اليوم اروي لكم قصة سيدي الولي هدارة كما يرويها صاحبها : قال شيخنا وأنا سمعتها منه مباشرة الشيخ الطالب سالم بن ابراهيم التواتي رحمه الله ناظر الشؤون الدينية سابقا بولاية أدرار بالجمهورية الجزائرية وعضو المجلس الإسلامي الأعلى وهو أحد أنجب تلاميذ شيخنا العلامة سيدي محمد بلكبير رحمه الله تعالى، كما سمع هو نفسه من هدَّارة سنة 1378هـ/ 1958م لما قدم هدارة إلى منطقة أدرار قادما إليها من قرية بني عباس رفقة صديق له وهو الحاج كروم العبَّاسي لزيارة صديقه الحاج أحمد أقاسم وهو تاجر معروف بأدرار فالتقى الراوي معه بدكان أقاسم المذكور حيث مكث هداره بأدرار في هذه الزيارة شهرين إلا أربعة أيام.
وقال الراوي :إن هداره هذا اسمه امْحمد ولقب بهدارة لما تكلّم في قومه بعد أن كانوا يظننوه أبكما.
وقال الراوي المذكور : أن الحاج كروم العباسي المذكور كان يسمع عن أخبار هداره حسب ما ينقله بعض أعيان قبيلة الرڤيبات عندما يأتون إلى قرية بني عباس بوادي الساورة بولاية بشار ، وكان الحاج كروم هذا تاجرا مشهورا بها فكان يرسل لهداره الهدايا دون أن يره مع من يأتيه من الرڤيبات الذين كان هداره يساكنهم ، وما ذاك إلا محبة له وإكراما لما يسمع من أخباره وكراماته.
وكانت تلك الهدايا عندما تصل إلى هدارة يفرح بها ويقبلها ويدعو لصاحبها إلى أن شاءت الأقدار يسافر هدارة إلى قرية بني عباس ،وعند قدومه جلس عند دكان الحاج كروم المذكور وكان مغلقا فلما جاء صاحبه سأله من يكون فأخبره أنه هدارة فسر به وضمه إليه وسلم عليه وسأله عن أحواله.
فقام هداره بواجب الشكر له على ما كان يهديه من الهدايا ،وطلب منه مرافقته إلى أدرار لزيارة التاجر المعروف الحاج أحمد أقاسم حيث كان قد التقى به في سوق "بوبرنوس" وهو سوق كبير كان يعقد مرة في السنة فأهدى الحاج أحمد أقاسم به إلى هداره فراش زربية وتعارف عليه ووعده هداره بأن يزوره يوما ما إن شاء الله تعالى .
وقبل الحاج كروم العباسي مرافقة هداره إلى توات لهذا الغرض النبيل،فلما وصلا أدرار صباحا اتجه هداره نحو دكان الحاج أحمد أقاسم فوجده مغلقا لأن صاحبه كان قد غاب عنه في شأن من شؤونه فمكث هداره قرب دكانه المغلق ينتظره فلم يقدم الحاج أحمد إلا في المساء فالتقى الأحبة وتجاذبا أطراف الحديث.
فلما أذن مؤذن المغرب قام هداره ورفقاؤه للصلاة بالمسجد المعروف الآن (بجامع الجيلالي) الذي كان إمامه راوي هذه القصة الشيخ محمد سالم بن ابراهيم المذكور فلما سلم الإمام من صلاته وهو الراوي نفسه وخرج من المسجد فرأى هداره فتوسم به خيرا وعلم أنه من أهل الولاية والصلاح فأقبل نحوه فسلم عليه وعلى صاحبيه ، وان هداره كان يومها ضعيف البصر فلم يعلم أنه الإمام فلما أخبره زميله الحاج كروم العباسي بالأمر صافح الشيخ محمد سالم وقال لصاحبيه : " أبشروا بالخير فإن كلّ من صلى خلف هذا الإمام فصلاته صحيحة لأنه يحسن قراءة سورة الفاتحة كما أنزلت".
ثم أدخل هداره يده في جيبه من عباءته جهة صدره ، فظن الشيخ محمد سالم رواي القصة أن هداره سيهديه شيئا ، لكن هداره أخرج سبحة وهي عبارة عن خيط به 100 عقدة فمسح به وجه الشيخ محمد سالم فوجد الشيخ رائحة طيبة ما شمَّ قط مثلها ، فقال له هداره :"إن هذا الخيط هو من عمامة شيخي سيدي ماء العينين مصطفى بن محمد فاضل رضي الله عنه"،ثم قال له:"إن سيدي ماء العينين أخرج من ڤاشوشو (أي من صدره) 90 كتابا من كتب العلم فهل عندكم شيئا منها ؟".
فأجاب الشيخ محمد سالم بأن عنده منها فقط" كتابه نعت البدايات وتوصيف النهايات".
فابتسم حينها هداره وقال له :"إنك إذا لست من الُمنَكِّرين " أي لست من الذين لا يؤمنون بكرامات أولياء الله وينكرون عليهم أحوالهم.
يقول الراوي : أنه بعد هذا اللقاء الأول المشوق كان يزوره عند محل نزوله عند الحاج أحمد أقاسم وأنه زاره ذات ليلة فوجده يذكر الله بالهيللة بتلك السبحة المباركة فسأله: "هل الناس نيام أم قيام؟"، فأجابه صاحبنا أن: منهم من نام ومنهم من لم ينم، فقال له هداره: "أما أنا فلا أنام الليل بل أحييه بالذكر والعبادة".
وقال الراوي: أنه في هذه الزيارة أجريت لهداره عملية جراحية ببصره بأدرار فعاد إليه بصره بعد أن كاد يفقده.
ويقول أيضا :أن أسنان هداره يومها كانت صحيحةكاملة وأن عمره يومها عام 1378هـ/ 1958م كان 145 سنة كما أخبره هو بنفسه وأن شعره كان طويلا أسودا لا شيب به فلما سأله الحاج كروم العباسي عن ذلك قال له :"إن شيخي ماء العينين مسح بكفه على رأسي وقال لي إني لأرجو من الله عز وجل أن لا ينهدم رأسك (رجيت في مولانا أن هذا الراس ما ينهدم) فكان كذلك".
وذكر الراوي : أن طعام هداره بسيطا وربما اكتفى في منتصف النهار بشيء من الماء المحلى بالسكر وشيء من دقيق الشعير ، وكان يحب الحليب وكان الراوي يكرمه بشيء من حليب معزة كانت له.
وذكر الراوي أيضا : أن ذات يوم في مدة إقامة هداره بأدرار كان يجالسه في أحد المجلس فأقبل فيه بعض أهل الإنكار الذين ينكرون على المتصوفة فلما رآهم يتحلقون حول هداره ومدى اعتقادهم فيه ، خرج الرجل من عندهم كالمتهكم ، فقال هداره للراوي باللسان الدارج :" هذا من أهل الإنكار وبو ميّة ينزار"، أي أن هذا المنكر عليكم أما كان يكفيه زيارة من بلغ سن المائة من عمره للفائدة ولو لم يكن من أهل الولاية بل السن المتقدم وحده كاف في نفع زيارته .
ثم يقول أيضا :أنه مدة زيارة هداره هذه لأدرار في العام 1378هـ/ 1958م وهو نفس العام الذي توفي فيه هداره التقى به ذات يوم رفقة شيخ الراوي سيدي محمد بلكبير رحمه الله تعالى ، فقال هداره لسيدي محمد بلكبير:"إن تلميذك(يقصد بذلك الراوي محمد سالم) يرجو مني دعوة خير فأعطه أنت أولا وأنا أتمم"، فقال له الشيخ سيدي محمد بلكبير: "إنني أنا وتلميذي هذا نطلبها منك" ، فتبسم هداره ورفع يديه ودعا لهما بالخير.
ثم إن الراوي الشيخ سالم لما كان يزور هداره في محل إقامته بأدرار المذكور كان يصاحب معه دفترا يكتب فيه أخبار ومناقب هداره حسبما يحدثه هو بنفسه بها فأذن له في الكتبت عنه والتحديث بذلك.
وذكر الراوي أن ذاك الدفتر الذي دون فيه أخبار هداره والذي كان يعرض على هداره ما كتبه فيه وكان هداره يجيزه فيه ، قد أعاره إلى أحد الناس نسي من يكون فلم يرجعه له إل الان وهذه آفة الكتب المعارة ولله الأمر من قبل ومن بعد ، لكن الراوي تذكر هذه نبذة مما كتب في ذاك الدفتر جادت بها ذاكرته ولم يطلها النسيان فقال قال لي هدارة ما خلاصته:
(( إسمي امْحَمد وأما هداره فلقب اشتهرت به، وعمري اليوم هو 145 سنة( )، أصلي من قبيلة إدِيشِلّي، كان أهلي يساكنون بعض عرب الرڤيبات بموضع يسمى تينفوشاي وكانت مساكننا بالخيام ثم وقعت فتن بين بعض القبائل ، فهرب الناس وهربت بي أمي وعمري يومئذ 11 شهرا ( ) ثم لهول الواقعة لما ابتعد قومي تركوني بموضع ، فلمّا رجعوا لم يجدوني به فافتقدوني يومها إلى أن شاء الله الملقى بهم بعد حين من الدهر.
ويوم افتقدت أهلي حبوت بموضع فجاءت طيور النعام وأحاطت بي واحتضنتني نعامة منها فتدفأت تحتها،و بقيت مع النعام مستأنسا بها ولم تؤذيني قط بل كنت كأني من ولدها .
وكان يأتي إلينا يوميا "أرقاج" (أي رجل بلغة البربر كذا لهجة الحسانية) بهي الطلعة لا تفر منه النعام بل تقبل إليه تشمه وتحييه بتحيتها الخاصة.
فقام هذا الرجل نحوي وختنني من يومها دون أن أحس بألم ورش موضع الختان بماء ، هذا في أول يوم التقيت به ثم بصق في فمي ثاني يوم.
وكان الرجل هذا إذا مشى لا يترك أثرا لمشيه على الأرض،وكنت أتقوت مما يسوقه الله تعالى إلي من القوت ، ومنه أنني كنت إذا جعت مصصت ابهمي اليمنى فأجد بها حليبا أشرب منه حتى أشبع.
وكان الرجل المذكور بعدها يأتيني يوميا فيعلمني العلوم كاتبا لي على أوراق الشجر والحجر بسمخ (حبر) شديد السواد.
ومما درست عليه من العلوم مختصر الأخضري في العبادات ومتن ابن عاشر ورسالة ابن أبي زيد القيرواني -كلها على مذهب الإمام مالك- وبعض المتون الأخرى وقد حفظت هذه المتون حفظا جيدا كما حفظني الرجل ثلاثة أرباع القرآن من سورة الناس إلى سورة الأعراف.
وبقيت بالقفار مع النعام ماشاء الله تعالى إلى أن قاربت البلوغ ،وكان أهلي قد يئسوا من بقائي على قيد الحياة بعد أن أعياهم البحث عني.
وذات يوم خرج صياد من رجال الصحراء فرأى آثار النعام واستغرب لرؤية آثار مشي أقدامي مع هذه الطيور حيث كنت أمشي حافي القدمين وإلى اليوم كذلك لا أمشي إلا حافيا صيفا وشتاءً.
وكان هذا الرجل خرِّيتا يعلم القيافة ، فتفرس في آثار مشيي وعرف أنني من قبيلة إدِيشِلّي ، فأخبر أهلي بذلك فتعجبوا من كوني على قيد الحياة بعد طول المدة والغيبة.
فلما ذهبوا إلى الموضع علمت طيور النعام أن الرجال يقتربون من موضعها فرحلت إلى موضع آخر.
وبعد مدة اهتدى الصياد إلى فكرة تبعد رعاة الإبل عن المنطقة، فأشاع في الناس أن بالمنطقة شجرا مسموما إذا أكلت منه الإبل ماتت من حينها ، وهذا حتى لا تفر طيور النعام من الموضع مبتعدة إلى غيره.
ثم بعد مدة رجعت النعام إلى موضعها فجاء الصياد رفقة رجال من قبيلتي مختفين فتسللوا إلى عش النعام فلما رآهم "الظلِيم"(ذكر النعام ويقال له باللغة العربية الظيلم) ضربني بجناحه كي استيقظ وقد كان وقت الضحى لكن الرجال التفوا حولي والقوا القبض علي،ثم تعرف علي أهلي لشجة كانت برأسي أيام صغري تعرفها أمي.
ولما عشت مع أهلي تظاهرت أنني لا أفصح الكلام كأني أبكم، وكنت إذا نام الناس قمتُ في الخيمة أتهجد ليلا وأقرأ القرآن.
وذات ليلة قام رجل صالح من القبيلة يتهجد هو الآخر فسمع صوتي وأنا أقرأ القرآن ،فتعجب من ذلك إذ لا يوجد في القبيلة من كان يحفظ القرآن كاملا يومها، فاقترب من خيمتي فتأكد من كوني أنا القارىء، فأخبر أهلي صبيحتها بما رأى وسمع، فجاءني والدي لثاني ليلة بعد أن سمع قراءتي فقال لي مناديا لي باسمي:" يا امحمد سألتك بالله تعالى إلا تكلمت معي".
فلم إلا أقدر على عدم الرد عليه ،فأجبته قائلا : " لا إله إلا الله محمد رسول الله،ما ذا تصنعون بكلامي؟ ".
ففرح والدي وعانقني وبعد هذه الواقعة لقبتُ بهدّاره أي لما تكلمت بعد أن كان الناس يظنوني أبكم لا أهْدِرُ الكلام.
ثم بقيت مع أهلي مدة فأرسلني والدي إلى الشيخ ماء العينين مصطفى بن محمد فاضل الولي الصالح إلى زاويته بالساقية الحمراء لأكمل دراستي عنده، فرحب الشيخ بي وأحبني حبا وكان يقدمني على كثير من تلامذته حتى سأله من اغتبطني منهم عن سبب حبه لي وتقديمي على غيري،فقال لهم الشيخ: "من عنده عسل حر أيضعه في الجلد المدبوغ أم في ذاك الذي لم يدبغ بعد؟"، فأجابوه: "يضعه في المدبوغ يا سيدي".
فقال لهم: "امحمد جلده مدبوغ جاهز لوضع العسل فيه،وأما غيره فمنهم من لم يدبغ جلده بعد"، وهذه العبارة تفيد أنني كنت في مقام لم يكن ينقصني فيه إلا تكميل سيدي ماء العينين له.
فبقيت مدة أدرس عند الشيخ ماء العينين ، وكان رضي الله عنه قد مسح بكفه على شعر رأسي فلم يشب شعر رأسي إلى اليوم، وما ذاك إلا ببركته وهذا بعض كراماته التي لا تحصى.وقد حججت مع سيدي ماء العينين حجتي الأولى.
ثم بعد وفاة سيدي ماء العينين رجعت مرة أخرى إلى الحج وقد أدركت بالحجاز حرب الإنڤليز فشاركت مع شريف مكة في حربه لما أخرجوه من مكة وكان الرصاص إذا أصابني ترك أثرا طفيفا بفخذي ويسقط من حينه .ثم رجعت إلى أهلي بعد حجتي هذه ولم أكن قد تزوجت بعد، فأقمت معهم إلى أن قامت فتنة بين الرڤيبات ، فخرجت من تلك الليلة مغاضبا ، بعد أن رأيت في منامي رجلا قال لي إن الشيخ ماء العينين يقول لك: " اخرج من هنا وسر على بركة الله".
فمشيت الليل كله إلى أن أدركني الصبح وأنا في أمنيتي أن أرجع لأعيش مع طيور النعام كما عشت معها في صِباي. فأدركني العطش حتى أشرفت على الهلاك فحفرت حفرة ونمت على خذي انتظر مفارقة الروح فإذا بي أرى رجلا يناديني: " لم يحن بعد وقت وفاتك يا هداره، قم فكل من تلك الضمرانة (شجرة من أشجار الصحراء) ومص ابهمك فستجد به اللبن".
ففعلت ما أمرني به ذلك الرجل بعد أن شعرت أن كتفي ثقلت علي، فمصصت إبهمي فوجدت به اللبن وأكلت من تلك الضمرانة -وأنا منذ هذه ستين سنة أمص اللبن من إبهمي ولله الحمد- فعادت إلي الحياة وكأنما نشطت من عقال، ثم أبصرت من بعيد سوادا مستقرا فظننته خيمة فلما دنوت منه وجدته الظليم (ذكر النعام ) الذي عايشته في صغري فأقبلت نحوه وعانقته وبقيتُ مرة أخرى مع النعام مدة إلى أن سمعت هاتفا يقول لي: "إن الشيخ ماء العينين يأمرك يا هداره بأن تُخالط النّاس فإنه سيكون لك من الولد".
فرجعت بعد هذا النداء إلى قومي وعايشتهم ثم تزوجت ورزقت أولادا ولله الحمد )). انتهى هنا كلام هداره برواية الشيخ الحاج سالم عنه .
وذكر الراوي الشيخ محمد سالم بن ابراهيم أنه هو الذي أخذ الصور الفوتوغرافية الوحيدة والنادرة لهداره لما التقى به في أدرار عام 1958م ومنها تلك الواقف بها وهو يحمل إبريق الشاي وقربة الماء حافي القدمين كاشفا عن ساقيه حاسر الرأس أسود الشعر منه شائب اللحية صحيح الأسنان لم يسقط منها شيء كما رآها الراوي والمصور هو بنفسه.
وكذا التقط الراوي لهداره صورة أخرى فيها هداره جالس ومعه أحد تلاميذ الراوي الشيخ محمد سالم يحلق له بعض شعره.
وذكر لي الراوي الشيخ سالم أنه لما التقى به ذكر له أن له ولدا رضيعا بمدينة تيندوف أو بناحيتها.
ويذكر الراوي أن هداره مكث في زيارته مدة شهرين إلا أربعة أيام. وقد رأى الراوي هداره يكثر من ذكر الله تعالى لا تفارق السبحة يده، وكان هداره يقول الشعر بالدارجة الحسانية وكذا باللغة الفصيحة وله أشعار سمعها الراوي منه ودوّن بعضها في دفتر مناقبه المفقود..