محمد تاج الدين.
October 4, 2016 ·
حديث الجمجمة رقم (5942)
ــــــــــــــــــــــــــ
سألقي إليكم قولا ثقيلا .. ومسؤولية كبرى لأهل الاختصاص (التاريخي) .. وليعذرني القراء على التطويل، فالإنصاف لا تجوز فيه تجزئة الحقيقة.
أيها الشرفاء:
لو لم يكن لصاحب هذه الجمجمة إلا (جمجمته) لكفتْه (نيشانا) و(وساما) لا تساوي أمامه نياشين الأمير عبد القادر الشهيرة شيئا .. ولا يتوهمن أحد أنني أنتقص من قدر (الأمير)، ولكن الأمير وصاحب الجمجمة (تقاتلا) ذات يوم فانتهى أحدهما غريبا معززا بالشام، والآخر شهيدا مسجون الجمجمة في بلاد العدو.
وسام (الشهادة) هو ما ارتضته الأقدار للشيخ القائد المجاهد الشهيد (سجين الجمجمة) المربي (سيدي موسى بن الحسن الشاذلي الدرقاوي المدني) الدمياطي مولدا، ذاك الذي خرج من وطنه (مصر) سائحا في الأقطار طالبا المربي الذي يدله على الله تعالى، فاتصلت أسبابه في (طرابلس الغرب) بالشيخ محمد بن الحسن بن ظافر المدني، ذاك الذي ساح أيضا للغاية ذاتها بعد مولده بالمدينة المنورة حتى وصل بلاد المغرب الأقصى فتشبع من (فاس) بالتربية الروحية التي استودعها تلاميذه ومنهم الشيخ (موسى بن الحسن).
وساقت الأقدار الشيخ إلى منطقتنا (الجلفة، الأغواط) فاستقبله أهلهما بالحفاوة والظمأ الكبير إلى (المرشد الروحي)، وأسس زاوية في (الأغواط)، ثم انتقل إلى (مسعد)، فتأثرت به عروش (أولاد نايل) بعد عروش (الأغواط)، وفي منطقة (الخضراء) بين مدينتي (الشارف) و(الإدريسية) قطن الشيخ عام 1834م وأسس (زاوية) واجتمع حوله عرش (العبازيز) أولاد (سيدي عبد العزيز الحاج)، واجتمع بزاويته المريدون والتلاميذ، وكانت زاويته بـ(الخضراء) مقرا للقيادة والتجهيز للجهاد، ولا يزال كبار السن يذكرون ذلك المكان الذي كان يحضر فيه (البارود) لتعبئته في البنادق، ولهذا كان تحت نظر قيادة (الاحتلال) مبكرا.
ومع توغل الاحتلال جنوبا وتوقيع الأمير (معاهدة ديميشال) مع الفرنسيين رأى الشيخ تلك الاتفاقية (تحالفا) مع الكافر المحتل، لا سيما وأن أول بند فيها هو (إبطال العداوة) بين الأمير والفرنسيين كما نقل ابن الأمير في (تحفة الزائر: ص115).
أذّن حينها الشيخ موسى بالجهاد من زاويته بـ(الخضراء)، واجتمع حوله مريدوه الأوفياء وخدمه من عروش المنطقة الذين قاربوا الـ(5) آلاف بين فرسان ومشاة، واندفع بجنوده صوب الشمال حتى وصل مشارف (التيطري)[المدية] التي فرض عليها الحصار عام 1835 طالبا دخولها وتسليم (يهود) المدينة إليه، ولم يصمد أمامه (حكام) المدية فدخلها واستقبله أهلها بما يليق بكونه (شيخا صالحا)، ولم يتحمل (الأمير) ذلك فانتظر من (حاكم الجزائر) الفرنسي أن يطرد الشيخ (موسى) من المدية كما يذكر ابن الأمير (ص145)، وحين لم يفعل حاكم الجزائر ذلك قال الأمير أنه إذا كانت فرنسا لا غرض لها في (المدية) فإن له أن يحتلها - بصمت فرنسي- وبقوة نارية استفاد منها بعد معاهدة (ديميشال)، وهاجم الأمير الشيخ موسى بفرق عديدة منها أربع قطع مدفعية على الأقل، مما جعل الشيخ موسى يتراجع ومن معه ويخرج من المدية باتجاه الجنوب من حيث جاء بعدما أدَّى ما عليه من التنغيص على الفرنسيين والاقتراب منهم في (العاصمة)، وعاد الشيخ إلى (مسعد) بالجلفة مع أتباعه ليعد العدة للجهاد من جديد، وضيقت عليه سلطات الاحتلال فطاردته من مكان إلى مكان، وكانت في عام 1839 مذبحة عشرات (الدراويش) من أتباع الشيخ موسى في (الشارف) والتي اكتشفت جماجم شهدائها العام الماضي بعد أعمال حفر في مكان (الزاوية الشاذلية) بالشارف، ونظرا للتضييق عليه تحرك الشيخ جنوبا حتى وصل إلى (متليلي) أرض (الشعانبة) الذين استقبلوه بحفاوة أخرى، ثم دعاه داعي الجهاد إلى الالتحاق بمقاومة الشيخ بوزيان في (الزعاطشة) حيث لقي ربه شهيدا.
والغريب أن لا يعقّب (شيخ المؤرخين) سعد الله على أكاذيب (تشرشل) في كتابه (حياة الأمير عبد القادر، ص98) إلا بقوله في الهامش عن الشيخ (موسى بن الحسن) ما يلي: (يعرف أيضا بأبي حمار، وهو الحاج موسى بن حسن، جاء مدينة المدية لنشر الطريقة الشاذلية، ثم وجد الفرصة مواتية لتولي القيادة السياسية فتولاها إلى أن اصطدم بالأمير)، وواضح أن كلام (شيخ المؤرخين) فيه حيف بالغ، فلقب (أبي حمار) هو اللقب الذي أطلقه العسكريون والكتاب الفرنسيون على الشيخ (موسى) لأنه وصل المدية راكبا حمارا لتواضعه، فكيف استساغ سعد الله ترداد هذا اللقب؟ وهذا اللقب يردده أيضا (ابن الأمير)، كما أن زعم (سعد الله) أن الشيخ موسى دخل المدية لنشر الطريقة الشاذلية فيه ظلم بالغ للحقيقة، وإنما دخلها مجاهدا معترضا على معاهدة (ديميشال)، ولم يكلف سعد الله نفسه - أيضا -عناء الرد على (تشرشل) الذي وصف الشيخ موسى بـ(المدعي المتنبئ)، ويا لها من سقطة من (شيخ المؤرخين).
ولقد كانت مقاومة (الزعاطشة) بقيادة الشيخ (بوزيان) والشيخ (موسى بن الحسن) صداعا مؤرقا للفرنسيين الذين ظنوا جذوة الجهاد خبت بانتهاء مقاومة الأمير عبد القادر، والدليل على ذلك طريقة الانتقام الوحشية التي نفذها الجنرال (هيربيون) مع رجال المقاومة وسكان الواحة التي أحرقت بنخيلها (أكثر من 10 آلاف نخلة) وأبيد أهلها وحوصر في نهايتها الشيخ بوزيان والشيخ موسى في يوم 26 نوفمبر1849، فأمر السفاح (هيربيون) بقطع رؤوسهم ،وتعليقهم على أبواب مدينة بسكرة عدة أيام، لتتحول تلك (الجماجم) إلى هدايا يتبادلها القادة الفرنسيون بعد أن وضعت في متحف قسنطينة، مع غنائم المحتل التي استلبها من الشعب الجزائري المقاوم، ويذكر التاريخ تعاون (ريبو) مع (روني هونوران فيتال) على جمع سلسلة من الرؤوس التي تم تحنيطها وحفظها بمادة مسحوق الفحم لتفادي تعفنها، وسلم (فيتال) رؤوس القادة الجزائريين لـ(رينو)، وعددهم تجاوز العشرين، لتحوّل إلى المتحف الوطني للتاريخ بباريس ويتم ترقيمها والاحتفاظ بها نكاية في المقاومة الجزائرية الباسلة، ويحمل الشيخ موسى رقم (5942) كما في الصورة المرفقة.
واليوم يعود الحديث عن جريمة سجن (الجماجم)، ولا تحرك الدولة الجزائرية - بعد الاستقلال - ساكنا، بينما يقول المتحف الفرنسي أنه لم يتلق طلبا بشأن الجماجم التي بحوزته والتي تفوق (18 ألف) جمجمة، باعتراف الإعلام الفرنسي (قناة: فرانس 24).
والمطلوب اليوم من أهل منطقتي (الجلفة) و(الأغواط) وخصوصا الأكاديميين وأهل الغيرة على تاريخ المنطقة المغمور والمستهدف وأهل الغيرة على الهوية أن يتحركوا -بجدية- لإعادة الاعتبار للشيخ المجاهد الشهيد (موسى بن الحسن) الذي قدم روحه وروح أحد أبنائه - كما يُروى- من أجل الجزائر، ولم يمنعه أصله المصصري من أن يكون (جزائريا) حتى النخاع، ومسلما مجاهدا كما أملت عليه تربيته الروحية الإسلامية، وأقل ما يقدم له الكتابة بتفصيل وإنصاف عن (حركته الجهادية)، و(دعوته التربوية) التي أعطى بيانا عنها في كتابه المخطوط (التحفة المَرْضية) والذي قيل لي أنه بحوزة أحد المهتمين بالأغواط، ولكنه يرفض الإفراج عنه أو إفادة المحققين منه لطباعته وفق ما نقل لي، ونقل لي أيضا أن أستاذنا المحقق الكبير أحد مفاخر الأغواط الأستاذ الدكتور (بشير بديار) عنده من التحقيق والتنقيب عن تراث الشيخ وحياته ما يغني الباحثين الذين عليهم الاستفادة منه، وإليه أوجه التحية، وأستعجله في إعطاء صورة كاملة عن حياة الشيخ الشهيد، كما يُرجَى من السلطات الوصية على المستوى المركزي، وعلى مستوى ولايتي (الجلفة) و(الأغواط) وجامعتيهما الإعداد لملتقى وطني يعيد ذكر الشيخ إلى الواجهة بانتظار استعادة (جمجمته الشريفة) وجماجم الشهداء الآخرين ودفنها بما يليق بقدرها الروحي والجهادي، خصوصا بعد حديث المتحف الفرنسي عن إمكانية ذلك.
وفي الأغواط والجلفة أحفاد الشيخ موسى من أولاده الثلاثة (مصطفى، محمد، أبو بكر)، والشيخ أبو بكر تركه الشيخ جنينا في بطن زوجته، وأخبر بميلاده قبل استشهاده، وذكر لزوجته علامة في جسد الولد، فكان كما ذكر، ويعرف أهل الشارف والإدريسية وما حولهما الآن من هو الشيخ (سيدي أبو بكر).. ابن الشيخ (موسى بن الحسن) الذي يحمل لقبُ أحفادِه اليوم اسمَه: (موساوي) في الجلفة والأغواط، ولقد كان والدي وأسلافي على علاقة وطيدة بهم نتوارث الاحترام لهم خلفا عن سلف، ولأحفاد الشيخ الشهيد كلمتهم التي عليهم أن يقولوها، وهناك أيضا أبناء زواياه الذين حملوا -تاريخيا- لقب (الدراويش) لما كانوا عليه من زهد إيجابي لم يمنعهم من اعتزال الدنيا، بل دفع بهم إلى ساحة القتال مختارين، ولقد كانوا أكثر طواعية للشيخ في حياته حتى أنه لما علم بأن نهايته في (الزعاطشة) اقتربت أذن لمريديه أن يختاروا بين البقاء معه والانسحاب خارج الواحة، وقال لهم كلمته المشهورة: (من بقي شهيد، ومن ذهب سعيد)، كناية على أنه راضٍ عنهم حتى ولو تركوه يواجه مصيره بعد أن أبلوا البلاء الحسن معه.
والدعوة مفتوحة لكل من له إمكانية الإفادة في كتابة تاريخ هذا الرجل الفذ، راجين أن تتعطر الأفواه والأقلام بالترحم عليه، فرحمة الله على تلك الروح الطاهرة في عليين، ورحمته لتلك الجمجمة الغريبة المحتلة السجينة ولكل الجماجم، ورحمته لجسده الذاوي الثاوي في واحة العزة بـ(الزعاطشة)، ولا عزت أنوف الخونة، ولعنة الله على فرنسا أبد الآبدين.
اللهم ارحم عبدك الشيخ موسى بن الحسن وتقبله عندك في الشهداء، وأعلِ ذكره في الدنيا قبل الآخرة، واجعل له لسان صدق في الآخرين، وارحم كل من ضحى لأجل هذا الوطن الغالي من الصادقين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق