المشاركات الشائعة

الأربعاء، 10 يوليو 2024

يظن المثقف

 يظنّ المثقف، وبعض الظن إثم، أن الدنيا تتشكل وفق صيرورته التي تنام بطمأنينة كما يراها من برجه العاجي، يظنّ ذلك على أكثر من صعيد، إذ تنتشر حول مقامهِ جملة من التحديات والإشارات، وتلتف حول رؤيته خلايا نحل وافرة العطاء، وتتقدم سراياه وفق مشيئته التي يريد، يظنّ ذلك، وهو مطمئنٌ كما يرى بالرجوع إلى حقول الأنا الممتدة منذ حرفه الأول ولغاية حرفه الأول، تحرسها أيائل إبداعات لم يكتب لها نصيبٌ من الوفرة بمكان سوى أن تتخذ من الحبل سبيلاً للعروج إلى المكانة التي تهفو إليها نفسه التوّاقة لإشباع الأنا.

المثقف ذاته، يتصفح الأشياء التي يمرّ بها، فيلقي بها طرف العين إذا لم تنعكس صورتها في البؤبؤ المشتهى، ويتخذها خليلة إذا ما أنبتت حقول نرجس ومرايا اتكاء، لهذا يظنّ، وبعض الظنّ إثم، أن دولاب الحياة لا يتحرّك إلا وفق منشوره المشبع رعدا وقصفا، فتراه واعياً إذا ما التجأ إلى محيطه الذي يتخفّى في ثوب التملك، وتراه يغيب وعياً إذا ما أغلقت الأبواب، وسُدّت الطرق، تراه واعياً رغم ما يعتور ذاته من تخبط يدركه أقل الناس انتشاراً في متون الكتب، وتراه يغيب وعياً إذا لم تتصفحه حيوات الآخرين، هكذا هو، يتلمّس الوعي مرّة، ويقفز عن الوعي كثيراً.
المثقف في يومنا هذا تتبدّل الأحوال لديه، وفق مشيئة الاتجاهات التي يتبناها، فهو أكثر نصاعة إذا ما التفت إلى محيطه، وهو أكثر انغماسا بالملذات إذا ما تغلّبت الذات على المحيط، وهو أكثر انحباساً عن الذات والمحيط إذا ما أذعن إلى آليات السرد القادمة من توجّهات غير مرتبطة بالهوية، فهو إذ ذاك، وسيط ناقل، ولكنه جاهل بالإحالات التي يتكئ عليها هذا السرد.
من هذه الدائرة وتحولاتها، دائرة الإنصات إلى التشكيل الذي يفرزه المعطى الدلالي لحيوات الإنسان الذي لا يركن إلا لما يستطيع الإتيان عليه، تفسيراً وتأويلاً، يبرز دور المثقف الحقيقي، المثقف الذي انغمس بالأرض والإنسان، وتوجّه إلى الذود عنهما، دفاعاً وتضحية وإشراقاً، يبرز بمتنه القيادي، لا التابع، القيادي الذي يُخضع النصوص إلى نبعها، لا إلى مناخاتها التي تتبدّل وفق فصول المصلحة، القيادي الذي يتقدّم الفعل الإنساني بروحه، لا بنصه منعزلا عن حركة الحياة.
وضمن هذه النتوءات التي تُخرج المثقف عن وعيه الانتمائي، تجتاحنا هذه الأيام، فكرة الصراع بين المثقفين، الفكرة التي دُبّرتْ بليل، فالمثقف، وفي مجال ما يقدمه من نصوص وتأويلات أمام حركة الزمن، نراه يتشظّى، لا هو قادر على تبنّي موقف ينسجم مع ذاته ومحيطه، ولا هو قادر على الانغماس بما يحدده النص من إشراقات تكمن في فطرته التي جُبِلَ عليها، فتراه، إمّا منعزلاً في خلوةٍ غير مبنية على عنصر المفاجأة، أو منساقاً وراء تهويمات ظنيّة تقوده إلى صراعات غير مبررة، وخاصة مع وسطه الثقافي، أو منزلقاً إلى غوايات النفس، باحثاً عن شهرة مزيّفة، أو حصة من كعكة الوجود.
الأديب أحمد خذيب

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق