جماليات الإخراج المسرحي وتجليات الفاعل الحضارى - دراسة في تحليل العرض المسرحي
دراسة بقلم/صادق ابراهيم صادق عضو اتحاد كتاب مصر
مهاد نظري :
مرت الإنسانية عبر تاريخها الطويل بضربات علمية خمس زلزلت ثوابتها وهي ( ضربة كوبرنيكوس – ضربة داروين – ضربة ماركس – ضربة نيتشه – ضربة فرويد) وقد أثرت تلك الضربات الموجهة إلى الثوابت على مسيرة الفكر .
أولاً : ضربة كوبرنيكوس :
المضادة للفكرة التي كانت تزعم ، بل هي تؤمن بأن الإنسان هو مركز الكون ، أو أن الأرض هي مركز الكون ، وكل الكواكب تدور حولها ؛ فأثبت بأن الأرض هي إحدى الكواكب التابعة للشمس ، وأنها مجرد كوكب صغير بالقياس إلى الكواكب الأخرى ؛ فهدم بذلك فكرة الإيمان المطلق بنظرية أرسطو طاليس ، تلك التي استماتت الكنيسة في الدفاع عنها ، وأحرق الكهنة كل مفكر أو عالم قال بما هو ناقض لها.
ثانياً : ضربة داروين :
التي تمثلت في نظرية النشوء والارتقاء ، تلك التي تهدم نظرية الخلق وفق التصورات الدينية (آدم وحواء) ، وتصل إلى أن أصل الإنسان قرد ، وأن الحياة بدأت من البحر ، مدللاً على صحة فرضه بالعديد من الشواهد المادية ، فيما كتب حول أصل الأنواع ودورها في النشوء والارتقاء .
ثالثاً : ضربة ماركس :
التي تمثلت في نظريته حول المادية التاريخية والجدل المادي ودوره في حركة التطور التاريخي ارتكازاً على فكرة صراع الطبقات ، والتي تفرع عنها نظرية فائض القيمة ونظرية فيض الإنتاج متنبئاً بدورهما في تفاعلهما مع نضال البروليتاريا ضد الرأسمالية العالمية في دحر المجتمع الطبقي وتحقيق العدالة الاقتصادية والاجتماعية على الأرض.
رابعاً : ضربة نيتشه :
وقد تمثلت في نظرته الفلسفية حول فكرة الخلق التي أصابت فكرة الخالق في مقتل ، وحضت كل من اعتنقها على الإيمان بأنه خالق فعله ؛ بل أنه الكون ذاته في ذاته ، فأنتجت النسبية والبنيوية والتفكيكية ، وفكرة موت المؤلف في الأدب والفن ، وعكست فكرة تداخل النصوص وتعدد دلالات المعنى الواحد ، وفكرة انتفاء الدلالة التامة ، تبعاً لفكرة إساءة القراءة وتفكيك أنساق خطاب النص أو الإبداع .
خامسا: ضربة فرويد:
حيث قامت علي التحليل النفسى مدخلا للكشف عن إمتطاء الروا سب اللإرادية لطفولة الإنسان ؛لإرادة سلوكه كبيرا، واعتبار الجنس محركا للتاريخ.
وقد أثرت تلك الضربات العلمية والفلسفية في الإبداع الأدبي والإبداع الفني تأثيراً غير محدود.
وقد انعكس ذلك في البداية على القليل من إبداعات عصر النهضة التي جسدت اهتزاز فكرة اليقين كما صورها شكسبير في (هاملت) إلاّ أن تأثيرات تلك الضربات العلمية قد تجسدت في إبداعات فناني القرن العشرين وأدبائه سواء في الفن التشكيلي أو في فن المسرح نصاً وعرضاً، إخراجاً وسينوغرافيا ونقداً . ليس هذا فحسب ، بل إن الأمر قد اتسع بحيث يعكس تعدد النظرة إلى فكرة الفاعل المسرحي من المخرج الذي سبق له انتزاعها من مؤلف النص المسرحي ونازعه فيها الممثل حتى عرفت كل مرحلة تحول بمرحلة الفاعل فيها ؛ إلى أن انتزع الفنان التشكيلي الذي تحول إلى عملية الإخراج المسرحي صفة الفاعل المسرحي الذي تقوم عليه فعالية العرض المسرحي ، حتى جاء الدور على مصمم الرقصات المسرحية الذي ينسج عرضه المسرحي اعتماداً على لغة الجسد والسينوغرافيا في محاولة خلق معادل موضوعي عن طريق الصور المسرحية المتجاورة أحياناً ، والمتشظية في أغلب الأحيان . وهنا يمكننا القول بتعدد صور التعبير المسرحي ما بين عرض مسرحي وعرض مسرحي آخر تبعاً لتعدد الفاعل المسرحي الذي يمكن رصده فيما بين فعالية فرجوية أو فاعل مسرحي فرجوي ، وفاعل مسرحي تاريخي وفاعل مسرحي فلسفي وفاعل مسرحي أنثروبولوجي ، وفاعل مسرحي إثنولوجي ، وفاعل مسرحي نفسي (سيكولوجي) .
ولاشك أن هذا التأرجح ما بين فعالية التجلي في نظرية الفاعل المسرحي هو نتاج تلك الضربات العلمية التي أسقط بها أولئك العلماء الخمسة ثوابت معرفية واعتقادية ورثتها الإنسانية عبر تاريخها الطويل ؛ فلولا تلك الضربات التي واجه بها كل عالم منهم موروثاً معرفياً أو علمياً مستقراً في أفهام البشرية منذ القدم ، ما تقدمت البشرية . حيث جعل ذلك الموروث موضوع فحص ومراجعة ومواجهة ورأه معوقاً لتقدم الحياة البشرية الإنسانية فشرع في منازلته بأسلحة العقل والمنهج التجريبي ، بعد أن رفض التوحد مع ذلك الموروث المعرفي. وقياساً على ما تقدم فقد وجد المبدع الحداثي نفسه في مواجهة حاسمة مع ذلك الموروث وتيقن من أن فناناً جديداً لن يوجد إذا ما توحد الفنان مع موروثات عصره وثوابت مجتمعه . من هنا يجوز لنا القول إن المخرج المسرحي إذا ما توحد مع النص الذي يخرجه فلن يقول شيئاً غير الذي قاله المؤلف .
وإذا توحد الممثل مع الشخصية التي يمثلها فلن يبدع لنا غير صورة الشخصية التي رسمها المؤلف . ولئن توحد الناقد المسرحي مع العرض الذي ينقده فلن يرى غير الذي رأه المخرج وبذلك ينتفي الإبداع ويصبح مجرد لون من ألوان الأداء الاستعاري التابع للنص تمثيلاً أو إخراجاً وينتفي النقد ويصبح تأريخاً فنياً للعرض المسرحي ، ونقد المسرح شيء وتاريخه شيء آخر .
إن عملية التوحد في الإبداع تحقق فحسب مصداقية المطابقة بين الصورة والأصل . والفن يحقق مصداقيته بصدق كذبه ، فجودة الانتحال بطاقة الخيال تخلق هوية الإبداع والمبدعين .
إن الفيلسوف لا يتوحد مع عصره ، ولو كان قد فعل لما أتى للبشرية بفكر جديد . والعالم لا يتوحد مع ما هو معلوم ، وإلاّ لما أصبح لدينا علم جديد ، وكذلك أديب المسرح وفنانه ممثلاً كان أم مخرجاً أم مؤلفاًَ موسيقياً أم سينوجراف لا يتوحد أي منهم مع ما شرع في إبداعه . وكما ينازل الفيلسوف الحق بفكره فكر من سبقوه. والعالم الحق ينازل علم من سبقوه . والأديب الحق فإن الفنان الحق ينازل الإبداع السابق على إبداعه .
إن المواجهة فن لا غنى عنه لمن يسعى إلى كل جديد في العلم وفي الفلسفة وفي الأدب وفي الفن . والمواجهة مرحلة من مراحل فن صناعة الأعداء . ولا تجديد ولا جديد بغير عداء مع القديم . فلو لم يقف كل من داروين وكوبرنيكوس وماركس ونيتشه وفرويد موقف عداء مع الموروث المعرفي والعلمي المستقر الذي استراح له ناس عصره لما تمكن من هدمه أو تصحيحه بالعلم ، وهل العلم إلا ما يقبل التخطئة؟! وهل هناك جديد لا ينبع من القديم ويجبه في الوقت نفسه؟! فالجديد لا يخرج إلاّ من نقيضه . هكذا ينبلج الصبح من عتمة الليل .
فما الذي في نص (مس جوليا) من أثر هذي الضربات الموجعة؟! تلك هي إشكالية المنهج عند الإقدام على إخراج النص المسرحي (مس جوليا) أو الإقدام على تمثيل دور (جوليا) نفسه أو الإقدام على معارضة مخرج مسرحي لعرض مسرحي سبق له منه موقف ما .
إن سؤالاً كهذا يتطلب أولاً وقوف المخرج والممثل أو الممثلة على عدد من المحاور منها :
صور الاكتمال الفكري في النص بشكل عام وعند كل شخصية بصفة خاصة وفق قدراتها
صور الاكتمال الوجداني عند كل شخصية - على حدة - لتأسيس المهاد النظري للتعبير الصوتي والحركي عن الدور عبر رحلة التحليل وعن جمالياته.
صور الاكتمال الاتصالي بين الشخصيات تأسيساً على تحليل منظومة العلاقات ومنظومة الدوافع حتى يمكن تحديد تصوري لضبط إيقاع الدور وتناغمه مع إيقاعات الأدوار الأخرى في الصورة المسرحية.
صور الاكتمال الجمالي في تناغم التعبير الصوتي مع التعبير الحركي عن الدور – أولاً – وفي تناغم ذلك مع تعبيرات الشخصيات مجتمعه .
ويتطلب ثانياً – حالة معارضة المخرج لعرض (مس جوليا) تحديداً – دراسة ثقافة سلوك الطبقتين : الطبقة العليا والطبقة الدنيا ، دراسة إطارية -أولاً- ثم دراسة خاصة بفئة الخدم وبشواشي النخبة المالكة والمسيطرة سيطرة مطلقة على مجتمعاتها – ثانياً- وهو أمر يدفع التحليل الأدائي دفعاً نحو فهم العلاقة ما بين الطبقتين (العليا ، والدنيا) وما بينهما من جدل مادي تأسس على جدل سابق وقائم داخل كل طبقة منهما على حدة . وهنا تتبدى الحاجة إلى الاكتمال الفكري للكشف عن جذور الصراع ومستوياته الاستراتيجية والمرحلية.
كذلك يدفع التحليل الأدائي دفعاً نحو فهم الدافع الذاتي للأنا العامة لكل طبقة منهما : (هويتها). يتلوه فهم الدافع الذاتي الخاص بأنا الفردية عند هذه الشخصية أو تلك : (جوليا) ثم (جان). وهنا تتبدى حاجة أداء الممثل إلى محور الاكتمال الوجداني؛ وما يتطلبه من غوص في أعماق الشخصية لاقتناص غرائزها من ناحية ومكتسباتها الشعورية من ناحية أخرى ، حتى يتمكن عندها من تطبيع مشاعره مع مشاعر الشخصية في محاولاته التجريبية الأولية نحو تطبيع مظاهر تعبيرها الصوتي والحركي مع مظاهر تعبير الشخصية المحتمل تصديقه وفق المصادر التي توصل إليها المخرج والممثل حول الشخصية ووسطها الاجتماعي وثقافة العصر وهو في مرحلة الوصول إلى الاكتمال الوجداني للدور يتماس بالضرورة في المسيرة الوجدانية مع مسيرة الاكتمال الاتصالي للشخصية ، لأن الوجدان المحوط بسياج الاكتمال الفكري ضروري في فهم الممثل والمخرج كليهما للأبعاد الإدراكية للدور ؛ ارتكازاً على الخطوط الفكرية التي رسمها المؤلف في نصه اقتباساً من مصادرها المشار إليها عند الكلام عن الضربات الخمس التي أصاب بها العلماء الخمسة مسيرة الإنسانية المعرفية الظنية ، وآثار رسوبياتها الثقافية المعوقة لمسيرة التطور الإنساني الحضارية والمدنية.
ولا يتبقى أمام الممثل المتفرد ، إلاّ تحقق الاكتمال الجمالي . وهو المدخل الرئيسي إلى المتلقي، باعتبار الأدب والفن كليهما إبداعاً، والإبداع يمتع قبل أن يقنع فيؤثر.
مصادر النص المسرحي
من الضرورة بمكان إلمام المخرج والممثل بمصادر النص شأنهما شأن الناقد المسرحي ، وشأن المؤرخ المسرحي – على اختلاف الحقلين- فالإلمام بالمصادر يؤسس لعملية الاكتمال الفكري ؛ ولعملية الاكتمال النفسي؛ بوصفهما أساساً لا غناء عنه لعملية الاكتمال الاتصالي بين الإخراج والتمثيل والتأليف تجسيداً للأدوار في إعادة إنتاج النص عرضاً مسرحياً . يقول باتريس بافيس : " إن المعرفة التاريخية لإنتاج النص وتلقيه تمهد لتحليله الدرامي والتعرف على العناصر التي تخص النص والعرض في آن واحد وبالذات :
- تحديد الحدث والعوامل
- بنى الفضاء ، الزمن ، الإيقاع
- ربط الحكاية وإرسائها "
ويضيف : " إن التحليل الدرامي للنص - في الأصل- وفي خضم الإخراج المسرحي هو أول انعكاس لتحليل العرض؛ إنه يوضح وينظم منهجياً معظم المدركات المنعزلة عن بعضها ويعرفنا بالطريقة التي يؤثر فيها النص والعرض كل منهما في الآخر على نحو مستمر" ؛ لذلك لابد من مخطط منهجي لمحاور إعادة النص بإنتاج إبداعي في عرض مسرحي .
فكرة النص : تدور حول صراع الطبقات وأثره على الذات الفردية .
مغزى النص : نقد طبقة الرأسمالية العليا والتأكيد على استحالة تحقق فكرة التزاوج بين الطبقة العليا والطبقة الدنيا.
المصادر الفكرية : النظريات العلمية والفلسفية والنفسية الحديثة التي غيرت مسيرة المعرفة الإنسانية عبر رحلتها العلمية على أرض الواقع بدءاً من النصف الأخير من القرن السادس عشر ، اتصالاً مع القرن التاسع عشر .
المصادر الاجتماعية : الصراع بين الطبقة العليا الرأسمالية وفلول الإقطاع وطبقة العمال.
المصادر النفسية : نظرية (فرويد) حول اللاوعي الذاتي للأنا الفردية، ودور المرأة بوصفها المحرك الرئيسي لعجلة التاريخ بالطاقة الجنسية.
المصادر الفلسفية : نظرية ماركس حول فائض القيمة وفيض الإنتاج ودورهما في حسم الصراع لصالح العمال.
المصادر الذاتية : تتمثل في هذه العبارة التي كتبها سترندبرج نفسه في كتابه (ابن خادمة) وهو يتناول سيرته الذاتية فيقول :
" ما أشبه الرجال جميعاً في الحياة المزدوجة التي يحيونها : الحياة الظاهرة والحياة الباطنة ، حياة الحديث وحياة الفكر "
أقنعة التجسيد الإبداعي في تمثيل (مس جوليا)
تتداخل أقنعة جوليا عبر عدد من المراحل على مدار الحدث المسرحي ما بين قناع السادة وقناع الخدم (الطبقة المتدنية) قناع الأنوثة ، وتظل في حالة هبوط منقاد لتيار الشعور المدفوع دفعاً برغبة غير واعية وجامحة نحو السقوط ، حتى يتحقق وعندئذ تسقط كل أقنعتها.
وهنا يجب ملاحظة رحلة جوليا النفسية عبر أربع مراحل مرت بها هذه الأنثى التي تستشعر الوحدة بفقدانها حنان الأم في حياة الأم وبعد مماتها ، وبفقدانها عطف الأب في حضوره المفترض ، الذي لا نلمسه طوال مسيرة الحدث المسرحي إلاّ في النهاية – دون أن يراه أحد – فهو السيد المتعالي الحاضر في غيابه والغائب في حضوره الذي ينوب فيه الحذاء والجرس وأنبوب الحديث عنه . فحالة الفقد تلك تدفع جوليا دفعاً خارجياً إلى التعويض بالاتصال والتفاعل مع المحيطين بها من خدم والدها الكونت أو السيد الذي يبدو مجرداً كما لو كان مجرد فكرة للأنا العليا التي خلقت وجوداً أو نموذجاً لوجود متضاد ، أو طبقي ، أحده سيد والآخر مسود. وهو وجود جبري ، في حيز مكاني وزماني جبري أيضاً ، وفي حالة احتفال بذلك الوجود أو هو احتفال بإعادة تخليق هوية ذلك الوجود الجبري. وتلك دلالة إعادة صنع الوجود الطبقي ، في المطبخ الذي أصبح – وفق هذا التأويل النقدي – رمزاً يتم فيه إعداد صيغة مغايرة للتقسيم الطبقي الجبري . وهنا يصبح السيد (الكونت) هو سيد ذلك الوجود وربه الأعلى ، وهو الأنا العليا التي تعيش تحت كنفها وبأمرها الأنا الصغرى بصفتيها (السيد والمسود) لحلحلة المواقف وخلخلة المواقع الطبقية ، وتعديل ذلك الوجود الجبري وهدم الحاجز الطبقي ، الذي يتيح للموجود العالي (جوليا) أن يهبط ، وللموجود الواطئ (جان) أن يصعد ليلتقيا في المنتصف ما بين المستويين الطبقيين ، وهنا تتبدى تجليات نظرية الصراع الطبقي وفق النظرية الماركسية .
ولأن التحول قد يحدث عن غير قصد أو على غير ما يتوقع اللاعب على ملعبه أو أرضه ذلك " إذا كان الشخص في غمامة إزاء ما يفعله ويعمى عن أن يرى واقعه ، فإنه يندمج في نوع من الخداع الذاتي لكي يخفي ما راه حتى تتفق رؤيته مع ما يتوق إليه "
وهو حال جوليا التي قصدت العبث والتلهي ، بتابع من توابع طبقتها العليا وفق التقسيم الطبقي الجبري ، في طقس احتفالي سنوي هو واحد من أبرز التفاعلات الثقافية الأوروبية التي تتخلخل فيها الثوابت الثقافية المجسدة للفروق الطبقية إذ تتفاعل الثقافتان الطبقيتان ما بين طبقة الإقطاع والطبقة الدنيا .
ولأن للتحول مظاهراً ، لكل مظهر منها بواعثه، فإن مظاهر تحول الشخصية الدرامية يتجسد على المسرح بوساطة التعبير التمثيلي الذي يتأسس على التعبير الحواري في النص المسرحي أو الذي يتأسس على التصوير الموازي الذي يتضمن الإرشادات حول المكان الخيالي والشخصية والحكاية المروية " وهو ما يعرف اصطلاحياً بالفضاء الدرامي الذي يتداخل باستمرار مع الفضاء المسرحي ليكشف عن طبيعة التداخل بين أيقونية الفضاء المادية ورمزية الكلام وهنا يكون على المتفرج التمييز بين ما يراه بعينيه وما يدركه بعين عقله in the mind s eye
والمثال التطبيقي لذلك هو عصفور جوليا في القفص في أحد العروض التي تناولت نص (مس جوليا) وفق تصور إخراجي حيث شكل جزءاً من صورة في فضاء المنظر المسرحي بداخل المطبخ ووجوده في القفص على إحدى الطاولات ، يشكل علامة أيقونية ، غير أنه يتحول من علامة أيقونية إلى علامة رمزية عندما تنحني (مس جوليا) نحوه ليرى المتفرج وجهها من خلف قفص العصفور ، حيث تكشف دلالة المسكوت عنه عن نفسها فيفك المتفرج الشفرة العلاماتية بربط صورة وجه (مس جوليا) من خلف الشبكة المعدنية للقفص مع صورة العصفور المحبوس بداخله ، ليصل إلى الدلالة التي تقنعه بأن جوليا والعصفور حبيسان في القفص أو أن العصفور هو رمز لجوليا نفسها وأن ذبح جان له في النهاية هو علامة إشارية تمهد أو تشي بذبح جوليا بعد ذلك بقليل لنفسها لأنها عاشت سجينة فكرة العبث بما حولها وبمن حولها : خطيبها السابق ، كلبتها ، عصفورها ، خادمتها ، وأخيراً خادمها جان . وفي ذلك تأكيد على أن الرسالة اللفظية لا يمكن إدراكها إلاّ من خلال الدلالات غير اللفظية المصاحبة لها في الحدث الاتصالي فمظاهرنا الخارجية وإيماءاتنا الجسدية وحركات الأيدي والأعين ودرجة الخطوات والجهر في الصوت جميعها تقوم بأدوار مساندة في تفسيرنا وفهمنا لكلمات وعبارات كل منها في الموقف الاتصالي ، بل يصل الأمر ببعض المهتمين بالاتصال غير اللفظي إلى الجزم بأهميته في مقابل الاتصالي اللفظي. فمعظمهم يعدونه في منزلة أسمى من نظيره اللفظي بل إنه قد يكون أكثر دلالة ومعنى منه في بعض الأحيان "
الممثل والتعبير بوصفه مظهراً للتحول الدرامي : التعبير في فن الممثل هو دون شك أهم عناصر تجسيد حالات التحول الدرامي لدى الشخصية الدرامية إلى جانب أدوار التعبير التمثيلي (الدال) في إنتاج الدلالة ارتكازاً على ركيزتين: القابلية والإنجاز .
الركيزة الأولى : قابلية الممثل للتعبير عن الحالة بالتجسيد أو بالشخيص الأدائي (قدرته الكامنة)
الركيزة الثانية : إنجازه للتعبير عن اللحظة الشعورية وسواء اتخذ التعبير المظهر اللغوي (الحوار/ السرد) أو المظهر الحركي أو التحريكي أو الإيمائي أو الإشاري للدلالة عن اللحظات الشعورية المهيئة لحالات التحول على تباينها أو تلك التي تجسد ردود الأفعال على حالات الاكتشاف أو التحولات الدرامية ، فإن التعبير هو المعادل للمضمون (المدلول الدرامي). والتعبير في علم اللغة بوصفه خطاباً إنسانياً هو "عبارة عن سلسلة منظمة من الأصوات المميزة ، ويطلق التعبير على المظهر المحسوس الذي للغة كنظام دال ، ويقابله المضمون .
وفي نظر هلمسليف هو كل رسالة إبلاغية تتضمن في نفس الوقت تعبيراًَ ومضموناً .. أى أنها يمكن أن تعالج من زاوية الدال (التعبير) أو من زاوية المدلول (المضمون ) على اختلافه .
أنواع التعبير:
التعبير المبدل للقواعد – التعبير المحكوم بالقواعد
أ)التعبير المبدل للقواعد :
صور التعبير ونظمه ومنها خلخلة تسلسل المواقف والصور فى النص أو العرض المسرحى وكذلك البناء المتطقى والمتداخل للحدث الدرامى وصوره .
ب)التعبير المحكوم بالقواعد:
وهو تعبير قائم على النظام والقواعد المتعارف عليها مثل البناء الدرامى التقليدى القائم على الأزمة فالذروة انتهاء بالانفراجة أو اتباع النسق الدرامى والفنى لنزعة ما فى العمل المسرحى .
ولأن شخصية (مس جوليا) فى نص سترندبرج هى مجرد شخصية افتراضية ، شأن كل شخصية درامية فى اى نص مسرحى ، فهى لا تخرج من سجنها الافتراضى (النص المسرحى) إلا بتحرير الممثل لها بطاقته التعبيرية يقول بارت تأكيد لعرضه لهذا الرأى " فالمؤلف لا ينشئ أبدا إلا افتراضات معنى أو اشكالا يعود فيملأها العالم "
وهكذا الأمر بالنسبة لكل من الممثل والمخرج والمصمم والناقد المسرحى ، فكل منهم يستعيد الكاتب بطريقته يقول سارتر " لا يكون الكاتب فنانا لمجرد أنه اختار لنفسه ان يكتب عن قضية ، بل يصبح كذلك من خلال الطريقة التى يكتب بها عن قضية ، وكل محاولة من جانب الكاتب الى استعباد العقائدى خطر .. رده فى فنه ذاته "
إن شخصية (مس جوليا) شأنها شأن كل شخصية درامية تظل إفتراضا بالنسبة للمتلقى (بالقراءة أو بالفرجة المسرحية) وبالنسبة للناقد أيضا لأن تجيد الممثلة لها بالأداء المسرحى قائم على الحقيقة الفنية وهى إفتراضية أيضا تقول اليزابيث بيرنز(Elizabeth Burns) "فيما بين الممثلين والتفرجين توجد اتفاقية ضمنيه مستترة بأن الممثلين سيسمح لهم بأن يستحضروا فى أذهانهم وفى مخيلاتهم هذا العالم الخيالى الروائى .. وهذه الاتفاقية تزيل أدوات العرض وأجهزته وتمكن النظارة من فهم المسرحية ويمكن وصف هذه الاعراف والعادات بأنها بلاغية "
هذا نفسه الذى قال به الفريد فرج حول اتفاق العرض المسرحى مع الجمهور على أن يوهم المسرح جمهوره ويقبل الجمهور ذلك بقناعه فالشخصية تخضع بطاقة الإبداع الأدائى للممثلة لسلسلة من الاكراهات الحتمية طبقا لطاقة الابداع التأليفى بما تنطوى عليه من وعى المؤلف نفسه وتظل شخصية جوليا ككل شخصية درامية افتراضا بالنسبة للممثلة كما هى بالنسبة للمخرج المسرحى المشتغل على النص المسرحى ، مع اختلاف هيئتها الافتراضية أو تباينها بالضرورة ما بين تصورها فى نص المؤلف وتصورها فى رؤية المخرج وتصورها فى أداء الممثلة وتصورها فى حالة المتلقى ( المتفرج) ذلك لاختلاف الوعى مابين تصور كل حالة من تلك الحالات التى تعرض عليها حالة الشخصية الافتراضية واداء ممثلة (مس جوليا) عليها أن تعى طبيعة جوليا بوصفها شخصية رافضة لواقعها وذاتها فالشخص "الرافض لذاته يستجيب للآخرين بطريقة عدوانية" يقول ريتشارد " كل اداء يشتمل على وعى " ويقول رولان بارت " كل ملكية للكلام مستحيلة " والأمر نفسه فيما رأى ينسحب على الصورة ، فكل ملكية للصورة مستحيلة أيضا لاختلاف ثقافة كل متلق لها عن ثقافة غيره ممن تلقوا الصورة ، كل تصور للكلمة أو للصورة خاضع لسلسلة من الاكراهات التى تفرضها تفاعلات ذات المتلقى لها مع وسطه الاجتماعى والثقافى المتوافق مع الإطار الثقافى للعصر الذى يتعايشان فيه لذا يؤكد بارت على "أن الأدب ذاته يخضع لسلسلة الاكراهات الحتمية"
وبذلك يصبح من الحق أن تقول إن فن العرض المسرحى يكمن فيما نريد أن نريه للجمهور لا ما يريد المخرج أو المممثل أو المصمم أن يقوله ، ذلك أن الفنان المسرحى محبوس البيان عما تريد الأنا الخاصة به أن تقوله . واذا كانت " الكتابة على كل المستويات هى كلام الآخر" – وفقما يرى بارت فإن العرض المسرحى بكل منظومته (تأليفا وتمثيلا وسينوجرافيا، وغناء ومصاحبات أو حيل) هو كلام الآخر.. ذلك أن "أنا" فنان المسرح كامنه فيما لا يقوله؛ مثلها مثل (أنا الناقد) إذ "ليست أنا الناقد كامنه فيما يقوله بل فيما لا يقوله"
فمع أن تيمة الشر أو تيمه الحب أو التسلط واحدة عند أى منا إلا أن نظرة الممثل المصرى " محمد الطوخى" للشر غير نظرة شخصية (ياجو) التى جسدها الطوخى نفسه فى عرض (عطيل) لشكسبير على المسرح المصرى فى الستينيات بإخراج حمدى غيث وكذلك الأمر بالنسبة للغيرة ، حمدى غيث أو ( لورانس أولفييه ) لا يجسد كل منها فى تمثيله لدور عطيل الأنا الغيورة الخاصة به ، وإنما يجتهد كل منهما فى تجسيد الغيرة الافتراضية الخاصة لعطيل تبعاً لتصور كل منها وجهد تمثله للحالة الشعورية ، فكل منها يعطينا صورة جديدة مغايرة لحالة من حالات الغيرة مدفوعاً ببواعث الشخصية التى يجسدها على المسرح ، وكل منهما يغيب صورة الشر التى تخص الأنا الخاصة به ويستحضر صورة الشر التى يفترضها فى الشخصية التى يقوم بتمثيلها وفق الشروط الذاتية للشخصية متفاعلة مع الظروف الموضوعية التى تتداخل مع شروطها الذاتية.
وحتى مع النظر إلى أن فكرة الشر من أجل الشر ظاهريا عند كل من " ياجو" فى مسرحية ( عطيل ) و " إدموند" فى مسرحية ( الملك لير) إلا أنها متقاربة من حيث المظهر عندهما وليست متطابقة إلا من حيث بشاعة أثرها ، وذلك لاختلاف الأسباب والدوافع الذاتية والموضوعية مجتمعة عند كل منهما ، فى حين نجد الشر عند " شايلوك" فى مسرحية (تاجر البندقية ) هو شر من أجل قضية تتعلق بأمة بأسرها ، هى قضية إنثربولوجية أكثر من كونها قضية سيكلوجية ، وهنا يختلف إطار تصنيف الفعل الشرير عند كل من (ياجو فى " عطيل " / إدموند فى " لير") و (جان) فى مسرحية (مس جوليا) عنه عند (شايلوك) فى (تاجر البندقية)
حتى مع النظرة المقاربة فى تقدير فعل كل من (لير) بشكسبير والسيد (عمر مكرم) فى مسرحية (رجل القلعة) لمحمد أبو العلا السلامونى ذلك التقدير الحائر ما بين الحكم على فعل تنازل كل منهما عن الحكم الأول لبنتيه الكبرى والوسطى والثانى لجندى أجنبى هو (محمد على) هل هو فعل نبيل أم هو طيش وحماقة ؟! فإن الميل الأدائى التمثيلى لإحدى الصفتين (النبل) أو (الحماقة) لا يخص (أنا) الممثل ، بل هو تجسيد إفتراضى لصفة الفعل الصادر عن ذات (لير) نفسه أو (عمر مكرم) نفسه مدفوعاً ببواعث (حقيقية / متخيلة) حسب رؤية المخرج وتصورات الممثل ، التى تكتسب المصداقية – الافتراضية / الإيهامية – من جمهور متفرجى العرض حالة تحقيق المعادل الموضوعى للأداء حيث تتعادل فى الأداء التمثيلى (الإثارة مع المثير ) أو ( الموضوع / الفعل مع إحساس الممثل به ) أو يكشف عن غياب المعادل الموضوعى فى إحساس الشخصية الدرامية التى يمثلها كما هو الحال عند شخصية (هاملت) الذى طغت الإثارة عنده على المثير الذى تمثل فى (إحساسه) الذى فاق موضوع التأثر لمقتل أبيه غيلة بيد عمه .
وهى مشكلة ايضاً عند شخصية (لير) إذ تكمن الاثارة عنده فى أنه أراد بعد ترك العرش من تلقاء نفسه لبنتيه أن تظل له امتيازات الملك ، دون أن يكون لأحد غيره (بنتيه جونريل – ريحان – زوجيهما) الحق فى تغيير أى شئ عما كان حينما كان ملكاً متوجاً ، المشكلة هى فى ردود أفعاله (الاثارة) على مظاهر اعتبار نفسه صاحب الحق فى كل ما يدور فى المملكة (المثير) هو ما يزال يشعر بأنه صاحب الحق الإلهى ، لم يشعر أنه من الهرم بحيث لا يستطيع الاكتفاء من اللعب بإرادات الآخرين المطلقة التى آلت إليهم بعد تنازله الطوعى لبنتيه عن عرش البلاد.
ومع ذلك فإن أداء ممثل دور (لير) فى حالة أدائه للدور أداء قائماً على التغريب (تشخيصه أو إعادة تصويره للشخصية) لا يكتفى بتنحية (أنا الممثل) بل هو ينحى (أنا الشخصية ) بوصفها ذاتا يحمل فعلها صفات ذاتية ليعيد تصوير فعلها كصفة اجتماعية ، عند ذلك لا يجسد ممثل (لير) فعل شخصية (لير) بصفته فعلاً ذاتياً نابعاً من ذاته ، بل يعيد تجسيد فعل الشخصية بوصفها صفة اجتماعية خاصة بنخبة الملوك والنبلاء لأن (لير) هو رأس النظام الاقطاعى ، الذى أنيط به – وفق فكرة التفويض الإلهى للملوك – الحفاظ على سلامة وحدة النظام الاقطاعى الذى هو المفوض الإلهى – وفق ثقافة النظام الاقطاعى – عليه ، غير أنه فككه وفتته ، لذلك يرى بريخت فى مسرحية ( مأساة الملك لير ) أنها ليست مأساة ، لأن بريخت وفق معتقدة المادى التاريخى مع زوال النظام الاقطاعى بداية للإزاحة المادية التاريخية للأنظمة الطبقية على التوالى وصولاً إلى المجتمع اللاطبقى ، لذلك فإن المأساة فى نظرة قائمة فى عدم إقدام لير على ما قام به من تفكيك لنظامه الاقطاعى ، والمخرج وفق هذه الرؤية البريخيتية يبنى عرضه لمسرحية ( الملك لير ) بناء قائماً على الفرضية البريختية ، ومن ثم يتأسس الأداء التمثيلى والرؤية السينوغرافية على تلك الفرضية التغريبية نفسها من هنا فإن الأداء التمثيلى للدور ينحو نحو التلخيص ، والتلخيص عمل من أعمال النقد ، لانه يحمل رأى الملخص أو وجهة نظره التى غالباً ما تكون تأويلية " ينحو التشخيص دائماً نحو التلخيص لأنه نوع من محاولة تقليد بعض فعل للغير أو تقليد بعض صوته خلال صوت المقلد وحركته"
ولا يخرج ذلك كله سواء فى ( الملك لير ) أو ( مس جوليا ) عن محور الفاعل التاريخى الذى يؤجج حركة الصراع الطبقى ولا يخرج فعل ( مس جوليا ) عن محور الفاعل السيكولوجى أيضاً ، بوصفها نموذج لطبقتها . إن صراع الطبقات حتمى فى ( مس جوليا ) كما فى ( القاعدة والاستثناء ) كما فى ( دائرة الطباشير القوقازية) كما فى ( جواز على ورقة طلاق ) وكما فى ( ليلة زفاف اليكترا ) حيث لا مجال لحدوث تزاوج طبقى .
علماً بأن أثر الدارونية فى المسرح ، ظاهر فى مسرحية ( ميراث الربح ) وفى مسرحية ( انتهى الدرس يا غبى ) وفى مسرحية ( يا طالع الشجرة ) فميراث الريح تتعرض لقضية المدرس الأمريكى الذى يدرس نظرية أصل الأنواع لطلابه وتلاميذه ، حيث يتعرض لأصل الإنسان الأول بوصفه فرداً ، ومن ثم يقدم المدرس إلى المحاكمة ، وتتعرض مسرحية ( انتهى الدرس يا غبى ) للينين الرملى ومحمد صبحى لقصة (الإنسان الفرد) الذى يتم تدريبه وتعليمه تعليماً موازياً للتعليم النظامى بجهود عالم متخصص ، وفى الجانب الآخر الموازى لهذه الفكرة تشكل مسرحية الحكيم ( يا طالع الشجرة ) بعداً آخر يسير فى المسار نفسه ولكن بطريق غير مباشر حيث تنقض خطاب المعرفة الظنية المتصلة بقضية خلق أدم وحواء والخطيئة التى تولدت على إثرها قدرة آدم وحواء ( الإنسان فى الحصول على المعرفة التى ترتب عليها معاقبتهما الالهية بالهبوط إلى الأرض .
فإذا نظرنا من منظور سيميولوجى وتفكيكى إلى بنية النص سوف نرى الشجرة رمزاً للمعرفة والسحلية رمزاً للحية " وبهادر" رمزا لآدم استناداً إلى أن اسمه يبدأ بحرف الباء رمزاً للبداية الأولى غير المسبوقة لخلق أو وجود الرجل و( بهانة ) رمزا لحواء بداية جنس المرأة، فبهانة فى الدلالة المعجمية من ( بهن ) بمعنى تبختر ، و( بهادر ) من ( بهر ) فهذه المتبخترة ( العايقة ) وذلك (المتخايل المبهر) كلاهما يعكس صفته على الآخر . فهى ( الزوجة وهو الزوج – الرجل – مفتش القطار ) فى آن واحد . وما تلك الشجرة التى تثمر كل موسم من مواسم العام الواحد أربعة أنواع مختلفة من الفاكهة سوى شجرة المعرفة ، وما السحلية التى ان اختفت فى باطن الشجرة اختفت معها ( بهانة / الزوجة ) أول امرأة فى تاريخ البشرية ، وما اختفاؤهما سوى اختفاء المعرفة التراثية الظنية التى تحدثت عن (آدم وحواء والحية وشجرة المعرفة ) فالخطاب إذن مساوٍ لخطاب المسرحيتين السابقتين فى تبنيهما لطرح قضية الخلق التراثية حول أصل الإنسان الأول ، ولكن طرح الحكيم إبداع يحمل من المراوغة الفكرية والأسلوبية ما يجعله ممتنع على غير قادر على امتلاك رية حداثية وتفكيكية ومقدرة على تفعيل علم العلامات.
يلجأ الإخراج الاستعارى إلى السير تحت مظلة النص تجسيدا لمقولته؛ فيكون على المخرج البحث عن المقولة المسرحية ( خطاب النص ) الذى يتهيأ لإخراجه ومن ثم تجسيدها وتوكيدها عبر اسلوب التمثيل المتوافق مع أسلوب النص متفاعلاً مع عناصر العرض المسرحى ودورها فى نسج اللغات غير الكلامية مع الأداء التمثيلى الحوارى فى تعبير يحقق حالة الاكتمال الدرامى والجمالى المجسد لحياة ذلك النص ، فإذا شرع فى إخراج ( اوديب ) فعليه العمل على تأكيد الدعوة للحفاظ على الأعراف والالتزام بها ولفت نظر المتفرج إلى أن من يخالف ذلك من الحكام سيعرض البلاد للإصابة بالطاعون . وإذا شرع في إخراج "أنتيجوني" فإنه مطالب بكسب تأييد الجمهور لإقامة قانون السماء ضد قانون الحاكم المطلق؛ لأن من ينصر قانون البشر على قانون السماء يهلك قومه ويهلك نفسه . فإذا كان إخراج مسرحية ( أجاممنون) مبتغاه فعليه تأكيد أن فعل المرء فى قوته يجنى رده فى ضعفه ( دان تدان ) وأن الخيانة تجلب الخيانة .
أما إذا ذهب إلى إخراج ( الكترا ) إخراجاً استعاريا فهو ملزم بالحرص على التوكيد بأن الانتقام يولد الانتقام فإن تصدى لاخراج ( الملك لير ) فهو يحرص على توكيد ضرورة الحفاظ على النظام الاقطاعى ووحدة البلاد والتحذير من مخالفة ذلك ، لأن من يخالف قانون الطبيعة فى تدرجها وسنن تحولها يغضب الطبيعة ، ويأتى بالخراب العاجل للبلاد الموحدة . وعند تصدره لاخراج ( مس جوليا ) عليه التأكيد على فكرة استحالة التزاوج الطبقى ، وكذلك الحال إذا تصدى لمسرحيات (جواز على ورقة طلاق ) أو مسرحية ( ليلة زفاف الكترا ) لمهدى بندق . أما تصديه لإخراج مسرحية ( الأب ) لسترنبرج ؛ فيلزمه بتأكيد الفكرة التى ترى أن الأم هى الأكثر حرصاً على الأسرة من الأب.
وإذا تصدى لإخراج ( بيت دمية ) فهو مطالب بتأكيد الدعوة إلى تحرر المرأة من سيطرة الرجل وسلطاته فى اتجاه فساد مقولة ( الرجال قوامون على النساء ) على إطلاقها.
وفى اخراجه لمسرحية ( أهل الكهف ) لتوفيق الحكيم؛ فهو يؤكد أن الزمن كفيل بحل أكثر المشكلات المستعصية على الحل وأن الماضى لا يصلح لتسيير الحاضر ، بالإضافة إلى استحالة عودته.
المخرج المسرحى وتجليات النهج الاستعارى فى تجسيد دلالة الصورة المسرحية
لما كان على المخرج المسرحى المبدع ان يكون مفكراً قبل أن يكون مبدعاً ، ولابد وأن يتبع منهجاً فى تحليل النص أحداثاً وأدواراً وصوراً مع امتلاك المنهج الذى يدفعه دفعاً نحو الإمساك بإشكالية التيمة التى ينبغى عليها كل مشهد أو موقف درامي وصولاً إلى الخيط الدرامى الذى يربط دلالات الأحداث على تباينها بالدلالة الكبرى ( التامة ) للمسرحية بأن يعمل على كشف توافق دلالات النص لتصب فى مصب تلك الدلالة التامة.
فعن طريق المسيرة المنهجية المتتبعة لدلالة الموت فى صوره المختلفة والمتباينة والمتلاحقة فى البنية الكبرى للحدث فى مسرحية ( هاملت ) ، يكون على المخرج وضع العديد من التساؤلات حول دلالة موت كل من ( هاملت – كلوديوس – جرترود – بولونيوس – لايرتس – جلدنشترن – روزنكرانتز – أوفيليا ) .
ثم يمايز بين دلالة وأخرى عن طريق إثارة العديد من التساؤلات
هل تكشف دلالة موت هاملت عن انتصار الخير كما تكشف دلالة موت كلوديوس عن موت الشر؟
وهل تكشف دلالة موت جرترود عن موت الخيانة وتكشف دلالة موت بولونيوس عن موت التلصص والتجسس والتآمر؟
وهل تكشف دلالة موت جلد نشترن وروزنكرانتز عن موت البلادة والتطفل والبلاهة. بينما تكشف دلالة موت لايرتس عن موت الرعونة والاندفاع والحماقة وعدم التروى؟
كما تشكف دلالة موت أوفيليا عن موت البراءة والطهارة والحب والعذرى والنقاء.
كما تشكف دلالة ظهور جمجمة ( يورك ) مهرج الملك القتيل (والدهاملت) عن موت المرح واللهو والترفيه مبكراً مع توقيت ميلاد الأمير هاملت بما يشي بأن ميلاده اقترن بولادة الحزن والخيانة والفساد وروح التآمر .
هنا يمكن للمخرج أن يبلور فى النهاية التحليلية المتدرعة بمنهج فكرى الدلالة الكبرى أو معنى النص ليحقق معنى العرض انطلاقا من ذلك المعنى الذى قام على المواجهة الدامية لصفة الطهارة مع صفة الدنس والفساد والتآمر والخيانة التى فشت فى البلاد ، وبذلك الطريق وحده يصبح لدينا المخرج المسرحى المفكر ، حتى وإن أدى تتبعه المنهجى عبر التحليل الأدائى للنص إلى المنهج الاستعارى الذى يجسد مقولة النص ؟
الاخراج الاستعارى اذن يستخدم خشبة المسرح بوصفها استعارة للنص الدرامى الذى يقوم بتنفيذه وتصويره بأساليب ووسائل مسرحية ، وهذه الطريقة هى الأقرب إلى عمل المخرجين الهواة الذين تمثل لهم خشبة المسرح مجرد حيز لتصوير ما استعاروه أو ترجموه من معنى النص.
تجليات الفكر في الإخراج المسرحى "الأيديو"
إذا اتبع المخرج منهج التفكيك ، ونحّى منهج تحليل النص جانباً ، وأطلق التساؤلات السابقة نفسها ، فإن هناك تساؤلا اعتراضيا واجب الطرح ( هل انتصر الخير فى نهاية الأمر؟) بالقياس الأخلاقى؟!
وعندها سوف يكتشف امامه تناقض لنهاية النص وعجزها عن بلوغ السعى نحو استبدال الفساد والدنس بالطهارة وذلك عندما يتوقف متسائلاً للمرة الثانية :
أليس الغريب الأجنبى الغازى هو المنتصر فى نهاية المطاف ؟ فهل فى ذلك خير؟! وهنا قد يصح عنده ما صح عند بريخت الذى اتهم هاملت بالخيانة العظمى ، وقد لا يصح إذا طور سؤاله : هل هاملت كان محقاً فى رضائه عن عبور فورتنبراس بقواته عبر أراضى الدانمرك ليعتدى على بلد مجاور لها ، ليست بينها ويلاده عداوة وهى النرويج ؟ هنا تتضح الاشكالية التى يكون على المخرج تجسيدها وفق منهج (الايديو) الاخراجى وهو المنهج الذى قاد المخرج محمد صبحى فى إخراجه لمسرحية هاملت إلى إنهاء عرضه للمسرحية عند وصية هاملت وهو يحتضر لهوراشيو بحفظ سيرته وسيرة ما جرى ليعطى صبحى بذلك معنى للمعنى مغايراً الذى انتهى اليه النص الشيكسبيرى ، فإنتهاء الحدث عند هوراشيو يكشف عن دلالة مؤداها أن البلاد آلت فى النهاية إلى واحد من أبناء الطبقة الدنيا او الوسطى على أقل تقدير ، ولم تقع فريسة فورتنبراس الدخيل الاجنبى – وفق النهاية الشيكبيرية
يمثل هذا التلاعب بمعنى النص مغايرة لما أراده شكسبير من نهاية مسرحيته بما شكل انحرافا نحو ما يعرفه ابيراشد Abirached 1 فى تصنيفه لمناهج الاخراج بالاخراج الايدكيو ( الايديولوجى ) وقد شغل مخرجونا منذ الستينات بهذا النهج الاخراجى
فقد وظف سعد اردش مجموعة من التماثيل فى مقدمة المسرح فى عرض (القاتل خارج السجن ) لمحمد سلماوى ، وجعلها تمتد على جانبى المقدمة حتى تكاد تصل إلى درجى الصعود إلى المنصة يميناً ويساراً ، حتى لتكاد تلتحم بالصالة حيث جلوس الجمهور فى مسرح السلام بالقاهرة ، ليوحى بأن الجمهور هو أيضاً مجموعة من التماثيل ، لانهم لا يتحركون ضد ما يجرى من مظالم ومفاسد في واقعهم المعيش . وهذا قريب من فكر المخرج والفنان التشكيلى البولندى ( شاينا) ،وهو واحد من جيل المخرجين التشكيليون في الأساس؛ الذين ساعدت أفكارهم التشكيلية على وجود جيل من المخرجين البولنديين الذين دخلوا الاخراج من باب السينوغرافيا ، حيث التركيز على القيم التشكيلية للعرض المسرحى ، كذلك الاهتمام بالطاقة الشاعرية الميتافيزيقية الصادرة من العرض المسرحى ، في تخليق دلالة تأويلية؛ للتأثير فى المتفرج بشكل يمس إدراكه وصولا إلي أعماقه.
وهذه الصورة التأويلية التجريدية وإن تداخلت مع أ سلوب التجسيد الأدائى ، إلا أنها تحمل وراءها بعدا نقديا ايديولوجيا ، فهى من حيث المضمون والأثر المعنوى تدخل فى إطار إثارة وعى المتفرج والكشف عن الصفة الاجتماعية .
تجليات التصور الاخراج المسرحى التناصى : " وهو الاخراج الذى يؤمّن همزة وصل ضرورية ولازمة فيما بين الاستقلالية النصية للمناط الأول والمرجعية الايديولوجية ، حيث يندرج داخل مجموعة التفسيرات والرغبة فى التميز جدلياً". وهو أيضاً الاخراج الذى يتناقص مع عروض مسرحية سابقة . وقد مارسه فى مصر مخرجون؛ أعاد بعضهم إنتاج عرض مسرحى إخراج مغاير؛ ومنهم ( محمد صبحى) الذى أعاد إنتاج عرض مسرحية" نجيب الريحانى" ( حكاية كل يوم ) التى أخرجت للسينما تحت عنوان (لعبة الست) وكان عنوان عرض محمد صبحى ( لعبة الست) حيث تلاعب فى موقف تنازل الخواجة ( إيزاك ) عن محلاته للموظف المصرى البسيط البائع فى محلاته ( حسن أبو طبق ) مركزاً على تيمه هجرة الجالية اليهودية من مصرإلى فلسكين بضغوط جمعية صهيونية .
مع تصوير شخصية ( إيزاك ) مصريا صميما محباً لمصر وللمصريين على الرغم من إلحاح واحدة من اليهوديات الصهاينة عضوة عن المنظمة الصهيونية فى مصر ، والتى تتمكن فى النهاية من اقناعه بالتنازل عن محلاته ( الحسن ابو طبق ) والهجرة ، وللتأكيد على الدلالة الوطنية بين عناصر الامة المصرية ( تصاحب هذا الموقف خلفية غنائية مسجلة بصوت فنان الشعب(سيد درويش) :
"قوم يا مصرى مصر دايما بتناديك خد بناصرى نصرى دين واجب عليك"
وهى تشيد بوحدة المصريين مسلمين ونصارى ويهود
هذا بالاضافة إلى بعض الاسقاطات البيرلسكية( التهكمية) ذات الملمح السياسى ، كما فى الإطار المعلق على حائط غرفة سكن (حسن ابو طبق ) والذى يؤطر فى وجه منه صورة فتاة بملابسها الداخلية وفى خلفيتها صورة (الملك فاروق) مع تعليق صبحى ( ممثل دور حسن أبو طبق ) موجها قوله المتهكم لصورة الملك فاروق : " أنت ما بتعتقش ؟!"
إلى جانب إعادة انتاجه لعرض ( سكة السلامة ) برؤية جديدة مغايرة من حيث وجهة المركبة التى تأسس عليها الحدث من الاتجاه غرباً نحو الاسكندرية وتضليل رجل الاعلام لقائدها ليتجه نحومدينة( مرسى مطروح) -وجهة الصحافى في الأساس- إلى الاتجاه شرقاً نحو سيناء وتضليل الاعلامى ( الصحافى ) لقائد السيارة ليدخل الأرض المحتلة ؛ ليكشف عن توجه بعض الإعلاميين ضعاف النفوس وميلهم للتطبيع الثقافي مع دولة اسرائيل ( ولايغيب عنا أن صبحي ربما أراد بذلك إدانة موقف الكاتب المسرحي المصرى (علي سالم) الذى زار الدولة الصهيونية وعاد ليذم موقف المفكرين والمثقفين من عدم التطبيع ). والعرض بذلك ينحو فى إخراجه نحو ما يعرف فى تصنيف ( ابيراشد) بـ ( الاخراج الايديو ) إذ يلمح الإخراج إلى الواقع الاجتماعى؛ لنفهم من ورائه نقداً أو رأياً يمثل فى( نص – تحتى أو ميتاً – نص) يربط فيما بينه والعالم الخارجى. ومثل هذا العرض كغيره من " العروض المسرحية التى تبحث عن أن تكون لها مكانة مع موقف فى الواقع الاجتماعى تنتمى إلى هذه الفئة : وهكذا الأمر فيما يتعلق بالإخراج المسرحى الذى يقال عنه أنه بريختى أو الذى يتناول اليوم " قضية بؤس العالم " وكذلك المسرحيات التربوية والمواعظية الاجتماعية والوثائقية"
ومن هذه العروض " يا مسافر وحدك " للمخرج هانى مطاوع ؛ تلك التي اقتبسها من نص مسرحي من العصور الوسطي Evryman و ( مارا – صاد ) لبيتر فايس والمخرج العالمى بيتر بروك ، ومسرحيته ( الغول ) للمخرج أحمد زكى ، وعرض (النار والزيتون ) بتأليف ألفريد فرج للمخرج سعد أردش وعرض ( جواز على ورقة طلاقة) تأليف ألفريد فرج للمخرج عبد الرحيم الزرقانى والمعارضة الاخراجية لها برؤية تتوافق مع ملابسات سياسية لتوجهات النظام المصرى بعد 1973 نحو رأسمالية السوق؛ حيث غير الاخراج التناصى الذى قام به المخرج أحمد عبد الحليم فى 2005/2006 النهاية إلي نهايتين ، إحداهما تستعير النهاية الملتبسة والمفتوحة التى كتب بها ألفريد فرج نصه المسرحى ، أما الثانية فهى نهاية تلفيقية ، حيث تنتحر زينب بطلة المسرحية بالسم ، بتحريض زوجها وحبيبها مراد ابن الطبقة العليا ، ثم تنهض من موتها في حالة بعث تلفيقية ليعيد المخرج بالشخصيتين النهاية التلفيقية ، التى تنسف فكرة النص الأصلى حول استحالة التزاوج بين الطبقات. والغرابة في قيام ألفريد فرج نفسه بذلك التغيير الذى ينقض كل ماآمن به وضحي من أجله طوال حياته قبل ذلك التحول الفجائي حول إمكان التزاوج بين الطبقة العليا والطبقة العاملة!!
الإخراج المسرحي وتجليات الفاعل الحضاري
تخضع حركة التجديد في الآداب والفنون لحركة الفاعل الحضاري المتغيرة .. فلأن الفاعل الحضاري عند الفراعنة قد تمثل فيما يمليه الكاهن أو الفرعون ، لذا صور المسرح الفعل محمولاً على لسان ممثل الآلهة أو ما قرره الفرعون. ولأن الفاعل الحضاري عند اليونان تمثل فيما ينتهي إليه الحوار مع الآخر، دون أن يتعارض مع ما تمليه الآلهة ؛ لذلك سيطر عالم الغيب على عالم الحياة المعيشة ، فيما عبر عنه المسرح الفرعوني ثم الإغريقي.
ولأن الفاعل الحضاري عند الرومان تمثل فيما يمليه القانون المدني مقصوراً على المواطن الروماني دون غيره من مواطني المستعمرات الامبراطورية المترامية الأطراف ، فقد تمثل ذلك في أعمال سينيكا المسرحية وفي أعمال تيرانس. ولأن الفاعل التاريخي في العصور الوسطى قد تمثل فيما يمليه فهم الكهنة والكهانة والمشايخ للكتب الدينية السماوية ، لذا سخر المسرح مطية للخطاب الديني مغلفاً بألوان الخرافة.
ولأن الفاعل الحضاري في عصرالنهضة قد تمثل فيما يمليه العلم سواء بالاستدلال الاستنباطي محمولاً على قياس الكل الغائب على الجزء الحاضر أو بالاستدلال التجريبي محمولاً على أسبابه المادية ، لذلك زاحم المنطق الصورة الأدبية والفنية وتغلغل متقنعاً خلفها.
ولأن الفاعل التاريخي في عصرنا الحالي يتمثل فيما تمليه القوة الغاشمة المنفردة بالسيطرة على الميديا والفضاء الخارجي والثورة المعلوماتية لذلك سيطر فكر التفكيك وما بعد الحداثة ولا مركزية الخطاب ونفي الأنساق البنائية بالتشظي والتداخ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق