قراءة في المقاربة الميكروسردية
القصة القصيرة جداً عند د. جميل حمداوي
د. يوسف حطيني
تقديم:
لقد جاوزت القصة القصيرة جداً مرحلة الحماسة للجنس الأدبي، مثلما تجاوزت الأصوات المعارضة التي وقفت في طريق تبلورها نظرياً وإبداعياً، وحسمت لصالحها عدداً لا بأس به من النقاد الذين بدوا مترددين في الانحياز لها بعد نحو خمسة عشر عاماً من صدور أول كتاب ينظر لهذا الجنس الأدبي، وهو كتاب "القصة القصيرة جداً ـ مقاربة بكر" لأحمد جاسم الحسين.
وإثر صدور هذا الكتاب صدرت كتب متعددة حول ذلك الفن ليوسف حطيني وجاسم خلف إلياس وهيثم بهنام بردى؛ سعت جميعها نظرياً وتطبيقياً إلى تشكيل حدود المصطلح وأركانه وتقنياته؛ ليلمع من ثم نجم جميل حمداوي في المغرب العربي، بوصفه واحداً من أهم المنظرين لهذا الفن السردي، وأغزرهم إنتاجاً، إلى جانب عدد من النقاد من مثل: عبد الدائم السلامي وعبد العاطي الزياني وسعاد مسكين ونور الدين الفيلالي ومحمد يوب ومحمد اشويكة وحميد لحمداني وغيرهم.
وعلى الرغم من تواتر الكتابة على المستويين الإبداعي والتنظيري (وخاصة في سورية وفلسطين والسعودية والعراق والمغرب) فقد بقيت نقاط خلاف متعددة يتداولها النقاد من كتاب إلى آخر، ومن مؤتمر إلى آخر، تتعلّق بتأصيل هذا الفن، وحدود المصطلح الذي يسعى إلى تمييز هذا الجنس من غيره، إضافة إلى تداخل واضح بين أركانه وتقنياته.
حول تأصيل القصة القصيرة جداً:
سبق أن أشرنا في كتابنا "القصة القصيرة جداً بين النظرية والتطبيق" في أثناء الفصل المسمّى (جذور القصة القصيرة جداً) إلى وجود مختلف أنواع السرد القصير جداً في التراث العربي الغني بالأخبار والحكايات والطرائف، والشذرات والأكاذيب والمنامات والمقامات. وأكدنا أن الجنس الأدبي لا يستمدّ شرعية وجوده من معيار وجود جذوره التراثية، غير أنَّ الإقرار بوجود النص التراثي السردي القصير جداً عند العرب هو إقرار بأمر واقع أكثر من كونه بحثاً عن هوية تراثية لهذا الفن.
وقد أشرنا في الفصل ذاته إلى أنّ السرد القديم القصير جداً، بمختلف أشكاله، تناول قضايا اجتماعية وسياسية مختلفة، واستعان بشخصيات واقعية أو تخيلية مثل أشعب وجحا، ليؤدي وظيفة دلالية. وإذا كانت شخصية أشعب قد بدت مسطحة وبسيطة وأحادية الاهتمام إلى حد كبير، فقد جاءت شخصية جحا ظاهرة الاختلاف عن الشخصية السابقة، لأنها لا تسعى إلى مجرد الإضحاك، بل إلى تعميق إحسـاسـنا بالواقـع السياسي والاجتماعي الذي عاشته هذه الشخصية، وهي، أي شخصية جحا، لم تعش في عصـرها فقط، بل تجـاوزته إلى عصرنا من خلال ظهورها في أدبيـات حديثة، وإذا كان ثمة خلاف في تحديد اسم هذه الشخصية ، ومكان وجودها الحقيقي، فإن الذي لا خلاف فيه أنها شخصية موجودة، وأنها تفيد من مساحة الحرية التي يتيحها الحمق لإبداء رأيها في كثير من القضايا الخطيرة التي لا يستطيع العقلاء تحديد مواقفهم منها بصراحة.
وخلافاً لما أوردناه في هذا الفصل، فقد راح نقاد آخرون يبحثون عن جذور القصة القصيرة جداً في الآداب الأوروبية والآداب الأمريكية اللاتينية، مشيرين إلى وجود هذا الشكل في الأدب الإسباني والفرنسي والمكسيكي، وهذا أمر لا ينكره عاقل، وهو لا يناقض أن تكون القصة القصيرة جداً في الوطن العربي تطوراً طبيعياً للسرد التراثي القصير جداً، لأن هذا السرد شكّل سلسلة متصلة من أنواع تلك السرود، استمرّت في العصور الأدبية المختلفة، ولم تنقطع حتى مطلع العصر الحديث، بل إنها صارت في مطلعه أقرب إلى الشكل الذي نبحث عنه اليوم، ونستمد منه عناصر القص وتقنياته. وحسبنا ها هنا أن نشير إلى نص مثالي كتبه جبران خليل جبران في كتابه (المجنون):
"خرج الثعلب من مأواه عند شروق الشمس، فتطلّع إلى ظلّه منذهلاً، وقال: سأتغدى اليوم جملاً!. ثم مضىفي سبيله يفتّش عن الجمال الصباح كلّه. وعند الظهيرة تفرّس في ظلّه ثانيةً وقال مندهشاً: بلى، إنّ فأرة واحدة تكفيني ".
في تقنيات القص وأركانه:
لقد انطلق نقاد القصة القصيرة جداً من أنّ هذا الفن يتعامل بشكل مختلف مع عناصر السرد، فالحدث سهمي يتجه نحو تفريغ ذروته، ولا مجال للحوارات الطويلة التي تكشف الشخصية أو المونولوجات أو المذكرات، والحكاية مختصرة سهمية، واللغة فاعلة لا تطمئن إلى الوصف الذي يجعل إيقاع السرد بطيئاً، والزمن والمكان مجرد إشارات برقية... إلخ.
لذلك فقد انشغل النقاد منذ الكتاب الأول للدكتور أحمد جاسم الحسين في البحث عن صيغة تحاول اختزال مساحات تلك العناصر، وتحفظ لهذا الفن تفرّده، دون أن تخرجه من طبيعته السردية، فتحدثوا عن الحكائية (أو القصصية) والتكثيف والوحدة والمفارقة... إلخ، ولم يتأثروا كثيراً بما أنجزه نقاد آخرون من أمريكا اللاتينية تاهوا بين السرد والشعر، ولم يهتموا بتفريد القصة القصيرة جداً إلى الحد الذي يجعل منها بنية سردية متصلة بالسرد ومنفصلة عنه في آن؛ إذ رأى الناقد الأرجنتيني راوول براسكا أنّ "القصة القصيرة جداً تنبني على ثلاثة مقومات أساسية، وهي الثنائية (ثنائية الواقع والخيال)، والمرجعية التناصية، وانزياح المعنى " بينما رأى الناقد المكسيكي لاورو زافالا أنّ القصة القصيرة جداً تمتاز بعدّة خاصيات: الإيجاز والإيحاء والتناص والطابع الديالكتيكي . ولعلّ الناقدة الفنزويلية فيوليتا روخو كانت أقرب من سابقيها إلى الانطلاق من طبيعة السرد في تحديد مميزات القصة القصيرة جداً إذ تراها في "الامتداد الطباعي بين صفحة وصفحتين، وحضور الحبكة ظاهرياً أو ضمنياً، وانفتاح البنية أجناسياً، وتنويع الأسلوب وتشغيل التناص ".
وفي ظني، وفي حدود اطلاعي أيضاً، أن النقاد العرب كانوا أكثر قدرة على رسم تصوّر نظري لأركان هذا القص، على الرغم من اختلافهم، إذ بقيت رؤاهم بشكل عام تحوم حول الحكائية والتكثيف على الرغم من اختلافهم في التعبير عن أركان القص الأخرى.
وإذا كان النقاد العرب قد اتفقوا على أهم ركنين من أركان القصة القصيرة جداً، فقد أفاضوا في الحديث عن التقنيات المختلفة التي يمكن أن يستثمرها القاص، وبدا أن لا مشكلة في هذا الأمر، إذ إن أي فن أدبي يحتمل استثمار كثير من التقنيات المتداخلة؛ لذلك تم الحديث عن الطرافة والجدة والابتكار والإدهاش والتناص والتشخيص والإيقاع والإيحاء وتنويع الاستهلال والخاتمة وغير ذلك، كما يمكن أن يتم الحديث عما غفل عنه النقاد من التقنيات في المستقبل، مما يرد في أذهانهم، أو مما ينتجه خيال المبدعين.
