع كلمتهم في المجتمع..بدأ الخجل يملأ قسمات الوجوه فأيّ كلمة تقال تحسب عليهم وهم أدرى القوم أن كلامهم في هذه البقعة من الجهة الشرقية للقرية تتداوله الأجيال وقد أضحى من الحكم والدرر التي يتفاخر بها أهل المنطقة فلا تخلوا نوادي سمرهم من طرائفها.
هزّ الصمت مشاعر الأغلبية وقد قابل فريق الفريق الآخر..قال الحاج (المخطار) وهو المعروف بعدم اكتراثه وسرعته إذا تكلم. فأحيانا يعيد الكلمة مرات متعاقبة.
-سؤال ذكي ولكن الإجابة بسيطة بسيطة..طة..طة.لولا الدجاجة جه..جه ما جاءت البيضة..
هزّ رهط من القوم رؤؤسهم موافقين وفي نفس الوقت يملؤهم الزهو والإعجاب لأن الحاج (المخطار ) ما عبّر إلا على رأي في قرارة نفوسهم..
لكن رهط آخر كان يضمر غير ذلك..ضحكوا مستهزئين وما فعلوا ذلك إلا لحاجة في نفس يعقوب والأقرب أنه الإنتقام..قال أحدهم وهو الحاج(حمّد) طويل القامة،نحيف الجسم..
-إن كان كما قلت فمن أين جاءت الدجاجة؟
تملْمل صاحب الرأي الأول ورأى بعضا من الصواب فيما قاله صاحبه إلا أن طبع العناد غلاّب..صاح يضرب الأرض بالعصا ضاغطا على أسنانه بكل قوة دافعه الإحساس بالإهانة:
-لا..لا قلت الدجاجة جه..جه أولا..
ردّ الثاني بالمثل ملوحا بعصاه بقوة..أصبحت الآن المسألة مسألة تفوق وذكاء ومكانة ..في عمر دقيقة إنفصل القوم بين مؤيد ومناصر..الغريب أن الصفين مالاَ ميولاً عشائرية..قال أحدهم إشتهر بإحياء النعرات القبلية في كل مجلس:
-إبن عمّي هو الأصح..
صاح ثان يسمّى همْسًا بالشيطان لأنه يحب النميمة ويفرح إذا ابتلي أحدهم بمصيبة ويحزن إذا حلّ بعض الخير على ثانٍ:
-أبن عمي هو الأصح..
تهاوت العصي..في لحظة امتلأ المكان بالنقع مخفيا الوجوه..ما هي إلا بعض سويعة حتى إمتلأت المستشفى بالمصابين وبجثتين هامدتين كانت للرجلين اللذين ابتدآ العراك..انتشر الخبر كالنّار في الهشيم..غزت الحكاية القرية..إنفصل المجتمع الموحد بين الدجاجة والبيضة..ثم عمّ الألسن مصطلح غريب :
-"حمارنا ولا عود* الناس.."
هاجت وماجت القرية..هذه القرية التي قال عنها (إبن عرعار) ذات مرة مازحا..(أن سيدنا نوحا عليه السلام عاد يطوف بالدنيا وكلما سألوه عن منطقة أنكرها حتى وصل هنا فعرف المنطقة و حين سئل عن سر معرفته لها قال هذه البقعة الوحيدة التي لم تتغير منذ فجر التاريخ)
هذه القرية البسيطة الهادئة..مرّت عليها سنون المحن وتعاقب عليها جيل من عابري الطرق وشذّاذ الآفاق فما وجدوا غير الترحاب والكرم..لم تزعزعها سنوات الجفاف والأمراض المتعاقبة التي تتفجر بين الحين والفينة كحوادث الشرف والقتل والسرقة..إلا أن هذه الحادثة بالذات أشعلت فتيلا من التناقضات فالحمّام الوحيد أصبح يفتح يوما لنساء الدجاجة وآخر لنساء البيضة، كما انقسم المسجد إلى قسمين وإمامين كذا الكتّاب وأطفال المدرسة..فما كان على المعلم الوحيد إلا أن يهجرها فارا برأسه..
حاول الفريقان التقّرب من (السعدي) الدرويش الذي طالما أحبّوا قرباه وخافوا غضبته..الكلّ يريد الفوز بما ينوي..لكن (السعدي) الذي صمت طويلا أكثر من أسبوع إختفى لا يعلم مكانه إلا الله صاح ذات مرة وهو يهرول:
-"الديك..الديك..الفروج..الفروج..)
ثم رحل دون رجعة لا يلوي على شيء..تعقدت الأمور وتجمدت مشاغل القوم وهم لا يزالون يركبون رؤؤسهم.فما كان على الوالي إلا أن ينظم إستفتاء الفائز به ينصاع لأمره الآخرون....بعد موافقة الجميع جرت حملة إنتخابية حشد لها الطرفان المال والرجال ولكل رايته..راية الدجاجة وراية البيضة..إلا أن هذا الإستفتاء أسفر عن تعادل الطرفين..بقيت القضية معلّقة..
حين عاد المعلم بعد زمن وجد الحال لم يتغير والقلوب ازدادت اسودادا والرؤؤس تعنّتا..حينها اقترح عليهم أن يراسلوا أكبر المنظمات الدولية حتى تحل المعظلة..استلطف الخصمان الفكرة واقترحوا عارضة صاغها المعلم بأسلوب بديع..إستلطفوه جميعا ولو على مضض لأنهم على أميتهم يحسدون هذا المعلم لوسامته، لفصاحته، لثقافته وعذوبة كلامه..للقرى نفوس لا يعلم أسرارها إلا خالقها..فهي مزيج من الحقد والحسد والحب والمجون والكرم والخبث وأكثر من ذلك النفاق والرياء..تناقضات لو غاص في دراستها الفلاسفة لأنكروا كل البحوث..وشرّ البلية أن الفرد منهم يأتيك باسما ويجود عليك بأطايب الأحاديث وهو يُضمر الشر والحسد داخل قفصه العظمي..
بقيت الحالة سنوات وسنوات ..مات أول المتعاركين وشاخ الصغار وما زال كل طرف ينتظر ردّا من الهيئات الدولية حتى تعود القرية لهدوئها ويعود (السيّاقةٌ ) إلى مربع لهوهم الأول الذي لم يبقى عنده غير شجيرة واحدة تتذكر كل الأحداث لكنها تنوء تحت الصمت الإجباري..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*السيق : لعبة شعبية يصنع من القصب
*العود/في اللهجة المغاربية يعني الحصان
*كلمات تستعمل في لعبة السيق.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق