المشاركات الشائعة

الأحد، 31 أكتوبر 2010

حكاية شهيد/قصة قصيرة




           حكاية شهيد

نهض (مرّاد) على أصوات صراخ الجنود وهم يحاصرون الخيام الحمراء والفجر يرسل أول خيوطه ..كان الوقت وقت حصاد..السنابل صفراء تنتظر ضربات المنجل وفي الأفق في أعلى جبل (سردون)* كان الثلج يغطّي ظهر هذا الجبل النازح إسمه من روما..

سمع صوتا يقول بالفرنسية:

-مخلوف..إذهب وفتّش تلك الخيمة!

كان الصوت قريبا جدّا فعلم أنّه يعني الخيمة التي يختبئ فيها..عقد(مرّاد) ما بين حاجبيه ونظر ذات اليمين وذات الشمال..تلمّس رجله وذراعه المجروحتين منذ ثلاثة أيام بعد خوضه لمعركة ضد العدو في جبل (سردون) والتي أبلى فيها البلاء الحسن حيث استطاع رفقة مجموعة صغيرة من فكّ الحصار المضروب على المجاهدين..كيف لا؟! وهو أسد المنطقة ونازع النوم من عيون الفرنسيين، فكلام القرية لا يتوقف عن ذكر بطولاته..

(بالأمس مرّاد وجنوده هاجموا فيلقا للعدو ضواحي (الحرشة)*..بالأمس حطّم مرّاد في كمين دبابة في (شعب الزّمره)*..بالأمس قتل مرّاد الكابتن جاك والخائن محمود..بالأمس ..بالأمس..)

هاهو الآن يواجه مصيره ضعيفا جريحا....إنّه لا يخاف الموت لكن عزّ عليه أن يموت هكذا..رفع رأسه إلى السماء كأنّما يلاحق شبحا في الخيال..كانت صورة أمّه الطيبة(العجوز مسعودة) الضريرة بلباسها (النائلي)* التقليدي ووشم يذكره منذ صباه على جبهتها..وانبلجت أمامه صورة بيتهم العتيق وصورته آخر مرّة خرج من عندها حاملا سلاحه الذي غنمه من قتل الجندي الذي قتل أباه وآخر ليلة وهو يودّعها ويوصيها بالصبر ..كانت المسكينة تقبّله وتبكي..

-كفى يا أميمة كفكفي الدمع وهلّلي فإنّي ماض إلى الجهاد مع إخوة لي تركوا النفس والنفيس ملبّين نداء الوطن..ولا أظنني إلاّ نائلا إحدى الحسنيين إمّا الشهادة أو النّصر..فإن كانت إحداهما فزغردي وكبّري..

ردّت عليه كاتمة الحزن الذي يمزّق كبدها:

-إمض يا بني بارك الله فيك وأعادك إليّ سالما منتصرا(بركة) الأولياء الصالحين (سيدي بن يوب) *و(سيدي أمحمد بن صالح)* ..من الغد سأخرج (روينة)* جدّي معروفا عليك..

بينما هو شارد الفكر سابحا بذاكرته في الماضي إذ بصوت غليظ يصرخ:

-إذن أنت هنا أيها الكلب..

إنّه يعرف هذا الصوت دون الالتفات إليه..صوت ابن عمّه(السعيد) الخائن لكن هذا الأخير لم ينتظر الرّد فانهال عليه وهو يصرخ منتشيا:

-أخرج أيها الكلب..أخرج!

تدّخل صاحب الخيمة (الحاج لخضر) متوسلا:

-بالله عليك يا السعيد استحلفك القرابة وصلة الرّحم التي تجمعنا أن تكتم سرّه وأن لا تش به..


بينما الجنود يجمعون البدو في مكان واحد قصد الاستجواب،سُمِعت طلقات رصاص من خيمة(الحاج لخضر)..اقشعرّت الأبدان..فغرت الأفواه..توجّهت كل الأنظار صوب السعيد الخائن وهو يجّر جثّة..جثّة المجاهد البطل..صرخ الجميع:

-لقد قتله!

قتله من أجل فرنسا ..حمل جثّته على ظهر حمار..كان كالهزبر..طاف بها الخائن أرجاء القرية بتباه وهو يصرخ في الوجوه ذات العيون الممطرة صغيرها،كبيرها،شيخها ونساؤها..

-هذا جزاء من يتحدّى فرنسا العظيمة ويحاول أن يجعل نفسه بطلا.

لكن الزغاريد قطعت كلامه وبدأت تعلوا لتملا الجبال والوهاد وتتوحد مع عرق الفلاّح وبكاء الطّفل الرضيع بين أحضان الأمهات مع اصطكاك الجمر بالجمر في المواقد، مع عودة القطيع، مع ناي الرّاعي الحزين،مع رائحة الشّيح البرّي وأوراق الحلفاء وهي ترقص لنسيمات الهواء، ليتفجّر الصوت المبحوح داخل حناجر المظلومين والصامتين والضرير والشّيخ المسنّ والأخرس..

-تحيا الجزائر..تحيا الجزائر..

في لحظة هول وانصهار في جسد واحد وصوت واحد من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال حلّقت قطرات دم الشهيد(مرّاد) راحلة لتلتقي بقطرات في الأوراس والونشريس وفي قلب القصبة ساكنة رجالا عاهدوا الله إمّا النصر أو الشهادة..ثم امتزج صوت الرّصاص بصوت الزغاريد ليتزاوج صوت الموت والحيّاة في فسيفساء مهيبة..

-الله أكبر..الله أكبر!

في هذه اللحظة خرجت العجوز(مسعودة) الضرّيرة لا يقودها أحد غير بصيرتها..وغريزة الأم..تتلمس الطريق بإعياء..تعرف أنّ الشهيد أبنها..هي الرؤيا خبّرتها ليلا أنّ النّسر الذي فارق عشّه لن يعود..وهي روحه زارتها مودّعة قبيل استشهاده..

              *********


هنا نزلت دمعة على خدّ (الحاجّة جديّه) على الرغم من مكابرتها..كانت تقصّ الحكاية على إبنها وأحفادها..إبنها ذو الاثنتين والأربعين سنّة..فهي دائما تقصّ عليه نفس الحكاية..(الحاجّة جديّه) تعيش غيبوبة طوال العام وحين تحلّ الليلة الأخيرة من أكتوبر، تجمع أبناءها وأحفادها وتروي لهم الحكاية بنفس الأسلوب والحماس فتملئ المكان تشوّقا وإحساسا بالإنتماء للأبطال والمعارك..وحين يعسعس الليل ويتنفّس الصبح تصلّي الفجر ثم تعود إلى غيبوبتها راضية مرضية..

سردون:إسم جبل بالقرب من الإدريسية سمي على قائد روماني.

الحرشة/شعب الزمره:أسماء أماكن.

سيدي بن يوب /سيدي أمحمد بن صالح:إسمان لوليين دفنا بالإدريسية.

الروينه:إسم أكلة شعبية .

*النائلي/نسبة لمنطقة أولاد نائل بالجزائر العميقة.

  









الخميس، 21 أكتوبر 2010

قطار الذكرى/قوادري علي


قطار الذكرى/قصة قصيرة

كان صوت الصمت غريب اللكنة يتواصل مع هدير الرعد وانبلاج البرق في الأفق البعيد. أصخى إليه وهو الممتلئ بتراكمات الأيام مرّها أكثر من حلوها القليل..الليلة كان القمر مختبئا بين السحب لا يكاد يطل حتى يعود إلى مخبئه مطمئنا.في أثناء ذلك كانت خطواته تبحث عن طريق لا يصطك فيه حذاؤه بالحصى..يتوحد ظله بظل الظلام..يكاد يلتصق بالحائط. هنا ومضة من الماضي تجذبه، إحساس غريب هلامي وقوي عندما ينتابه ينقبض القلب ويفيض الدمع..يتذكر أغنية سمعها
(وأني مارق مرّيت جنب حيوط البيت..)
يسكن تارة ويمضي أخرى.هناك وشوشة سكيرين قال الأول:
-ما يحدث لو سافرت ليلا نحو الشمس؟
قال الثاني:
-أعذرني لست من سكان المنطقة.
راحا بعدها يغنيان بصوت جميل رغم تداخل السكر..
(ما أجمل الجو هنا..)
ثم يضربان الأرض في حركة آلية موحدة.كتم أنفاسه والقهقهات التي كادت تخونه خارجة للفضاء المظلم.
-(عمّ تبحث والدياجي تخفيك؟!)
لم أعد أخاف الدجنة كما كنت صغيرا.كانت أمي تقول أن الغولة  لا تخرج إلا ليلا.لم أعد أذهب إلى دورة المياه خوفا. كنت أفعلها في فراشي محتملا وابل الشتائم والصفعات.كان هذا في صباي البعيد والآن لا أخرج إلا ظلاما.هي الحكاية موطئ كل مقامر.رآها حدود ليله.إنها حبائل رقيقة شفافة لا تكاد تراها و لا تلمسها لكنّها إحساس غريب هلامي وقوي حين ينتابه ينقبض القلب ويفيض الدمع، يسقط صريعا لدقائق ثم يقاومه
 بالمشي ليلا..في الظلام صادفته الحكايا وأشاحت القرية قناعها مبدية ما خفي وكأنها تصرخ بأعلى صوتها.
-هيت لك..
-(لكنّي لم أكن نذلا وإحترمت سترتها وما هتكته)
  هنا عند هذا الممر الضيق إلتقى فتى يعرفه يتسلق الجدار إلى حبيبة طائشة تنتظره..خاف فحاول رشوته..
-لها أخت هي لك
شكره ثم مضى..في الليلة الثانية رآه لم يكن لوحده لسوء الحظ..ما إن وطأت قدماه البيت حتى إنهال عليه الحجر من كل حدب وصوب..مضى غير مبال ..الليل ليس دائما ستارا، هناك عيون لا تنام، ذئاب لا تستيقظ إلا ظلاما وإمرأة دائما ترتب الطريق و تحضّر لك جلسة سمر..الليل عنوان الخيانة ،بدء حياة الخفافيش وهو رفيق المتعبّد الهاجع يتلو الورد يتفكر في الخلق منخطفا يبحث عن الفناء في الحبّ الأزلي.. صدر لدعاوي الأمهات الطيبات..ليله هو الإنعتاق يمضي حرا.لا أحد هنا ينظر إليه..يرى الجميع ويعرف كل السارين..هنا كثيرا ما التقى (الجلاني) مخمورا يغنّي.. هو الوحيد الذي يحسّ بوجوده..في بادئ الأمر كان يلتقيه ملقيا على بطنه وهو يبكي وكلما سأله عن السبب زاد نحيبا:
-كلمّا اشترى أبي لحما يعطونني أصغر العظام
ثم يسمعه وهو يمضي يقول:
-لكن ربّك لا ينس أحدا كل ليلة يضع في جيبي 200دج..
يصل المقبرة ..يحثّ الخطى إلى المنطقة العليا..يقفز بين القبور..لم يعد الأمر صعبا..أصبح يتصرف آليا.يصل إلى القبر، يفتح يديه قارئا الفاتحة ثم ينتابه الإحساس الغريب، هلامي وقوي، ينقبض قلبه ويفيض الدمع، ينام ثلاث ساعات لا أكثر ولا أقل ثم ينهض عائدا..في طريق العودة يضع ورقة200دج في جيب (الجلاني) النائم محتضنا زجاجة الخمر الرخيص..يتفحص طريق العودة بحذر..يلج بيته بحذر..يخرج صورة ومجموعة أشرطة لعبد الحليم ومذكرة ويمضي كاتبا
   (ها هو ذا قطار الذكرى ينطلق بي ككلّ مرّة، يجوب بي المحطّات، يوقفني عند محطة البدء بعد سفر طويل في أعماق هذا الماضي وهاهي ذكراك تستيقظ من أعماق النسيان.. ذكراك التي وأدتها إنها اليوم أشباح تعكر صفو حياتي وطعنات تمزق ذاتي.ليس لي كيف أن أصدها إلا أن أجوب شوارع القرية الواسعة وألوك أرصفتها.في هذه القرية النّائمة كنت ولا زلت أبحث عمّن يستأصل ذكراك، يخمدها أو يخدّرها لأهرب من عذاباتك.إنه إحساس غريب ، هلامي وقوي، ينتابني فينقبض القلب ويفيض الدمع..ما زلت أحملك ذكرى جميلة وحكاية من حكايات جدتي..أحملك جرحا قديما لا يندمل..
  -"لو حكينا يا حبيبي نبتدي منين الحكاية..؟؟!
آه أيتها الصورة هل تذكرين كيف كانت البداية؟ فالبدايات دائما ضائعة.وحدها النهايات راسخة في العقول.أمّا أنا فأذكر البداية والنهاية.
إلى نفس الشارع تقتادني خطواتي نحو ثراك.تغتالني لحظات الأحزان..ذكريات لست أنساها محفورة ، مدفونة في الوجدان..صامتا كنت تنتابني رعشة في أوصالي..ها قد صرنا نغمة في العود حزينة..غريبة في وصلة الحسون..هل تذكرين الحسّون؟! أهديته لأحلى عيون..والآن أصبحت شمعة في ركن خيمة، في عيون ثكلى..لا أنين لا طبيب..ميتا في إنتظار الأكفان..
  -"جبت الطبيب يداوي سألني الجرح فين.."
آه أما آن لهذا القلب الذي هدّه الحزن أن ينساك يا (ذكرى) ؟!أما آن لي أن أنام؟! قد طال ليلي وطال سفري معك يا ذكرى..يا ذكري الغالية الراحلة.)
أغلق كراسته، قبّل إبنته كأنّما يقبّل أمها ،ألقى بنفسه على فراشه الذي ما تغير منذ رحيل الغالية خوفا من أن تزول رائحة عطرها المفضل ..بدا عليه النعاس مع بيان الخيط الأبيض من الأسود.















الأربعاء، 20 أكتوبر 2010

ترنيمة على مقام النهاوند




ترنيمة على مقام النهاوند



الشعر في بلدي أسطورة حُبلى=فَبَعْضُها من هوى قيس ومن ليْلى

وبعضها فَلْتَةُ في العمر هاربة=من جرح شاردة لا طيفُها ولَّى

لا وصفها اسْكت التحنان مشتعلا=شعرا على صفحاتٍ ترتوي ذُلاَّ

الشعر في بلدي ترتيلة لِجَوًى=تُغَرِّد الآهة الحرّى لها ثكلى

تنوء عن شرفات الوقت نائمة=تصحو نسيم الهوى بين الرؤى هلاَّ

الشعر قافلة الأحزان في لغتي=تنَْزاح في مفردات المشتهى وجْلى

ارتادها واثق المعنى بلا جدلٍ=فتورق الصور الأولى سمًا أحْلى

ِلأُغنياتٍ صداها يرتقي سفرًا=لوشوشاتِ سُكُونٍ نقعه فُلاَّ

فآية العشق أن ترنو لها ثَمِلا=مجنونها فيك يا مسكين قد حلاَّ

وأنت منتعش الأوزان مندفعٌ=في مرتجاها سؤال هاج واحتلاَّ

الشعر فيك نما شيطانه وهمى=الشعر فيك صحا بركانه سيْلا

أزميلك النبض لمَّ الوزن لهفته=وصاغ من وسنات البوح ما جلاَّ

تجيء للمدن..الأحلام نائية=حزينة..اَلِفَتْ شطآنها الوَيْلاَ

ايناك يا سندباد الأمس تسألُني=عنْك َالحكايات يسري موجها طِلاَّ

هانحن في قصص الأجداد نسردها=عنقاء لا تنتهي ها بعثها حلاَّ

لي في سكون المواويل التي نُقِشَتْ=لي حرقة صاحَبَتْني في الورى خلاَّ

كَتَبْتُها سورة تمشي ونافلة=تطير..تحتضنُ الأسماء والرملاَ

هذا الصهيل الموارى مثل زقزقة=تنام سنبلة أو فكرة مُثْلى

أو شمعة توقد الأحلام صابرة=ونورها بالرجا يطفو فما كلاَّ

يا جذوة علَّمَتْني نارُها عِبَرا=عهدي بها ظلُّها ينساب ما ضلاَّ

يا جذوة أوْدَعَتْني سِرَّ رقْصَتِها=وكيف راودها النسيان ما ملاَّ









ياجذوة غمرات البعث عاشقة=تأتي الردى لذة أوحى لها المولى

هي الحكاية يذوي سحرها رُطَبا=شَرِبْتُ خمرتها معسولة طفلا

وجُبْتُ مُعْتنقا أصداف نشوتها=فأينعتْ لهفتي فوق الثرى جزلى

تُشاكسُ العالم المجنون خاشعة=لتُخبر الناس والأحلام والنحلا

يا عاصمي من ذنوب الدهر مغفرة=ما سبَّح الطيْرُ في صمْتٍ وما صلَّى

يا خالق السموات اليوم ضارعة=يداي بوصلتي الإيمان ما زلاَّ

أخرُّ بابك مفتوح لتغسلني=يا من ملأتَ شرايين الدُّنا عَدْلا

أزول ما بيدي شيء يرافقني=يُضَاِجعُ الجسم منّي الدودَ والنَّمْلاَ





الأحد، 17 أكتوبر 2010


                                        
                المقبرة   

المرة الأولى والأخيرة يقتحم هذه البقعة من هذا الوطن المسترسل والحزن جبل جاثم على قلبه..كان متأكدا أنّ كلّ شيء قد تمّ..
-تبا لهذه المسافة الطويلة ولهذا الطريق غير المعبّد.".ما من أحد إختار إنما هي الأقدار"..
توحد وانصهر مع ذلك الممثل في تلك الأوبرات التي كتبها ذات رمضان وراح يتمتم المقطع وكأنه على خشبة المسرح:
    هـا إنّي أتـلمس الطرقات              عجبا ما كل هذه الحشرجات
    وعــصاتي أصداء أزمان              مـملوءة حسرات حسرات
    زيديني نـقرا كي أحـياك               يـا دنـيا سوداء اللحظات
    حولي سواد نوح الثكـالى               حـولي قبور غير مسمـاة
    ويشدّني حزن الرمال عليك              وثــراك موشوم الحـبات
    يومي ليلي أسـتبيح المآقي               بدمــوع حمراء القسمات
    أسمعوني لا تقتلوها رحمة              هي الأرض شامة المعجزات
تنازع باله خليط من الذكريات والأفكار..تذكر رسالة أخيه الصغير يبشرهم بقرب إنتهاء المدة..
-(أخي يا براءة مزّقها السكين بين أحجار غريبة وبعيدة..ياوقع الدموع على تجاعيد أمّي المفجوعة..ياخطى الغيب تسيرين دون نقع ولا وقع..يا غربة ما أقساها ...ها أنا ووجوه هذه القرية المتسربة بين اللحظة واللحظة.. في حذر تقودني خطى بطيئة وباحثة..لا بدّ أن أعثر عليها..سأسأل و لا يهم..)
كان ينظر وينتظر، يتأمل ويتساءل في صمت..لا أحد يجهل أنه غريب..قطع شارعا..لمح شخصا يحمل محفظة ..سار نحوه..
-عفوا سيدي أين المقبرة؟
تفحصه الشخص بعيون غجرية لم يفهمها..أهمله ومضى..تاه في دوامة من الاستفسارات..تأمل حذاءه الملمع وقد تغير لونه..نزع نظارته الطبية ماسحا شعيرة..بصق على بقايا طفل فرّ لتوه..فجأة إنتبه للمنازل القديمة وقد إستوت الشوارع في خطوط مستقيمة وجماعات من السكان هنا وهناك، وبعض الأطفال يلاحقون كرة في فوضى وكلام بذيء..بغتة تحولت الجدران لأشكال غريبة وراحت الحجارة الصغيرة ترتفع نحو الأعلى وقد تشكلت لها رؤؤس وأيد..تزحزح بصعوبة، كاد أن يسقط..تذكّر أنّه قضى يوما ونصف اليوم وهو يركب الطريق..
-(كل الشوارع في وطني تتشابه وكلها تعشق الأسرار وإختزان الحكايا ..وحدهم السكان يعرفون الحقائق ووحدهم المجانين والناقمون يفضحونها..)
مثلما جرته الخطوات المتعثرة، راحت  الذاكرة رويدا رويدا تنير زوايا مظلمة في أعماقه..هي العادة تلاحقه كلما حاصرته الفجائع والهموم..في لحظة خرج (محمد توتو) في زي أبيض وراح يشد كل خيوط الذاكرة إليه..كان يعشق التبول على جدران الإدارات وقبر كل مسؤؤل يموت..وحده كان يسب ويشتم المنافقين الذين يصلون في الصفوف الأولى كل جمعة..وحده كان يفضح أشباه المجاهدين لكنه في لحظات الصفو والتجلي يعشق تقبيل الأطفال في بكاء والجلوس للبسطاء مرددا لازمته الأبدية:
-"نمل ياكل نمل والباقي يهمل."
لكن المسكين قتل لخرقه حظر التجول..
-(سبحانك يا رب من كان يفكر يوما أن.....
-بطاقة التعريف ألا تسمع؟!
إكتشف يدا مبسوطة أمامه وأخرى تحمل السلاح..
-نحن فرقة الدفاع الذاتي..لم أنت هنا؟
-أنا أبحث عن المقبرة...أقصد..أقصد ..أنّه اليوم سيدفن أخي الجندي..
-إذن أنت هنا بسبب دفن الجنود.
تنفس الصعداء..هاهو يجد منقذا..لكنهم..إنهم ينصرفون..توقف كل الصراخ وكل الكلام في جوفه..سار في إرتباك ، في جوع وعطش..إنفجر شتائما في لحظات شطبت فيها الشمس وحلّت محلها سحب حمراء وسوداء..لأول مرة ينتبه للجو السائد وكأن عاصفة رملية
تتأهب للهجوم..سار إتجاه مقهى ظهر فجأة..لمح شابا يقرأ جريدة بنظارات شمسية..
-(يا عجائب الدنيا همّ يضحك وآخر يبكي..لا شمس وهذا الأحمق يضع النظارات..والأدهى أنه يتمتع بالظل الوارف..)
فلتت عنوة إبتسامة شاحبة..إتجه نحوه يروم المساءلة لكن  السؤال توقف في حلقه..حملق جيدا في الجريدة (الوطن) لكن الغريب أنها مقلوبة..قهقه كالمجنون ..قام الشاب منتفضا
-حتى هنا لاحقنا المجانين.
تداخلت الأحاسيس..تبخر العقل وأصبح مجرد جمجمة..غاب عن الوعي،عن النظر وحتى التساؤل..حين آب وجد طفلا الأكيد أنّه صغير السن..كان يتلهى برسم خارطة تشبه خارطة هذا الوطن..كان حافي القدمين، ممزّق الثياب، مبعثر الشعر، يجلس بالقرب من طاولة سجائر..سأله في يأس وتردد صارخا كي يسمعه الجميع:
-أين المقبرة؟
قذفه الطفل بنظرة لاحقته طوال اليوم المشؤؤم كلما ردّد نفس السؤال..حين أراد الهروب يائسا،صرخ الطفل في أعقابه ملوحا بما كان يرسم:
-كلّ هذي مقبرة..

