● تداول الإنسان أسلحة البارود منذ القدم كرمز للسلطة والنفوذ، واستعملت كرادع ضد الغزو والهجمات المباغتة للعدو، وتوارثها الأجيال كضامن للأمن والأمان والدفاع عن
حوزة القبائل، وكانت وسيلة من وسائل القوة والجاه لردع وإحباط كل التربصات التي تحاك ضد سيادة الأرض والإنسان. وإرتبط سلاح البارود بالمقاومة ضد المستعمرالفرنسي رغم صعوبة الحصول عليه وتمريره للمقاومين الذين استشهدوا في سبيل إستقلال الوطن، وصنع رجالات المقاومة أروع الملاحم في الجبال والسهول والقرى والمدن بلغة البارود.
▪︎وتعود صناعة البارود و إقتناء قطع الأسلحة في بلاد أولاد نائل ، وحسب العديد من المصادر التاريخية، إلى القرن الثامن عشر فيقول الكاتب حمدان خوجة (...فرسان ممتازون يتسمون بكثير من الشجاعة والمهارة عندما يركب الواحد منهم لايتردد في محاربة عشرين أو ثلاثين شخصاً، وله القدرة على رد هجوماتهم وهم معروفون ببسالتهم وبعزة النفس ،وجعل أبنائهم على هذه الاخلاق .فلا يرضون على فعل أدنى دنيئة ، ولا أعتقد أن هناك من يستطع إنكار هذه الحقيقة ومن الفرسان من يمد يده إلى الأرض أثناء الركض فيلتقط حجراً أو شيئاً آخر دون أن يغادر صهوة جواده.ويرى هؤلاء السكان الرحل أن من الضرورة الملحة أن يكتسب المرء حصاناً وبندقية وسيفا". من كتاب المرآة ص 85. حيث إستوحت هذه الصناعة من البنادق الأجنبية وإرتكزت على المواد الأولية المحلية أو من غنائم الحروب القبلية ، مما ساعد على تشجيع وتطوير هذا المنتوج الحربي والجهادي، في ورشات صيانة وتركيب للقطع أكثر منها صناعتها، كانت سلسلة إنتاج البنادق تتوزع بين مهن "الحدادة" فإشتهرت بهذه الصنعة عائلات و توارثتها جيلا بعد جيل بقصور "زنينة" و "دمد " المتخصصين في صناعة ماسورات (جعب لمكاحل) من صفائح الصلب المدعومة بخواتم فولاذية لتقوية صلابتها والتي يتراوح طولها بين (متر و1,50 متر) وماسورات المسدسات "البشطولة" التي لا يتعدى طولها 80 سم ، ثم الأزندة بالتقنية الدمشقية ( لواي كبسون بوحبة) لتترك عملية التطعيم بالذهب والفضة والنحاس "لحرفيي التزيين"، وهم في الغالب يهود الأصل متخصصين في تزيين البنادق ومقابضها عبر تقنيات النقش والترصيع بمختلف المعادن الثمينة كالفضة والأخشاب والعاج.
ف︎أولو إهتماماً بالغ الأهمية لبندقية البارود ، أو ما يطلق عليها باسم (المكحلة) من مستلزمات الفروسية التقليدية الأساسية والضرورية، والتي تطورت صناعة تزيينها ، حسب جودة ونوعية المواد الفولاذية أو الخشبية للأجزاء المصنوع منها ومهارة الحرفي الصانع المتخصص في صناعتها . ورغم أن طريقة الصنع تبقى هي نفسها على مستوى التقنيات، فإن البنادق التقليدية تتميز بخصوصيات جهوية. فتتميز المكحلة بالأخمص الدقيق والخفيف المنمق بزخارف من الفضة والذهب ، وقد يصفح ظهر الأخمص في بعضها بصفائح فضية أو نحاسية، ويمكن أن يزين بقطع زجاجية مختلفة الألوان والأشكال وبأصداف وأحجار جميلة الشكل والهندسة، ويلتحم أنبوب البندقية بالأخمص الخشبي عبر حلقات فضية نحاسية وفولاذية تتضاعف حسب قدرة الفارس المادية وأغلب حرفي يهود "زنينة" و "مسعد" و "بوسعادة" هم من ادخلها حسب ماذكره الراوي كما شاع القول "دق اليهودي"فلهم لمستهم الفنية ونقشهم لزخارف بفتائل فضية ورسوما جميلة على خشب أخمص البندقية.
▪︎ومن المؤكد أن موروثنا الثقافي الشعبي النايلي يختزل العديد من الصور الرائعة التي تناولت لغة البارود في مواضيعها، شعرا ونظما واستحضرت شهامة الشجعان وخيولهم وبنادقهم مثل قول الشاعر بلخيري المحفوظ:
فيهم بوصيحة رصاصو رباط الدار ☆☆☆ويح لي قصدو ايامو يقصافو
مسقم قرطاسو موالم لزيار ☆☆☆ سلاح لفوبار ولا من أصنافو
تحتو بوشقفة تقول على الفزّة يشطار ☆☆☆منعت معلّم سول عرّافو
يتفتّت دونو لي ضاري عزبار ☆☆☆يشربل دمو يعدز نشافو
▪︎إشتهرت مناطق اولاد نائل بصناعة حشوة البارود الأسود الدخاني ذو الجودة العالية بقصور "دمد" و "الشارف" ، فأماكن إستخراجه من كهوف ومغارات أو كما تسمى "المقالع" كجبل "تفارة" بمجبارة و"عيون مازوز" بزكار وكذالك في مواقع جنوب "جبال بوكحيل" "بعبد المجيد" و "واد جدي" و"قريقر" الى مشارف الصحراء أين يتم العثور على الملح ذات قيمة عالية جداً ، فيحفر الأهالي تجويف بين الصخور والتراب حتى الوصول إلى الأرض الرطبة في الأسفل هناك توجد ترسُبات لطبقات ملح نترات البوتاسيوم نتيجة الأكسدة ومايحويه من جودة و خصائص إشتعال مميزة ، يجمع التراب وينقل ليغلى في أواني لتركيزه ، ويتم نشره فوق الحلفاء ليبيت على هذا النحو عدة ليالي معروفة بحساب خاص أو كما قال لي أحد كبار السن بالدارجة "ينجم ويسبخ ليكرر الى نوعين خماسي للفنطازية وسباعي للجهاد والصيد" وفي ذكر "البارود السباعي" يقول الشاعر بن البكاي أحمد بلخضر المتوفى سنة 1953:
إذا أجلو أقصاف يعمى من لبصار ☆☆☆ويجي متنحي بيه حس الوحايا
نتقعد معاه بسباعي نحّار ☆☆☆تتقرقع كيفان ذا يرد على ذايا
ناقلك بارود وازن في التعكار ☆☆☆بسباعي من نومرو واحد غايه
ثم يعرض للنجوم في ليالي معلومة وهذا من الأخطاء الشائعة والمغالطات التي لا أساس لها من الصحة ، وبعد هذه العملية يترسب ملح البارود بنبات الحلفاء ثم تنقّى الحلفاء من الملح العالقِ بها وتستخرج هذه المادة وتمزج بالكبريت وفحم أغصان شجرة الدفلى ، وبقليل من الماء بمكاييل دقيقة ومعلومة وخبرة في التمرس تمزج كل هذه المواد الاولية ، ليتم طحنها بمهراس خشبي و بنظام إحترازي شديد يتطلب الوعي بمدى خطورته ، حتى قال لي أحد الشيوخ عن صانعي البارود في البادية يبني خيمته وحيدا منعزلاً بعيداً عن خيم العشيرة (النزلة) بعشرات الأميال لضمان سلامة أهله وتجنب أي شرارة نار وربما كذالك ليختلي بنفسه لتسهُل عليه عملية تحضيره و تنقيته بعيداً عن الغبار الناجم عن البشر والمواشي ، ويُجفف بعدها بطرق خاصة ، ليجهز في قراطيس من قصب وهذا البارود يسمى الأسود الدخاني واذا تكرر سمي سباعي يستعمل لأغراض حربية أخرى ، ويُعد للبيع والتسويق فاشتهرت عائلات نائلية بصناعته و بإتقان كما يقول الشاعر :
عييتيني يا الحلفا بالتنتار☆☆☆ومايخدم خدمتك غير الحالف
انبات نخمم كم ربطة في القنطار ☆☆☆وبخدمة لشرار ما نيش امالف
ظاري بكري في حياحي نا وصغار ☆☆☆على ظهور الخيل والوقت مساعف
والبارود من الجعب يلقى صرصار ☆☆☆مخدوم في دمد ولا في الشارف
وعن جودة بارود دمد ومناطق بلاد أولاد نائل الشرقية قد ذكره "ابن الدين الأغواطي" في رحلته وكذلك الجنرال الفرنسي "دوماس" . وفيه يقول أحد شعراء المنطقة قديما في رده في سجال شعري كشعر النقائض بينه وبين شاعر هجى وذم قومه :
صيد بلادنا حجلة وارنب ☆☆☆وزين الخنوفة يفز مع لعلاب
وعبيرة على ليمنى ماكش غالط ☆☆☆من بارود رميرمي شاطر قصاب
سوق الجلفة بيناتنا وارواح أركب ☆☆☆و نجيبوها قاركاب يحك ركاب
▪︎وتؤرخ ذاكرة حكايات الموروث الثقافي الشعبي في مجتمعات الهضاب والصحراء بخصوص الصراع بين القبائل والاغارات (عهد السيبة) وكذالك مع جنود المخزن العثماني حول تسديد الضرائب وبعدها جنود الإحتلال الفرنسي أيام الإنتفاضات الشعبية ، استعمل الفرسان مكحلة "بوحبة"، والتي تطلق عيار وحيد أثناء المواجهة للتصدي للعدو وهجماته ويشترط قائد الكتيبة، مقدم الشجعان، من مرافقيه الفرسان الإنضباط لتعليماته ونصائحه بعد أن يكون إختياره قد وقع على الأجود من شباب القبيلة الذين يجيدون إصابة الهدف.. فضلا عن قوتهم وقدرتهم على إستعمال السيوف والخناجر بعد إطلاق البارود.
وقد حملت الذاكرة الشعبية أشعار الكثير من الأحداث التي تسجل ملاحم بطولية للفرسان ودفاعهم عن القبيلة، كأبطال المقاومة ضد الإحتلال ممن حفظتهم الذاكرة كأبو موسى الدرقاوي وشريف بن الأحرش و التلي بلكحل والحطاب بلخيرات والجامد بن سعد والشيخ حران وقويدر بن عمارة.. وغيرهم من أبطال المعارك .
▪︎كما شاع البارود و لعب دور محوري في الفروسية والصيد نظراً لما تزخر به مناطق الصحراء والهضاب من طرائد كثيرة حسب ما ذكره الرحالة الالماني "فندلين شلوصر" ، و إرتبط كذالك بالفلكلور الشعبي والرقص التمثيلي بالخيل أيام الافراح والمناسبات"الطعم" لإحياء أمجاد وبطولات أسلافهم وأقوى دليل هو تلك الرقصات الشعبية المعروفة على سبيل المثال لا الحصر "الدارة العبيدلي" التي تستعمل فيها بعض المجموعات الغنائية البنادق بحركات غاية في التنسيق والتناغم لإبهار المتلقي وإخضاعه لسلطة البارود والفروسية ، وإنعاش الذاكرة الشعبية والسفر بها بين الماضي والحاضر ، الذين تفننوا وبرعوا في الرقص بالبنادق رفقة العناصر الموسيقية المحترفة عزفا على الآلة النفخية (الغايطة والقصبة) وإيقاعات الطبول المحلية الصنع من جلد الأغنام ، حيث كلما إشتد الميزان يحيل المتلقي على الإيقاع الحربي وسنابك الخيل والبارود وشهامة الفرسان الشجعان الذين لا يهابون الموت في سبيل الدفاع عن حوزة الأرض والإنسان، يقول في مدح أولاد نائل "من قصيدة مرسم الأجداد" للشاعر الفحل المحفوظ بلخيري :
مكسبهم قرح محاصن خير أعياد ☆☆☆من راس المشوار تحسبهم طارو
ومكاحل فضة أزناد قبال زناد☆☆☆وعلى الضامن يتقدح تلهب نارو
وذراري تمسى مع صفة تصاد☆☆☆يلقط صادي في جعب من تكرارو
و من جلبة يقنصو راس العراد ☆☆☆مسعاهم للريم يسعاو خيارو
....................................
بقلم
#بلخيرات سعد