حكاية شهيد
نهض (مرّاد) على أصوات صراخ الجنود وهم يحاصرون الخيام الحمراء والفجر يرسل أول خيوطه ..كان الوقت وقت حصاد..السنابل صفراء تنتظر ضربات المنجل وفي الأفق في أعلى جبل (سردون)* كان الثلج يغطّي ظهر هذا الجبل النازح إسمه من روما..
سمع صوتا يقول بالفرنسية:
-مخلوف..إذهب وفتّش تلك الخيمة!
كان الصوت قريبا جدّا فعلم أنّه يعني الخيمة التي يختبئ فيها..عقد(مرّاد) ما بين حاجبيه ونظر ذات اليمين وذات الشمال..تلمّس رجله وذراعه المجروحتين منذ ثلاثة أيام بعد خوضه لمعركة ضد العدو في جبل (سردون) والتي أبلى فيها البلاء الحسن حيث استطاع رفقة مجموعة صغيرة من فكّ الحصار المضروب على المجاهدين..كيف لا؟! وهو أسد المنطقة ونازع النوم من عيون الفرنسيين، فكلام القرية لا يتوقف عن ذكر بطولاته..
(بالأمس مرّاد وجنوده هاجموا فيلقا للعدو ضواحي (الحرشة)*..بالأمس حطّم مرّاد في كمين دبابة في (شعب الزّمره)*..بالأمس قتل مرّاد الكابتن جاك والخائن محمود..بالأمس ..بالأمس..)
هاهو الآن يواجه مصيره ضعيفا جريحا....إنّه لا يخاف الموت لكن عزّ عليه أن يموت هكذا..رفع رأسه إلى السماء كأنّما يلاحق شبحا في الخيال..كانت صورة أمّه الطيبة(العجوز مسعودة) الضريرة بلباسها (النائلي)* التقليدي ووشم يذكره منذ صباه على جبهتها..وانبلجت أمامه صورة بيتهم العتيق وصورته آخر مرّة خرج من عندها حاملا سلاحه الذي غنمه من قتل الجندي الذي قتل أباه وآخر ليلة وهو يودّعها ويوصيها بالصبر ..كانت المسكينة تقبّله وتبكي..
-كفى يا أميمة كفكفي الدمع وهلّلي فإنّي ماض إلى الجهاد مع إخوة لي تركوا النفس والنفيس ملبّين نداء الوطن..ولا أظنني إلاّ نائلا إحدى الحسنيين إمّا الشهادة أو النّصر..فإن كانت إحداهما فزغردي وكبّري..
ردّت عليه كاتمة الحزن الذي يمزّق كبدها:
-إمض يا بني بارك الله فيك وأعادك إليّ سالما منتصرا(بركة) الأولياء الصالحين (سيدي بن يوب) *و(سيدي أمحمد بن صالح)* ..من الغد سأخرج (روينة)* جدّي معروفا عليك..
بينما هو شارد الفكر سابحا بذاكرته في الماضي إذ بصوت غليظ يصرخ:
-إذن أنت هنا أيها الكلب..
إنّه يعرف هذا الصوت دون الالتفات إليه..صوت ابن عمّه(السعيد) الخائن لكن هذا الأخير لم ينتظر الرّد فانهال عليه وهو يصرخ منتشيا:
-أخرج أيها الكلب..أخرج!
تدّخل صاحب الخيمة (الحاج لخضر) متوسلا:
بينما الجنود يجمعون البدو في مكان واحد قصد الاستجواب،سُمِعت طلقات رصاص من خيمة(الحاج لخضر)..اقشعرّت الأبدان..فغرت الأفواه..توجّهت كل الأنظار صوب السعيد الخائن وهو يجّر جثّة..جثّة المجاهد البطل..صرخ الجميع:
-لقد قتله!
قتله من أجل فرنسا ..حمل جثّته على ظهر حمار..كان كالهزبر..طاف بها الخائن أرجاء القرية بتباه وهو يصرخ في الوجوه ذات العيون الممطرة صغيرها،كبيرها،شيخها ونساؤها..
-هذا جزاء من يتحدّى فرنسا العظيمة ويحاول أن يجعل نفسه بطلا.
لكن الزغاريد قطعت كلامه وبدأت تعلوا لتملا الجبال والوهاد وتتوحد مع عرق الفلاّح وبكاء الطّفل الرضيع بين أحضان الأمهات مع اصطكاك الجمر بالجمر في المواقد، مع عودة القطيع، مع ناي الرّاعي الحزين،مع رائحة الشّيح البرّي وأوراق الحلفاء وهي ترقص لنسيمات الهواء، ليتفجّر الصوت المبحوح داخل حناجر المظلومين والصامتين والضرير والشّيخ المسنّ والأخرس..
-تحيا الجزائر..تحيا الجزائر..
في لحظة هول وانصهار في جسد واحد وصوت واحد من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال حلّقت قطرات دم الشهيد(مرّاد) راحلة لتلتقي بقطرات في الأوراس والونشريس وفي قلب القصبة ساكنة رجالا عاهدوا الله إمّا النصر أو الشهادة..ثم امتزج صوت الرّصاص بصوت الزغاريد ليتزاوج صوت الموت والحيّاة في فسيفساء مهيبة..
-الله أكبر..الله أكبر!
في هذه اللحظة خرجت العجوز(مسعودة) الضرّيرة لا يقودها أحد غير بصيرتها..وغريزة الأم..تتلمس الطريق بإعياء..تعرف أنّ الشهيد أبنها..هي الرؤيا خبّرتها ليلا أنّ النّسر الذي فارق عشّه لن يعود..وهي روحه زارتها مودّعة قبيل استشهاده..
*********
هنا نزلت دمعة على خدّ (الحاجّة جديّه) على الرغم من مكابرتها..كانت تقصّ الحكاية على إبنها وأحفادها..إبنها ذو الاثنتين والأربعين سنّة..فهي دائما تقصّ عليه نفس الحكاية..(الحاجّة جديّه) تعيش غيبوبة طوال العام وحين تحلّ الليلة الأخيرة من أكتوبر، تجمع أبناءها وأحفادها وتروي لهم الحكاية بنفس الأسلوب والحماس فتملئ المكان تشوّقا وإحساسا بالإنتماء للأبطال والمعارك..وحين يعسعس الليل ويتنفّس الصبح تصلّي الفجر ثم تعود إلى غيبوبتها راضية مرضية..
سردون:إسم جبل بالقرب من الإدريسية سمي على قائد روماني.
الحرشة/شعب الزمره:أسماء أماكن.
سيدي بن يوب /سيدي أمحمد بن صالح:إسمان لوليين دفنا بالإدريسية.
الروينه:إسم أكلة شعبية .
*النائلي/نسبة لمنطقة أولاد نائل بالجزائر العميقة.