الجمعة، 15 أكتوبر 2010

انتظار /ق ق ج


انتظار/ق ق ج


يضيف دمعة حليب لقهوته..يحرق سيجارته في صمت..يَتَمَلَّى اللاشيء دونما ارتعاشة جفن..يتأبط جريدته المعتادة..
ينتظر رنة الهاتف..يقفز مختطفا السماعة..
-مبروك التقاعد
يُبحر في غيبوبة تصاحبه دمعة مالحة.


الأربعاء، 13 أكتوبر 2010

ياشاعرنا./شعر ملحون

ياشاعرنا

ياشاعِرْنا انْسِجْ قَوْلِكْ وِاتْمَهَلْ=وْكُونْلي صاحب عنِّي يِفَاجي عَوَّادْ
اَنْظَمْ اَشْعارِكْ يافارس وِاتْرَجَّلْ=مَحْلى ايَّامِكْ يَالِوْكان تِتْعَادْ
راه الموت في الزَّيْنِينْ قايِخَمَّلْ=وهذي الدنيا زايده علينا تِسْواد
والزمان كل يوم يِتْقَلْب ويتحولْ=وِشْحَالْ من عزيز وَلاَّنا كَدَّادْ
ياشاعرنا هاتي المنظوم واتْفَضَّلْ=شوقي لِجْماعْتِكْ راه كِبِرْوزادْ
جِبْتْ اعليك هذا القول اِمْجمَّلْ=ماني شاعر ولاراني مولى انشاد
كلامك زين عِجِبْني مْرَتَّبْ وِيْهَبَّلْ=واَصْلِكْ بايِنْ شريف ولد اجْوادْ
والشعر فيك حكاية ومِتْاَصَّلْ=اتْقُولْ المجنون ولا بن شدَّادْ
اكلامك جايبو من القرآن المرتل=من سيدنا آدم لأرم ذات العماد
مرَّه تمدح ومرات كثيرة تتغزل=فارس مجَرَّبْ ولاَّماهر صيَّادْ
اذا جبت القول ماتِتْمَلْمَلْ=بَحْرِكْ جَرَّايْ غامق مايِصَّادو مِدادْ
ووصفك بالقصايد اِللِّي تْهَبّلْ=اتقول اغزال الصحرا علينا شرَّادْ
الكلمة عندك كي الجندي المَسَبَّلْ=تلقاني نِتْمَحْن هايم بيها نَهَّادْ
ياغلام نبدى بيك وانعجل=انت صاحب زين ولد ابلاد
خصلاتك راه يعرفها كل امْجَمَّلْ=إسمك ادونيس في المحفل قصَّاد
ويالغواطي انحييك بالتحية الاجمل= تاريخك حافل تشهد بيه لشهاد
ربِّيتْ الاجيال ثابت مِتْعَقَّلْ=وما ينكر دورك قا جاحد وحسَّاد
انسلم على بن صالح لَبْطَل=ونعرفو عشاق لتاريخ بن زياد
راتب ما يتفاوت وما يتكسل=امليح ومعروف ظاهر في لوهاد
وِنُعْقُبْ للعمدة البحر المتهول=يبحث في التاريخ بالحكمة غراد
عندو كل اعْلوم كي اتحب تْسَوَّلْ= في علم النجوم برَّاج وعدَّاد
واعلى عبد القادر الشاعر نْعَوَّلْ=بيه غُرام الزايخه عنُّو شهَّاد
محلاه باشعار فينا تتغلغل=تِمَحْمَحْ الخاطر وِتِشْفي لَكْباد
ونَخْتَم بِالْبَدْوي وامْعاه نَرْحَلْ=في ابْرُورْ الَّتل والجبل والواد
وَاهْدى ياقلبي اذا بينا قَبَّلْ= في قَوْلو موزون طالع و هَوَّاد
ومانَنْساش علي جاري في المنزل=مولى نيف وثاني مولى ميعاد
و اعوايد القارو والقهوة ماتتبدل=قهوة الشعارا هو فيها من الرواد
بالصلاة اعليك يانبينا انكمَّلْ=جبت القول اِنْشارِكُمْ نَشَّاد
شاعر فصحى في الملحون معطل=ماني مثلكم ياخاوتي راني قلاَّد
نُطْلُبْ ربِّي لينا قاعْ اِيْسَهَّلْ= ويجعل مثوانا في جنة الخُلاَّد
وذُرْكى اسمي نذكروا يامن تسال=ذاك علي قوادري ناظم لنشاد

القصيدة مهداة إلى شعراء الادريسية وهم على الترتيب
-محمد حرفوش لغواطي
-غلام محمد
-قدوري بن صالح
-بن لبقع عبد القادر الشاعر
-هزيل الهزيل
بن لبقع عبالقادر البدوي هذا الاخير الذي كتب قصيدة لهؤلاء الشعراء فقام الجميع بالرد عليه على نفس الوزن والقافية..

الثلاثاء، 12 أكتوبر 2010

اشراقة شعر

تعالي نَفْرَة الشِّعر المُعَنّى= وهاتِ الرَّاحَ والــــوترَ الشَّريدا
لِنَعْزِف باقةَ الشَّجن الموارى= مواسم نرجس تــــتلو النشيدا
لِنَرْسُمَ لَوْحَةَ المِعْرَاجِ مَرْسًى= تُعَانِقُ لَوْنَ عَيْنَـــــيْكِ السَّعِيدا
أنا منْ هَيَّجَ الكُحْلَ المجافي = حُروفًي.. نَائِحًا قُدْسي سُجُودا
أنا من أسرج الكلم المجلىّ = وأسرى رعشة الوجدان عيدا
وباح لطيفها وجع القوافي = سل الغسق المقيم..سل الوليدا
فعنِّي تَشْهَد الومضات جذلى= يُغَنّي فرقدٌ أَمَلي وجــــــــيدا
وتَهْمِسُ جُمْلتي لِغمام شِعْرِي = فَتُورِقُ واحتي رُطُبًا مجيدا
اجيئُ مَزَار أحلامي نَمَاءً = وأوغل تَيْهَ مِحْبَرَتي فــــريدا
تُنَاغِيني وَشَائِجُها مديحًا = وتُدْميني مزامـــــــيري وُعُودَا
مَلاذي شاطئ المُدُنِ الحزانى= فَاُسْكِرُ نَغْمَتي شَدْوًا عنيدا
ويَرْسو قاربي لججي مداد = فَيَا عَصْمائي انْتَشِرِي بريدا
مراكِبُكِ النوارس والمعاني = ومِلْحُ دمي يُعَاقِرُني وريدا
سأشقى فيكِ يا نبض المساءا = ت صفِّدَني هوى وطني شهيدا

أنا المَسْكُونِ بالأرَقِ المدارى = سأبقى فِتْنَتي اسْقِي الوجودا
واعْجِنُ لَهْفَتِي بقصائدٍ تَصْ......طَلِي جَمراتُها الغَضَبَ الشديدا
سأبقى أمتي الثكلى اغنّي............ لمَجْد قَدْ مَضَى كان التليدا
 

 

 

 

 

 

 

 

بارانويا/ق ق ج

كُنتَ قريبا هادئ الخطو ..تتَحَسَّسُ نبض الحرف
وتُعْلِنُ اعتقال المعنى.
توقف القلم..هربَ مِدَادُه بين السطور..
قلَّبْتَ الأوراق ترتَعِدُ من فتنة ألمَّتْ بدفاترك..
في الصفحة الأخيرة ساح الحبر كاتبا
(ما أكثر ما قلت وكأنك لم تقل شيئا.)
تَلَفَّتَ فإذا الكتب على الرفوف تصفق والعبارات تصطف
طرائق قددا..
هَمَسَتْ الشمعة الوحيدة للنور غادرْ خيطي اشتقت لبعض الديجور.

 

الاثنين، 11 أكتوبر 2010


موال قديم
 

بلادي بوصلة الأحزان
وشوشة العابرين من قدامي..
بلادي نطفة الهوى
ضاعت في لجة السنين..
أجيء يا بقايا الحكاية
تُعَرِّيني الحيطان القديمة
تَحْمِلُني شمعة الأشواق..
هنا كان عطر الطفولة ممشاي
هنا كان بوح الكتاتيب يناديني..

قريتي
يا لفظ الزمان في الخلا
ردده الصدى..
يا غفلة من ريح حانية
جئت
عناقك شوك ووصلك دموع..

أين مني مزار الأولين؟
وحالة الجذب في حضرة
عازف شردته المواويل
وعاشق لفَّه وجه صبوح
أسْلَمَ قلبه للضياع الطويل..

سلامي لطيف يطارد نبضي
يبحث في جوانحي
عن طفل خبأته ..
كان هنا
وكنت أنا هذا المسافر
أعج بتنهيدة ورثتها عن أمي
وبوجه ثابت يترحم عن والدي..

يا أنتِ ..يا بقايا قرية
هل تذكرين ذاك الصبي الشقي؟
هل تحسين بوقع الحنين في دمي؟
أنا لم أتغير كثيرا
ولم تغيرني البلاد البعيدة
مازلت أحب خبز الشعير
و(كسكسى) أمي
و حكاياها في ليل الشتاء الطويل..
ما زلت يا بساتين الرمان والتين
أحمل طعم اليرابيع البرية.
مازلت اصدح ب (ياي ..ياي)*
كلما حاصرتني همومي
وسيَّجَني قناع غربة الوطن.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يايْ..يايْ/موال محلي مثل امانا مان او ياليلي ياليل

الاثنين، 4 أكتوبر 2010


/                                               يامرايا السنين

       يا مرايا السنينْ
سافري في مدادي وريدا
يناغي الدروبْ
سافري في حروفي شعاعا
يبثّ الحنينْ


يامرايا السنينْ
جئتُ وعدا وشهدا
اداري الأنين
جئت وشما
الاقي دموع المآقي
رؤى الساهرينْ


يامرايا السنينْ
كنتُ أمسا مضى
كنت فصْلا حكى وانقضى
صرت ذكرى كما العابرينْ


يامرايا السنينْ
هكذا نلتقي أمسنا الغابراَ
هكذا نشتهي نفحة الشاعر
نبض حرف أصيل يباهى الدنا
يبتغي همسة العاشق العابر
يمتطي صهوة الهائمين الألى
انشدوا...اطربوا مسمع الساهرِ


يامرايا السنينْ
ها أنا راهب ليس يخفي
هموما على العالمينا..
على السائلينْ.
راهب في ذرى وقتنا
يسال الرمس عن لاهث
يشتري حكمة الغابرين.ْ


يامرايا السنينْ
ها أنا عابر
ارشد الخلْق وعظًا همى
عابر اشهد الدهر
صمته الشاردينْ
صابر يستحي من مزاراتهمْ
يرقمُ الحرف كيف اشتهى
في نُهى الحالمينْ

يامرايا السنينْ
عاتبينا وردّي أغاني الليالي
وهمْس المِلاح الوفي
عاتبي واعتلي رمش حسن صفي
عاتبينا ملاذا
تبدّى لِحَاظًا خفي
يَسْحَرُ العاشقينْ
واتركينا نغنّي
شظايا السنين.ْ