المقاربة الميكروسردية للدكتور جميل الحمداوي:
يعدّ الدكتور جميل الحمداوي واحداً من ألمع نقاد القصة القصيرة جداً في الوطن العربي، وعلى الرغم من تنوع إنتاجه الثقافي في مجالات النقد الأدبي والتربية وغير ذلك، فقد بقي وفياً لهذا الجنس الأدبي، باذلاً جهداً استثنائياً في التنظير والتطبيق، فأصدر "مقومات القصة القصيرة جداً عند جمال الخضيري"، و"أنطولوجيا القصة القصيرة جداً بالمغرب"، و"من أجل تقنية جديدة لنقد القصة القصيرة جداً"، وغير ذلك.
كما نشر عدد من المواقع الألكترونية نظرية نقدية متكاملة حول القصة القصيرة جداً، أسماها المقاربة الميكروسردية، وقد وضع مقاربته الميكروسردية تلك، ونشرها موقع دروب في بابين رئيسيين ، قبل أن ينشرها في كتابه (القصة القصيرة جداً بين التنظير والتطبيق):
• الأول: أركان القصة القصيرة جداً ومكوناتها الداخلية.
• الثاني: شروط القصة القصيرة جداً وتقنياتها العرضية.
وعلى الرغم من أنّ التقسيم ها هنا مسألة شكلية يراد بها فصل أركان القصة القصيرة جداً عن تقنياتها، فإنّ عنوانا الفصلين يثيران بعض التساؤل عن الفرق بين الأركان والشروط، على الرغم من أنّ الناقد يعطي صفة التكميلية للشروط، فيقول: "ومن هنا، نفهم أن للقصة القصيرة جداً أركانها الأساسية وشروطها التكميلية". في حين أنني أميل إلى تثبيت مصطلح "التقنيات" بدلاً من الشروط، لأن الشروط تدلّ بالضرورة على ما لا يمكن الاستغناء عنه.
فإذا دخلنا إلى مطالعة الفصل الأول من المقاربة الميكروسردية المسمّى "أركان القصة القصيرة جداً ومكوناتها الداخلية" وجدناه مقسوماً إلى ستة مباحث تأتي بعد مقدّمة تعرض مقوّمات القصة القصيرة جداً في التاريخ النقدي العربي والغربي، مشيرة إلى أنّ أحمد جاسم الحسين جعل لها أربعة أركان: هي القصصية والجرأة والوحدة والتكثيف، وأن يوسف حطيني جعل تلك الأركان خمسة هي: الحكائية والتكثيف والوحدة والمفارقة وفعلية الجملة، وأنّ سليم عباسي خلط بين الأركان والتقنيات، وأنّ لبانة مشوّح حصرتها في الحكاية والتكثيف والإدهاش. ثم يستعرض مؤشرات القصة القصيرة جداً وميزاتها ومكوناتها وخصائصها عند لويس بريرا ليناريس وراوول براسكا وبيوليطا روخو وراولوزو زافالا، قبل أن يقدّم لنا مباحثه الستة التي تبرز رؤيته الخاصة لأركان القصة القصيرة جداً، وهذه المباحث هي:
1 ـ المبحث الأول- المعيار الطبوغرافي:
يرى فيه أن الأركان الطبوغرافية "أي ما يتعلّق بتنظيم الصفحة تبييضاً وتسويداً وما تحويه من مؤثرات بصرية وعلامات تشكيلية " يمكن حصرها في ثلاثة مقاييس هي:
ـ مقياس القصر.
ـ مقياس الترقيم.
ـ مقياس التنوع الفضائي.
يقول د. حمداوي عن مقياس القصر:"ينبغي أن تتخذ القصة القصيرة جدا حجما محدودا من الكلمات والجمل، وألا تتعدى مائة كلمة في غالب الأحوال، أي خمسة أسطر على الأقل، وصفحة واحدة على الأكثر لكي لا تتحول إلى أقصوصة أو قصة قصيرة أو رواية بنفسها السردي المسهب والموسع. ويعني هذا أن يحترم الكاتب حجم هذا الفن المستحدث وألا يتعدى نصف صفحة، ويختار الجمل ذات الفواصل القصيرة والجمل البسيطة من حيث البنية التركيبية ذات المحمول الواحد ".
وعلى الرغم من عدم ميلنا إلى التحديد الدقيق لطول النص وقصره، بل للخصائص التي تجعله قصيراً، فإن هذا التحديد يبقى معقولاً بشكل عام.
وعند الحديث عن علامات الترقيم يرى حمداوي أنّ "من أهم مكونات القصة القصيرة جدا الاهتمام بعلامة الترقيم وتطويعها سيميائيا لخدمة أغراض الكاتب ونواياه الإبداعية والتصورية".
أما بالنسبة لمقياس التنوع الفضائي فيرى أنه يمكن أن يصنّف إلى فضاء الجملة الواحدة، والفضاء المسردن، وفضاء القصيدة الشعرية، وفضاء الكتابة الدرامية، والفضاء الشذري أو المتقطّع دون أن يذكر ما يجعل من ذلك التنوع أمراً لازماً.
وإذا كان القصر، بالضرورة، منتجاً من منتجات التكثيف الذي اتفق عليه معظم المنظرين لهذا الفن، فإننا نستبعد أن تكون علامات الترقيم والتنوع الفضائي من ضمن أركان المقياس الطبوغرافي، لأن علامات الترقيم شرط كلّ كتابة، ولا يمكن أن نجعل شروط الكتابة العامة التي لا تعدُّ ولا تحصى من أركان كتابة خاصة، وإلا لاشترطنا أن تستخدم القصص القصيرة جداً أحرفاً وكلمات وجملاً، وجعلنا اجتناب أغلاط النحو والإملاء والأسلوب من شروطها أيضاً. على أننا لا ننفي بحال أهمية علامات الترقيم في تقديم الدلالة، شرط ألا تصبح استعراضية، أو اعتباطية، على نحو ما نرى عند سناء بلحور التي تستثمر النقاط الثلاث المتجاورة بشكل خاص، بشكل نمطي، وتبدو مغرمة في الكثير من قصصها بهذه النقاط، دون أن يكون لذلك أي علاقة بالمحتوى، إلى درجة تجعلها عديمة الجدوى والدلالة، ونشير هنا، تمثيلاً، إلى قصة "ورقة" التي تنتصر فيها الكاتبة للشعرية على حساب الحكائية:
"ورقة بيضاء... مرآةُ مشاعرها الصاخبة...
تثيرها مرآويةُ الروح... يسحرها النقاء...
بيضاء تفضح كل سواد معكّر...
تنكأ الجرح كي يجفّ... كي يستريح... ".
ثم إنّ التنوع الفضائي الذي يقترحه الحمداوي هو شرط جمعي، لا يمكن تطبيقه على نص واحد. فالتنوع شرط ناجم عن التعدد؛ وإذ نشير ها هنا إلى ضرورة الابتعاد عن التكرار في كل إبداع، ونتفق مع الحمداوي على هذا الشرط الذي يجعل مجموعة قصصية ما أكثر نجاحاً، فإننا لا يمكن أن نتفق معه في جعل ذلك التنوع ركناً، لأن الركن شرط النص، وليس شرط النصوص المتعددة.
2 ـ المبحث الثاني- المعيار السردي:
ويستحضر الكاتب في هذا المعيار "الشكلي أو الفني أو الجمالي" للقصة القصيرة جداً سبعة من المقاييس التي يبنى عليها، وهذه المقاييس هي:
ـ مقياس القصصية.
ـ مقياس التركيز.
ـ مقياس التنكير.
ـ مقياس التنكيت والتلغيز.
ـ مقياس الاقتضاب.
ـ مقياس التكثيف.
ـ مقياس الحذف والإضمار.
ففي أثناء عرضه مقياس القصصية يؤكد أنّه "إذا افتقدت القصة القصيرة جدا مقوماتها الحكائية تحولت إلى خاطرة أو مذكرة انطباعية أو نثيرة شعرية " وهذا أمر دقيق جداً؛ لأن فارق الحكاية هو الذي يميّز الجنس السردي عموماً من بقية الأشكال الإبداعية. ويبين الناقد ما يعنيه بخاصية التركيز التي يفترضها مقياساً من مقاييس المعيار السردي فيقول: "نعني بخاصية التركيز أن تنبني القصة القصيرة جدا على الوظائف الأساسية والأفعال النووية مع الاستغناء عن الوظائف الثانوية والأفعال التكميلية الزائدة والأجواء المؤشرة الملحقة والقرائن الظرفية المسهبة ".
أما مقياس التنكير الذي يعني عدم الاعتماد بشكل كبير على دور التسمية في التشخيص، فإنه يشرحه بما يلي: "إذا كانت الكثير من الروايات والقصص القصيرة الواقعية والرومانسية تحمل أسماء علمية محددة بدقة تعبر عن كينونات وذوات إنسانية مرصودة من خلال رؤى فزيولوجية ونفسية واجتماعية وأخلاقية، فإن القصة القصيرة جدا تتخلص من هذه الأسماء الشخوصية العلمية المعرفة؛ فتصبح ذواتا مجهولة نكرة. وبالتالي، تتحول في عصر العولمة إلى كائنات معلبة ومستلبة ومشيأة ومرقمة بدون هوية ولا كينونة وجودية، وتبقى أيضا بدون حمولات إنسانية ".
وفيما يتعلّق بمقياس التنكيت والتلغيز فإن الناقد يعرضه، دون بيان الصفة الجوهرية التي تجعل حضوره حتمياً في القصة القصيرة جداً. فهو يقول: "تتحول مجموعة من القصص القصيرة جدا إلى أحداث ملغزة أو من باب التنكيت والترفيه ليترك المبدع القارئ دائما يتسلح بالبياض لملء الفراغ ". ويمكن لنا أن نستعرض عشرات القصص القصيرة جداً، وربما المئات منها، التي تحقق نجاحاً فنياً ورؤيوياً، دون أن تعتمد على التنكيت والتلغيز. ولنا هنا أن نكتفي بمثال واحد هو قصة ""لون أحمر" للقاص حسن البطران التي تعتمد فى نجاحها على فجائعيتها المعبّرة عن النفاق:
"كعادته يخلع قناعه بعد مغادرة ضيوفه.
يتسامر مع خادمه..يطلي كلماته باللون الأحمر.
خادمه: لماذا أنت معي بلون ومعهم بلون آخر..؟؟
يصمت..
ثم يأمر بتشييع جنازة خادمه ".
ثم ينتقل الناقد للحديث عن مقياس الاقتضاب، مبيناً أهميته في المعيار السردي، فيقول بعد بيان دور الوصف في الرواية والقصة القصيرة جداً: "إن من أهم المكونات الأساسية للقصة القصيرة جدا الاقتضاب في الوصف عن طريق الابتعاد عن الحشو الزائد، وتجنب الاستطرادات الوصفية والتأملات الشاعرية، وتفادي التكرار اللفظي والمعنوي، والتقليل من النعوت والصفات، والابتعاد عن التمطيط في التصوير الوصفي صفحات وصفحات. ومن هنا، فلا بد من عملية الاقتضاب في الوصف تشذيبا وانتقاء، ولابد من الاقتصاد فيه إيجازا واختزالا وتدقيقا ".
ثم يتابع مؤكداً على هذا المقياس بقوله: "وفي هذه الحالة، لا ينبغي للمبدع أن يستخدم في قصصه القصيرة جدا الأوصاف إلا إذا كانت معبرة تخدم السياق القصصي خدمة دلالية وفنية ومقصدية، وألا يتحول الوصف إلى حشو زائد كما نجد ذلك في الكثير من القصص القريبة إلى نفس الرواية والقصة القصيرة ".
فإذا انتقل الأستاذ حمداوي إلى خاصية التكثيف بين أهمية هذا المقياس في المعيار السردي، وهو يعني عنده: "اختزال الأحداث وتلخيصها وتجميعها في أفعال رئيسية وأحداث نووية مركزة بسيطة، والتخلي عن الوظائف الثانوية التكميلية، والابتعاد عن الأوصاف المسهبة أو التمطيط في وصف الأجواء" .
ويختم الأستاذ جميل حمداوي مقاييس المعيار السردي بمقياس الإضمار والحذف، مؤكداً أنهما "من أهم الأركان الجوهرية للقصة القصيرة جدا، وينتجان كما هو معلوم عن طريق وجود نقط الحذف والفراغ الصامت وظاهرة التلغيز ".
فإذا بدأنا من القصصية وجدنا أنفسنا متفقين مع الناقد أنها من أهم أركان القصة القصيرة جداً، إذ لا وجود للقصة القصيرة جداً إذا لم تمتلك تلك القصة حكاية تروى، وتجعلها جديرة بالانتماء إلى السرد، وقد فضّلت في كتابي مصطلح (الحكائية) على مصطلح (القصصية) لأن القصصية تحيل لفظاً على القصة بينما تحيل (الحكائية) على الرواية والقصة القصيرة والقصة القصيرة جداً والمسرحية والدراما وغير ذلك، وهذا هو المقصود بالضبط من وراء استخدام هذا المصطلح. أي أنّ القصة القصيرة جداً لا بدّ لها من (حكاية... حدّوتة...) تستند إلى شخصيات تقوم بأفعال في بيئة محددة.
وفيما يتعلّق بمقياس التركيز والاقتضاب والتكثيف والحذف والإضمار، فإنها تحيل جميعاً إلى ركن من أركان القصة القصيرة جداً كان قد اتفق عليه جميع المنظرين، هو التكثيف، (وإن كان الجزء الثاني من المقياس الأخير ـ نقصد الإضمارـ يحيل على المعيار البلاغي أيضاً).
أما فيما يتعلّق بمقياس التنكير الذي يتناول استثمار اسم العلم، فإنّ هذا المقياس يكاد يصدق على كثير من القصص القصيرة جداً، (من مثل مجموعة "نجيّ ليلتي"لميمون حرش ومجموعات حسن البطران )، غير أن التعميم هنا لا يبدو صحيحاً، لأنّ تسمية الشخصية (وهذا أعلى أشكال التعريف) يمكن أن يسهم في تشخيصها، خاصة إذا تمت الاستعانة باسم العلم التاريخي أو الثقافي، على نحو ما نجد عند مصطفى لغتيري في مجموعة "زخات حارقة" .
ولعلنا نشير هنا إلى نص "غودو ينتظر" لمايا عز الدين عبّارة الذي يشكله وعي ثقافي يؤمن بتطوير المفاهيم البالية، مستثمراً اسم العلم "غودو" الذي يحيل إلى "صموئيل بيكيت"، وإلى رؤية تدين انتظار اللاشيء:
" كان غودو يأتي ويذهب دون أن يروه...أو أنهم لم يتعرفوا عليه. ومرة قال لهم: أنا غودو.. تعالوا معي أيها المنتظرون، ووقف ينتظرهم، لكنّ أحدا لم يعره اهتماما. ظلوا يدورون في دوائرهم اللانهائية العبثية.
تفاجأغودو فهو كان قد سمع كثيراعن انتظار أولئك البائسين والمعذبين له وسمع عن انتظار الأطفال المشردين له وسمع عن انتظار المحبين الذين لا يجدون مكانا للقاء على هذه الأرض إلى أن غادروا معه.
فقال بصوت عال: أنا أتيت لأني قرأت في إحدى مسرحياتكم أنكم تنتظرونني بشدة وحين انصعت لأمانيكم ولبنات أفكاركم وجئت لأخلّصكم لا تردون على ندائي!!
لكنهم كذبوه قائلين :أنت لست غودو. أنت كالراعي الكذّاب ونحن قرأنا هذه القصة ولن نصدقك.
أقسمَ غودو بأنه غودو وإن تأخر بالقدوم ، لكنهم أنكروا قدومه وأقنعوه بأنه وهمٌ لا يستطيع إنقاذ أحدهم ..فاعتمادا على ذات المسرحية التي اعتمد عليها هو لن يأتي وإن أتى لن يروه.
أشاحوا بوجوههم عنه بينما ظل غودو ينتظر الناس جميعاً بعدما كانوا ينتظرونه وحده.
وحين ملّ من الانتظار وشعر بالوحدة والعزلة انضم للناس وانصهر معهم في دوائرهم ."
وإذا كان التكثيف قد خان القاصة في هذه القصة، فإن الحبكة تشهد بقدرة فائقة على إعادة إنتاج الرؤية وتطويرها، من خلال استخدام اسم العلم الثقافي، وتكثيف مدلولاته، واستثمارها على خير وجه، مما يجعل العلمية عاملاً مساعداً في بناء الشخصية في القصة القصيرة جداً.
فإذا انتقلنا إلى مقياس التنكيت والتلغيز لاحظنا أنّ هذين المقياسين يحيلان على المفارقة التي اتفق المنظرون على كونها أساساً من أسس القصة القصيرة جداً، مع التنبيه هنا على أنّ عدم استثمار المبدع لهذا المقياس ـ الذي يعدّه الأستاذ حمداوي ركناً ـ كما ينبغي قد يجعل القصة القصيرة جداً مجرد نكتة، وقد يجعلها أحجية لا تصل مدلولاتها إلى القارئ.
3 ـ المبحث الثالث- معيار القراءة والتقبّل:
لا بدّ قبل مناقشة هذا المعيار من إثارة سؤال يتناول مدى إمكانية أن تُعَدّ استجابة القارئ ركناً مسبقاً من أركان العمل الأدبي، وهل يفكّر المبدع بالقارئ حقاً عندما يكتب، وإذا كان بعض كبار الكتاب الروس يفكرون بالنقاد، وهم ينتجون أعمالهم الإبداعية، فهل يفعل كل المبدعين ذلك، وهل ضرورة استجابة القارئ شرط قديم، أم مستحدث بعد استحداث نظريات القراءة والتلقي على أنقاض المدارس الأدبية الكبرى؟
هذه أسئلة لا تقلل أبداً من شأن أي معيار ينطلق من تصور دور القارئ، غير أننا نقول: إن كثيراً من المبدعين لا يكتبون للقارئ، بل لإحداث توازن داخلي مفقود بينهم وبين العالم الذي يعيشون فيه، أي إنهم يكتبون ليصبح عيشهم أكثر إمكانية وتقبلاً.
نعود ها هنا للمقاييس الثلاثة التي يقترحها د. جميل حمداوي لمعيار القراءة والتقبّل، وهي:
ـ مقياس الاشتباك.
ـ مقياس المفاجأة.
ـ مقياس الإدهاش.
يرى الدكتور جميل أن "أفضل القصص القصيرة جداً تلك القصص التي تشتبك مع قارئها ذهنيا ووجدانيا وحركيا عبر مجموعة من العمليات التفاعلية" مشيراً إلى أنّ كثيراً من القصص القصيرة جداً تعمل "على مفاجأة المتلقي وإثارته فنيا وجماليا ودلاليا، واستفزازه عن طريق الانزياح والصورة الومضة، وإيقاعه في شرك الحيرة والتعجب اندهاشا وإرباكا وسحرا" منتقلاً إلى مقياس الإدهاش، ليَعُدَّ تلك الخاصية"من أهم خاصيات القصة القصيرة جدا الناتجة عن الإضمار والغموض والحذف والتخييل وترك البياضات الفارغة واصطناع لغة المفارقة والعلامات الملتبسة المحيرة التي تساهم في خلخلة ميثاق التلقي وإرباك القارئ على مستوى التلقي وتقبل النص".
ويخيّل للقارئ هنا أن هذه المقاييس (الاشتباك والمفاجأة والإدهاش) متداخلة فيما بينها إلى أبعد حدود التداخل، حتى إن الأستاذ الحمداوي نفسه يرى أن أفضل القصص القصيرة جداً "تلك التي تشتبك مع قارئها ذهنياً ووجدانياً عبر مجموعة من العمليات التفاعلية كالإدهاش والإبهار والإرباك والمفاجأة.... ". وها هنا تشتبك المقاييس بعضها ببعض، ويحيل الاشتباك على المفاجأة والإدهاش، وتمتزج خصائص القصة القصيرة جداً بخصائص القارئ، إذ إن القصة التي "ستشتبك" مع القارئ تشترط قارئاً من طراز محدد، قادراً على "الاشتباك". ثم إنّ المفاجأة والإدهاش نراهما يحيلان على المفارقة التي يمكن أن تضمهما تحت جناحها، بوصفهما وسيلتين من وسائل ترسيخها في النص.
4 ـ المبحث الرابع- المعيار التركيبي:
في البعد التركيبي يعرض الناقد جميل حمداوي الملامح التي تجعل التركيب اللغوي مساعداً في تقديم قصة قصيرة جداً أكثر تركيزاً وسرعة، وأنضج حبكة، فيشير إلى المقاييس التالية:
ـ مقياس الجملة البسيطة.
ـ مقياس الفعلية.
ـ مقياس التراكب.
ـ مقياس التتابع.
ـ مقياس التسريع.
ـ مقياس التناغم الداخلي.
يرى الناقد في أثناء تقديمه لمقياس الجملة البسيطة أنّه "كلما كانت القصة القصيرة جدا مبنية على الجمل البسيطة ذات المحمول الواحد، وابتعدت عن الجمل الطويلة والمركبة ذات المحمولات المتعددة كانت القصة أكثر تركيزاً واقتضاباً واختزالاً وإبهاراً للقارئ وإدهاشاً له "، تاركاً هذا المقياس في حيّز المفاضلة لا في حيّز حتمية الوجود. أمّا في مقياس الأفعال فيرى أنّ "كثيراً من كتاب القصة القصيرة جداً يكثرون من الجمل الفعلية أو الجمل الاسمية التي خبرها جملة فعلية، أو يكثرون من الجمل الرابطية ذات الطاقة الفعلية ".
وفي خلال حديثه عن مقياس التراكب يشيرإلى أنّه "من أهم الظواهر البارزة التي تلفت الانتباه في القصة القصيرة جداً نجد ظاهرة تراكب الجمل وتتابعها في سياق النص من أجل تأزيم العقدة، وخلق التوتر الدرامي عبر تسريع وتيرة الجمل، وركوب بعضها البعض (!!) "
وانطلاقاً من موقف الملاحظة، لا من منطق الحتمية والضرورة، يشير الكاتب إلى مقياس التتابع؛ إذ "يستند الكاتب في تحبيك قصصه القصيرة جدا إلى توظيف إيقاع سردي يتميز بالسرعة والإيجاز وكثرة التعاقب في تسلسل الأحداث وتتابع الأحوال والحالات ".
وفي أثناء حديثه عن مقياس التسريع يشير الحمداوي إلى أن كاتب القصة القصيرة جداً يوظّف إيقاعاً سردياً يمتاز بالسرعة، "وهذا الإيقاع ناتج عن تراكب الجمل وتتابع الأفعال منطقياً وكرونولوجياً، والميل إلى الإيجاز وكثرة التعاقب في تسلسل الأحداث وتتابع الأحوال والحالات ".
ويختم الناقد مقاييس المعيار التركيبي في نظريته بمقياس التناغم الداخلي، فيرى أن القصة القصيرة جداً تنبني "على البناء المحكم والوحدة الموضوعية والعضوية والاتساق والانسجام، وارتباط العنوان بالنص أو ارتباط البداية بالنهاية. ويتم اتساق القصة بمجموعة من الروابط اللغوية الشكلية كأسماء الإشارة والأسماء الموصولة وضمائر الإحالة والاستبدال والحذف والتكرار اللفظي والدوران حول لفظ واحد. كما ينبني الانسجام على مجموعة من العمليات الذهنية كالمعرفة الخلفية والتشابه والسياق العام والخاص والتغريض الموضوعاتي والعنونة والخطاطات والمدونات والسيناريوهات ".
وإذ نسعى ها هنا إلى جمع ما يمكن جمعه في صعيد مشترك، فإننا نشير إلى أنّ مقياس الجملة البسيطة لا يعدّ شرطاً تركيبيا، حتى لو تعلّق الأمر بالقصة القصيرة جداً. ويمكن لعودة سريعة إلى نصوص قصصية قصيرة جداً أن تبعد شبح هذا القيد؛ فالقصة القصيرة جداً تستخدم الشرط والقسم والطلب، وغير ذلك من الجمل المركبة، مثلما تستخدم الجملة في أبسط أشكالها.
وأما مقياسا الفعلية والتسريع، فإن أحدهما يبدو نتيجة للآخر، بمعنى أنّ استخدام الجملة الفعلية، أو الجملة ذات الطاقة الفعلية (كاستثمار الجملة الاسمية إذا كان خبرها جملة فعلية، أو استخدام الصيغ الصرفية ذات الطاقة الفعلية كاسم الفاعل والمفعول ومبالغة اسم الفاعل.... إلخ) يقود بالضرورة إلى تسريع السرد، بينما تؤدي الجمل الاسمية الوصفية إلى بطء السرد .
وفيما يتعلق بالمقاييس الثلاثة المتبقية (التراكب، والتتابع،والتناغم الداخلي) فيمكن إلحاقها، منطقياً، بشروط وحدة النص، ولعلّ هذه المقاييس الثلاثة هي أبرز الإضافات النوعية لنظرية القصة القصيرة جداً برمّتها، لأنّها تدخل في صلب الوحدة النصية التي لم يلتفت نقاد القصة القصيرة جداً إلى تفاصيلها، وكيفية بنائها.
5 - المبحث الخامس- المعيار المعماري:
يرصد الناقد الحمداوي في هذا المبحث عناصر ما أسماه المعيار المعماري، ويتناول فيه ما يمسّ بناء الحدث وأجزاء الحكاية، راصداً ذلك من خلال مقياسين يتفرّعان بدورهما إلى تفريعات نوضحها فيما يلي:
ـ مقياس البداية والجسد والقفلة:
أ ـ البداية القصصية.
ب ـ الجسد القصصي.
ج ـ القفلة القصصية.
ـ مقياس التركيب الحدثي:
أ ـ التركيب الدائري.
ب ـ التركيب السهمي الصاعد.
ج ـ التركيب السهمي الهابط.
ونشير ها هنا أنّ الناقد يقدّم في هذا المبحث ملامح البدايات والنهايات القصصية وتنوعها في القصة القصيرة جداً، بعد أن يذكر السمات التي تجعلها أكثر نجاحاً، فيما يلاحق تنوع أجساد الجسد القصصي، وأنواع التركيب الحدثي. وربما كان من الأفضل أن يكتفى بالسمات التي تحمل سرّ نجاح القصة القصيرة جداً في هذه العناصر، ومن ثم إلحاقها بعنوان الحكائية، لأن الحدث والحبكة (وعناصرهما المكونة) تمكن دراستها جميعاً تحت ذلك العنوان.
6- المبحث السادس- المعيار البلاغي:
لا نشك في حضرة المعيار البلاغي في أنّ الناقد يمكن أن يضع عدداً هائلاً من الاستثمارات البلاغية الناجحة في القصص القصيرة جداً، غير أن المرء حين يتحدّث عن الأركان يجب أن يكون حذراً، وأن يكتفي بما هو واجب الحضور في النص. فإذا تأملنا ما ذكره الحمداوي في هذا المبحث وجدناه يشير إلى ثلاثة مقاييس هي:
ـ مقياس الصورة الومضة.
ـ مقياس المفارقة.
ـ مقياس السخرية.
وإذ يقدّم لنا الناقد د. حمداوي مقياس الصورة الومضة، من منطق إمكانية الاستثمار، لا من منطق الضرورة، فإنه يشير إلى أن تلك الصورة تستند إلى "التوهج والإبهار والإدهاش واللحظات اللامعة المشرقة عن طريق التأرجح بين صور المشابهة وصور المجاورة والصورة الرؤيا ". فيما يبدو أكثر منطقية حين يشير إلى ضرورة المفارقة التي ترتكز على الجمع بين المتناقضات والمتضادات تآلفا واختلافا، مقتبساً من كتابنا أنها "عنصر من العناصر التي لا غنى عنها أبدا، وتعتمد على مبدأ تفريغ الذروة، وخرق المتوقع، ولكنها في الوقت ذاته ليست طرفة، وإذا كانت هذه القصة تضحك المتلقي، في بعض الأحيان، فإنها تسعى إلى تعميق إحساسه بالناس والأشياء ".
وإذ ينتقل إلى السخرية فإنه يعبّر عنها من منطق الضرورة، فهي في رأيه "من أهم المكونات الجوهرية للقصة القصيرة جدا، وذلك من خلال عمليات الإضحاك والكروتيسك والتشويه الامتساخي والتعرية الكاريكاتورية والنقد الفكاهي والهجاء اللاذع ".
ونجد أنفسنا ها هنا مختلفين مع الحمداوي في جدارة انتماء هذه المقاييس إلى الأركان، إذ إنّ المقياسين الأول والأخير يمكن الاستغناء عنهما في القصة القصيرة جداً، فثمة قصص قصيرة جداً تحقق نجاحاً دون أن تتكئ على أي منهما، فالصورة في رأينا ليست ضرورة، ولكنها متَّكأ يرفع سوية اللغة والدلالة، والسخرية ليست شرطاً أيضاً، غير أن توظيفها، بشكل غير مسفّ، يمكن أن يعمق الإحساس بدلالة النص ورؤيته. وربما كان الأفضل أن يضافا (ضمن المنهجية الميكروسردية) إلى المبحث البلاغي في الفصل اللاحق الذي يتناول التقنيات.
وثمة كثير من القصص التي تنجح في تقديم مقولتها ورؤيتها، دون الاعتماد على أي من هذين الركنين، ونشير هنا إلى قصة "أرزاق" لشريف عابدين التي تنأى بلغتها، مثل معظم قصصه القصيرة جداً، عن التصوير والسخرية، دون أن تفقد ألق نجاحها:
"بحجة الحفاظ على الزهور، سمح الحاكم للشعب بالتنزه فقط أيام العطلات.
اصطفّ الناس في طوابير طويلة عند أبواب الحدائق.
باع الفقراء أماكن أدوارهم للعشاق، واشتروا بقيمتها خبزاً ".
أما فيما يتعلّق بمقياس المفارقة، فلا نشك، ولم نشك سابقاً، في أن وجوده عنصر لازم، لإنجاح أي قصة قصيرة جداً.
* * *
في الفصل الثاني من المقاربة الميكرو سردية يقدّم الناقد جميل الحمداوي رؤيته للشروط التكميلية والتقنيات العرضية. ونحن إذ نجد تعبير الشروط، كما أسلفنا في البداية، غير مناسب، فإننا نتفق مع الأستاذ الناقد في كل ما أورده في هذا الفصل من تقنيات، فقد أشار في المعيار المناصي إلى: مقياس العنونة، وقياس الانفتاح التجنيسي، وأشار في المعيار التفاعلي إلى مقياس التناص، وأكد في المعيار البلاغي على أهمية الأنسنة والترميز والانزياح والفانطاستيك والإيحاء والغموض (بمعناه الإيجابي) والتجريد، فيما لفت النظر في معيار التخطيب إلى تنويع الأساليب السردية، والتبئير السردي والالتفات، وانتهى في المعيار الدلالي إلى الإفادة من الجرأة واستثمار التشخيص بأنواعه.
ويمكن ها هنا أن نضيف (وقد أضاف بعض النقاد فعلاً) عدداً آخر من التقنيات التي يمكن استثمارها على مدى التاريخ القصير لتطور القصة القصيرة جداً، من مثل الطرافة والجدة والابتكار والإيقاع واستثمار الألوان وغير ذلك من التقنيات التي قد يقترحها المبدعون من خلال قصصهم القصيرة جداً.
محاولة تركيب:
يبدو لي أنّ أكثر ما يبدو غريباً في المقاربة الميكروسردية للقصة القصيرة جداً عند الحمداوي أنها تستمد قوّتها من تفاصيلها الكثيرة التي تثير في الوقت ذاته كثيراً من الإرباك، وكثيراً من الصعوبة في تصور الإطار العام والأطر التفصيلية لعناصرها. وهذا ما يجعلها أكثر جدوى في التطبيق العملي، وقد راجعت كثيراً من النصوص النقدية التي قدّمها الناقد حول تجارب مغربية في هذا الجنس الأدبي البديع، فلاحظت مدى توفيقه في تقصي ملامح القص عند المبدعين، استناداً إلى تفاصيل تلك المقاربة.
ولعلّ هذا عائد إلى أن مقاربة النص الأدبي تركّز عادة على تقنيات القص التي تجعل من النص جميلاً، أكثر من تركيزها على أركان تجعل النص ينتمي إلى الجنس الادبي ويحقق شروطه.
إن العرض النظري المتعلّق بالأركان و"الشروط التكميلية"، كما عرضها الناقد، بدا لي مفصّلاً أكثر مما بنبغي، وربما كان حذف بعض التكرارات (أو المتقاربات)، وتفريع بعض المباحث على مباحث أخرى ذات علاقة وثيقة بها تجعل الأمر أكثر منطقية واستيعاباً وفائدة.
إنني هنا، على الرغم من الملاحظات التي أبديتها في خلال مناقشة المقاربة، أميل إلى الإفادة مما أنجزه الناقد، عبر إشارات حصيفة مهمة، لتطعيم أركان القصة القصيرة جداً بفروع جديدة، كأن يتم تعليق شروط مكونات الحكاية على شجرة الحكائية، وإلحاق العناصر التي تشكّل تناغم النص بوحدته الموضوعية وهكذا.. من أجل أن يستمر بناء الصرح النقدي والإبداعي لهذا الجنس السردي الجميل.
القصة القصيرة جداً عند د. جميل حمداوي
د. يوسف حطيني
تقديم:
لقد جاوزت القصة القصيرة جداً مرحلة الحماسة للجنس الأدبي، مثلما تجاوزت الأصوات المعارضة التي وقفت في طريق تبلورها نظرياً وإبداعياً، وحسمت لصالحها عدداً لا بأس به من النقاد الذين بدوا مترددين في الانحياز لها بعد نحو خمسة عشر عاماً من صدور أول كتاب ينظر لهذا الجنس الأدبي، وهو كتاب "القصة القصيرة جداً ـ مقاربة بكر" لأحمد جاسم الحسين.
وإثر صدور هذا الكتاب صدرت كتب متعددة حول ذلك الفن ليوسف حطيني وجاسم خلف إلياس وهيثم بهنام بردى؛ سعت جميعها نظرياً وتطبيقياً إلى تشكيل حدود المصطلح وأركانه وتقنياته؛ ليلمع من ثم نجم جميل حمداوي في المغرب العربي، بوصفه واحداً من أهم المنظرين لهذا الفن السردي، وأغزرهم إنتاجاً، إلى جانب عدد من النقاد من مثل: عبد الدائم السلامي وعبد العاطي الزياني وسعاد مسكين ونور الدين الفيلالي ومحمد يوب ومحمد اشويكة وحميد لحمداني وغيرهم.
وعلى الرغم من تواتر الكتابة على المستويين الإبداعي والتنظيري (وخاصة في سورية وفلسطين والسعودية والعراق والمغرب) فقد بقيت نقاط خلاف متعددة يتداولها النقاد من كتاب إلى آخر، ومن مؤتمر إلى آخر، تتعلّق بتأصيل هذا الفن، وحدود المصطلح الذي يسعى إلى تمييز هذا الجنس من غيره، إضافة إلى تداخل واضح بين أركانه وتقنياته.
حول تأصيل القصة القصيرة جداً:
سبق أن أشرنا في كتابنا "القصة القصيرة جداً بين النظرية والتطبيق" في أثناء الفصل المسمّى (جذور القصة القصيرة جداً) إلى وجود مختلف أنواع السرد القصير جداً في التراث العربي الغني بالأخبار والحكايات والطرائف، والشذرات والأكاذيب والمنامات والمقامات. وأكدنا أن الجنس الأدبي لا يستمدّ شرعية وجوده من معيار وجود جذوره التراثية، غير أنَّ الإقرار بوجود النص التراثي السردي القصير جداً عند العرب هو إقرار بأمر واقع أكثر من كونه بحثاً عن هوية تراثية لهذا الفن.
وقد أشرنا في الفصل ذاته إلى أنّ السرد القديم القصير جداً، بمختلف أشكاله، تناول قضايا اجتماعية وسياسية مختلفة، واستعان بشخصيات واقعية أو تخيلية مثل أشعب وجحا، ليؤدي وظيفة دلالية. وإذا كانت شخصية أشعب قد بدت مسطحة وبسيطة وأحادية الاهتمام إلى حد كبير، فقد جاءت شخصية جحا ظاهرة الاختلاف عن الشخصية السابقة، لأنها لا تسعى إلى مجرد الإضحاك، بل إلى تعميق إحسـاسـنا بالواقـع السياسي والاجتماعي الذي عاشته هذه الشخصية، وهي، أي شخصية جحا، لم تعش في عصـرها فقط، بل تجـاوزته إلى عصرنا من خلال ظهورها في أدبيـات حديثة، وإذا كان ثمة خلاف في تحديد اسم هذه الشخصية ، ومكان وجودها الحقيقي، فإن الذي لا خلاف فيه أنها شخصية موجودة، وأنها تفيد من مساحة الحرية التي يتيحها الحمق لإبداء رأيها في كثير من القضايا الخطيرة التي لا يستطيع العقلاء تحديد مواقفهم منها بصراحة.
وخلافاً لما أوردناه في هذا الفصل، فقد راح نقاد آخرون يبحثون عن جذور القصة القصيرة جداً في الآداب الأوروبية والآداب الأمريكية اللاتينية، مشيرين إلى وجود هذا الشكل في الأدب الإسباني والفرنسي والمكسيكي، وهذا أمر لا ينكره عاقل، وهو لا يناقض أن تكون القصة القصيرة جداً في الوطن العربي تطوراً طبيعياً للسرد التراثي القصير جداً، لأن هذا السرد شكّل سلسلة متصلة من أنواع تلك السرود، استمرّت في العصور الأدبية المختلفة، ولم تنقطع حتى مطلع العصر الحديث، بل إنها صارت في مطلعه أقرب إلى الشكل الذي نبحث عنه اليوم، ونستمد منه عناصر القص وتقنياته. وحسبنا ها هنا أن نشير إلى نص مثالي كتبه جبران خليل جبران في كتابه (المجنون):
"خرج الثعلب من مأواه عند شروق الشمس، فتطلّع إلى ظلّه منذهلاً، وقال: سأتغدى اليوم جملاً!. ثم مضىفي سبيله يفتّش عن الجمال الصباح كلّه. وعند الظهيرة تفرّس في ظلّه ثانيةً وقال مندهشاً: بلى، إنّ فأرة واحدة تكفيني ".
في تقنيات القص وأركانه:
لقد انطلق نقاد القصة القصيرة جداً من أنّ هذا الفن يتعامل بشكل مختلف مع عناصر السرد، فالحدث سهمي يتجه نحو تفريغ ذروته، ولا مجال للحوارات الطويلة التي تكشف الشخصية أو المونولوجات أو المذكرات، والحكاية مختصرة سهمية، واللغة فاعلة لا تطمئن إلى الوصف الذي يجعل إيقاع السرد بطيئاً، والزمن والمكان مجرد إشارات برقية... إلخ.
لذلك فقد انشغل النقاد منذ الكتاب الأول للدكتور أحمد جاسم الحسين في البحث عن صيغة تحاول اختزال مساحات تلك العناصر، وتحفظ لهذا الفن تفرّده، دون أن تخرجه من طبيعته السردية، فتحدثوا عن الحكائية (أو القصصية) والتكثيف والوحدة والمفارقة... إلخ، ولم يتأثروا كثيراً بما أنجزه نقاد آخرون من أمريكا اللاتينية تاهوا بين السرد والشعر، ولم يهتموا بتفريد القصة القصيرة جداً إلى الحد الذي يجعل منها بنية سردية متصلة بالسرد ومنفصلة عنه في آن؛ إذ رأى الناقد الأرجنتيني راوول براسكا أنّ "القصة القصيرة جداً تنبني على ثلاثة مقومات أساسية، وهي الثنائية (ثنائية الواقع والخيال)، والمرجعية التناصية، وانزياح المعنى " بينما رأى الناقد المكسيكي لاورو زافالا أنّ القصة القصيرة جداً تمتاز بعدّة خاصيات: الإيجاز والإيحاء والتناص والطابع الديالكتيكي . ولعلّ الناقدة الفنزويلية فيوليتا روخو كانت أقرب من سابقيها إلى الانطلاق من طبيعة السرد في تحديد مميزات القصة القصيرة جداً إذ تراها في "الامتداد الطباعي بين صفحة وصفحتين، وحضور الحبكة ظاهرياً أو ضمنياً، وانفتاح البنية أجناسياً، وتنويع الأسلوب وتشغيل التناص ".
وفي ظني، وفي حدود اطلاعي أيضاً، أن النقاد العرب كانوا أكثر قدرة على رسم تصوّر نظري لأركان هذا القص، على الرغم من اختلافهم، إذ بقيت رؤاهم بشكل عام تحوم حول الحكائية والتكثيف على الرغم من اختلافهم في التعبير عن أركان القص الأخرى.
وإذا كان النقاد العرب قد اتفقوا على أهم ركنين من أركان القصة القصيرة جداً، فقد أفاضوا في الحديث عن التقنيات المختلفة التي يمكن أن يستثمرها القاص، وبدا أن لا مشكلة في هذا الأمر، إذ إن أي فن أدبي يحتمل استثمار كثير من التقنيات المتداخلة؛ لذلك تم الحديث عن الطرافة والجدة والابتكار والإدهاش والتناص والتشخيص والإيقاع والإيحاء وتنويع الاستهلال والخاتمة وغير ذلك، كما يمكن أن يتم الحديث عما غفل عنه النقاد من التقنيات في المستقبل، مما يرد في أذهانهم، أو مما ينتجه خيال المبدعين.
المقاربة الميكروسردية للدكتور جميل الحمداوي:
يعدّ الدكتور جميل الحمداوي واحداً من ألمع نقاد القصة القصيرة جداً في الوطن العربي، وعلى الرغم من تنوع إنتاجه الثقافي في مجالات النقد الأدبي والتربية وغير ذلك، فقد بقي وفياً لهذا الجنس الأدبي، باذلاً جهداً استثنائياً في التنظير والتطبيق، فأصدر "مقومات القصة القصيرة جداً عند جمال الخضيري"، و"أنطولوجيا القصة القصيرة جداً بالمغرب"، و"من أجل تقنية جديدة لنقد القصة القصيرة جداً"، وغير ذلك.
كما نشر عدد من المواقع الألكترونية نظرية نقدية متكاملة حول القصة القصيرة جداً، أسماها المقاربة الميكروسردية، وقد وضع مقاربته الميكروسردية تلك، ونشرها موقع دروب في بابين رئيسيين ، قبل أن ينشرها في كتابه (القصة القصيرة جداً بين التنظير والتطبيق):
• الأول: أركان القصة القصيرة جداً ومكوناتها الداخلية.
• الثاني: شروط القصة القصيرة جداً وتقنياتها العرضية.
وعلى الرغم من أنّ التقسيم ها هنا مسألة شكلية يراد بها فصل أركان القصة القصيرة جداً عن تقنياتها، فإنّ عنوانا الفصلين يثيران بعض التساؤل عن الفرق بين الأركان والشروط، على الرغم من أنّ الناقد يعطي صفة التكميلية للشروط، فيقول: "ومن هنا، نفهم أن للقصة القصيرة جداً أركانها الأساسية وشروطها التكميلية". في حين أنني أميل إلى تثبيت مصطلح "التقنيات" بدلاً من الشروط، لأن الشروط تدلّ بالضرورة على ما لا يمكن الاستغناء عنه.
فإذا دخلنا إلى مطالعة الفصل الأول من المقاربة الميكروسردية المسمّى "أركان القصة القصيرة جداً ومكوناتها الداخلية" وجدناه مقسوماً إلى ستة مباحث تأتي بعد مقدّمة تعرض مقوّمات القصة القصيرة جداً في التاريخ النقدي العربي والغربي، مشيرة إلى أنّ أحمد جاسم الحسين جعل لها أربعة أركان: هي القصصية والجرأة والوحدة والتكثيف، وأن يوسف حطيني جعل تلك الأركان خمسة هي: الحكائية والتكثيف والوحدة والمفارقة وفعلية الجملة، وأنّ سليم عباسي خلط بين الأركان والتقنيات، وأنّ لبانة مشوّح حصرتها في الحكاية والتكثيف والإدهاش. ثم يستعرض مؤشرات القصة القصيرة جداً وميزاتها ومكوناتها وخصائصها عند لويس بريرا ليناريس وراوول براسكا وبيوليطا روخو وراولوزو زافالا، قبل أن يقدّم لنا مباحثه الستة التي تبرز رؤيته الخاصة لأركان القصة القصيرة جداً، وهذه المباحث هي:
1 ـ المبحث الأول- المعيار الطبوغرافي:
يرى فيه أن الأركان الطبوغرافية "أي ما يتعلّق بتنظيم الصفحة تبييضاً وتسويداً وما تحويه من مؤثرات بصرية وعلامات تشكيلية " يمكن حصرها في ثلاثة مقاييس هي:
ـ مقياس القصر.
ـ مقياس الترقيم.
ـ مقياس التنوع الفضائي.
يقول د. حمداوي عن مقياس القصر:"ينبغي أن تتخذ القصة القصيرة جدا حجما محدودا من الكلمات والجمل، وألا تتعدى مائة كلمة في غالب الأحوال، أي خمسة أسطر على الأقل، وصفحة واحدة على الأكثر لكي لا تتحول إلى أقصوصة أو قصة قصيرة أو رواية بنفسها السردي المسهب والموسع. ويعني هذا أن يحترم الكاتب حجم هذا الفن المستحدث وألا يتعدى نصف صفحة، ويختار الجمل ذات الفواصل القصيرة والجمل البسيطة من حيث البنية التركيبية ذات المحمول الواحد ".
وعلى الرغم من عدم ميلنا إلى التحديد الدقيق لطول النص وقصره، بل للخصائص التي تجعله قصيراً، فإن هذا التحديد يبقى معقولاً بشكل عام.
وعند الحديث عن علامات الترقيم يرى حمداوي أنّ "من أهم مكونات القصة القصيرة جدا الاهتمام بعلامة الترقيم وتطويعها سيميائيا لخدمة أغراض الكاتب ونواياه الإبداعية والتصورية".
أما بالنسبة لمقياس التنوع الفضائي فيرى أنه يمكن أن يصنّف إلى فضاء الجملة الواحدة، والفضاء المسردن، وفضاء القصيدة الشعرية، وفضاء الكتابة الدرامية، والفضاء الشذري أو المتقطّع دون أن يذكر ما يجعل من ذلك التنوع أمراً لازماً.
وإذا كان القصر، بالضرورة، منتجاً من منتجات التكثيف الذي اتفق عليه معظم المنظرين لهذا الفن، فإننا نستبعد أن تكون علامات الترقيم والتنوع الفضائي من ضمن أركان المقياس الطبوغرافي، لأن علامات الترقيم شرط كلّ كتابة، ولا يمكن أن نجعل شروط الكتابة العامة التي لا تعدُّ ولا تحصى من أركان كتابة خاصة، وإلا لاشترطنا أن تستخدم القصص القصيرة جداً أحرفاً وكلمات وجملاً، وجعلنا اجتناب أغلاط النحو والإملاء والأسلوب من شروطها أيضاً. على أننا لا ننفي بحال أهمية علامات الترقيم في تقديم الدلالة، شرط ألا تصبح استعراضية، أو اعتباطية، على نحو ما نرى عند سناء بلحور التي تستثمر النقاط الثلاث المتجاورة بشكل خاص، بشكل نمطي، وتبدو مغرمة في الكثير من قصصها بهذه النقاط، دون أن يكون لذلك أي علاقة بالمحتوى، إلى درجة تجعلها عديمة الجدوى والدلالة، ونشير هنا، تمثيلاً، إلى قصة "ورقة" التي تنتصر فيها الكاتبة للشعرية على حساب الحكائية:
"ورقة بيضاء... مرآةُ مشاعرها الصاخبة...
تثيرها مرآويةُ الروح... يسحرها النقاء...
بيضاء تفضح كل سواد معكّر...
تنكأ الجرح كي يجفّ... كي يستريح... ".
ثم إنّ التنوع الفضائي الذي يقترحه الحمداوي هو شرط جمعي، لا يمكن تطبيقه على نص واحد. فالتنوع شرط ناجم عن التعدد؛ وإذ نشير ها هنا إلى ضرورة الابتعاد عن التكرار في كل إبداع، ونتفق مع الحمداوي على هذا الشرط الذي يجعل مجموعة قصصية ما أكثر نجاحاً، فإننا لا يمكن أن نتفق معه في جعل ذلك التنوع ركناً، لأن الركن شرط النص، وليس شرط النصوص المتعددة.
2 ـ المبحث الثاني- المعيار السردي:
ويستحضر الكاتب في هذا المعيار "الشكلي أو الفني أو الجمالي" للقصة القصيرة جداً سبعة من المقاييس التي يبنى عليها، وهذه المقاييس هي:
ـ مقياس القصصية.
ـ مقياس التركيز.
ـ مقياس التنكير.
ـ مقياس التنكيت والتلغيز.
ـ مقياس الاقتضاب.
ـ مقياس التكثيف.
ـ مقياس الحذف والإضمار.
ففي أثناء عرضه مقياس القصصية يؤكد أنّه "إذا افتقدت القصة القصيرة جدا مقوماتها الحكائية تحولت إلى خاطرة أو مذكرة انطباعية أو نثيرة شعرية " وهذا أمر دقيق جداً؛ لأن فارق الحكاية هو الذي يميّز الجنس السردي عموماً من بقية الأشكال الإبداعية. ويبين الناقد ما يعنيه بخاصية التركيز التي يفترضها مقياساً من مقاييس المعيار السردي فيقول: "نعني بخاصية التركيز أن تنبني القصة القصيرة جدا على الوظائف الأساسية والأفعال النووية مع الاستغناء عن الوظائف الثانوية والأفعال التكميلية الزائدة والأجواء المؤشرة الملحقة والقرائن الظرفية المسهبة ".
أما مقياس التنكير الذي يعني عدم الاعتماد بشكل كبير على دور التسمية في التشخيص، فإنه يشرحه بما يلي: "إذا كانت الكثير من الروايات والقصص القصيرة الواقعية والرومانسية تحمل أسماء علمية محددة بدقة تعبر عن كينونات وذوات إنسانية مرصودة من خلال رؤى فزيولوجية ونفسية واجتماعية وأخلاقية، فإن القصة القصيرة جدا تتخلص من هذه الأسماء الشخوصية العلمية المعرفة؛ فتصبح ذواتا مجهولة نكرة. وبالتالي، تتحول في عصر العولمة إلى كائنات معلبة ومستلبة ومشيأة ومرقمة بدون هوية ولا كينونة وجودية، وتبقى أيضا بدون حمولات إنسانية ".
وفيما يتعلّق بمقياس التنكيت والتلغيز فإن الناقد يعرضه، دون بيان الصفة الجوهرية التي تجعل حضوره حتمياً في القصة القصيرة جداً. فهو يقول: "تتحول مجموعة من القصص القصيرة جدا إلى أحداث ملغزة أو من باب التنكيت والترفيه ليترك المبدع القارئ دائما يتسلح بالبياض لملء الفراغ ". ويمكن لنا أن نستعرض عشرات القصص القصيرة جداً، وربما المئات منها، التي تحقق نجاحاً فنياً ورؤيوياً، دون أن تعتمد على التنكيت والتلغيز. ولنا هنا أن نكتفي بمثال واحد هو قصة ""لون أحمر" للقاص حسن البطران التي تعتمد فى نجاحها على فجائعيتها المعبّرة عن النفاق:
"كعادته يخلع قناعه بعد مغادرة ضيوفه.
يتسامر مع خادمه..يطلي كلماته باللون الأحمر.
خادمه: لماذا أنت معي بلون ومعهم بلون آخر..؟؟
يصمت..
ثم يأمر بتشييع جنازة خادمه ".
ثم ينتقل الناقد للحديث عن مقياس الاقتضاب، مبيناً أهميته في المعيار السردي، فيقول بعد بيان دور الوصف في الرواية والقصة القصيرة جداً: "إن من أهم المكونات الأساسية للقصة القصيرة جدا الاقتضاب في الوصف عن طريق الابتعاد عن الحشو الزائد، وتجنب الاستطرادات الوصفية والتأملات الشاعرية، وتفادي التكرار اللفظي والمعنوي، والتقليل من النعوت والصفات، والابتعاد عن التمطيط في التصوير الوصفي صفحات وصفحات. ومن هنا، فلا بد من عملية الاقتضاب في الوصف تشذيبا وانتقاء، ولابد من الاقتصاد فيه إيجازا واختزالا وتدقيقا ".
ثم يتابع مؤكداً على هذا المقياس بقوله: "وفي هذه الحالة، لا ينبغي للمبدع أن يستخدم في قصصه القصيرة جدا الأوصاف إلا إذا كانت معبرة تخدم السياق القصصي خدمة دلالية وفنية ومقصدية، وألا يتحول الوصف إلى حشو زائد كما نجد ذلك في الكثير من القصص القريبة إلى نفس الرواية والقصة القصيرة ".
فإذا انتقل الأستاذ حمداوي إلى خاصية التكثيف بين أهمية هذا المقياس في المعيار السردي، وهو يعني عنده: "اختزال الأحداث وتلخيصها وتجميعها في أفعال رئيسية وأحداث نووية مركزة بسيطة، والتخلي عن الوظائف الثانوية التكميلية، والابتعاد عن الأوصاف المسهبة أو التمطيط في وصف الأجواء" .
ويختم الأستاذ جميل حمداوي مقاييس المعيار السردي بمقياس الإضمار والحذف، مؤكداً أنهما "من أهم الأركان الجوهرية للقصة القصيرة جدا، وينتجان كما هو معلوم عن طريق وجود نقط الحذف والفراغ الصامت وظاهرة التلغيز ".
فإذا بدأنا من القصصية وجدنا أنفسنا متفقين مع الناقد أنها من أهم أركان القصة القصيرة جداً، إذ لا وجود للقصة القصيرة جداً إذا لم تمتلك تلك القصة حكاية تروى، وتجعلها جديرة بالانتماء إلى السرد، وقد فضّلت في كتابي مصطلح (الحكائية) على مصطلح (القصصية) لأن القصصية تحيل لفظاً على القصة بينما تحيل (الحكائية) على الرواية والقصة القصيرة والقصة القصيرة جداً والمسرحية والدراما وغير ذلك، وهذا هو المقصود بالضبط من وراء استخدام هذا المصطلح. أي أنّ القصة القصيرة جداً لا بدّ لها من (حكاية... حدّوتة...) تستند إلى شخصيات تقوم بأفعال في بيئة محددة.
وفيما يتعلّق بمقياس التركيز والاقتضاب والتكثيف والحذف والإضمار، فإنها تحيل جميعاً إلى ركن من أركان القصة القصيرة جداً كان قد اتفق عليه جميع المنظرين، هو التكثيف، (وإن كان الجزء الثاني من المقياس الأخير ـ نقصد الإضمارـ يحيل على المعيار البلاغي أيضاً).
أما فيما يتعلّق بمقياس التنكير الذي يتناول استثمار اسم العلم، فإنّ هذا المقياس يكاد يصدق على كثير من القصص القصيرة جداً، (من مثل مجموعة "نجيّ ليلتي"لميمون حرش ومجموعات حسن البطران )، غير أن التعميم هنا لا يبدو صحيحاً، لأنّ تسمية الشخصية (وهذا أعلى أشكال التعريف) يمكن أن يسهم في تشخيصها، خاصة إذا تمت الاستعانة باسم العلم التاريخي أو الثقافي، على نحو ما نجد عند مصطفى لغتيري في مجموعة "زخات حارقة" .
ولعلنا نشير هنا إلى نص "غودو ينتظر" لمايا عز الدين عبّارة الذي يشكله وعي ثقافي يؤمن بتطوير المفاهيم البالية، مستثمراً اسم العلم "غودو" الذي يحيل إلى "صموئيل بيكيت"، وإلى رؤية تدين انتظار اللاشيء:
" كان غودو يأتي ويذهب دون أن يروه...أو أنهم لم يتعرفوا عليه. ومرة قال لهم: أنا غودو.. تعالوا معي أيها المنتظرون، ووقف ينتظرهم، لكنّ أحدا لم يعره اهتماما. ظلوا يدورون في دوائرهم اللانهائية العبثية.
تفاجأغودو فهو كان قد سمع كثيراعن انتظار أولئك البائسين والمعذبين له وسمع عن انتظار الأطفال المشردين له وسمع عن انتظار المحبين الذين لا يجدون مكانا للقاء على هذه الأرض إلى أن غادروا معه.
فقال بصوت عال: أنا أتيت لأني قرأت في إحدى مسرحياتكم أنكم تنتظرونني بشدة وحين انصعت لأمانيكم ولبنات أفكاركم وجئت لأخلّصكم لا تردون على ندائي!!
لكنهم كذبوه قائلين :أنت لست غودو. أنت كالراعي الكذّاب ونحن قرأنا هذه القصة ولن نصدقك.
أقسمَ غودو بأنه غودو وإن تأخر بالقدوم ، لكنهم أنكروا قدومه وأقنعوه بأنه وهمٌ لا يستطيع إنقاذ أحدهم ..فاعتمادا على ذات المسرحية التي اعتمد عليها هو لن يأتي وإن أتى لن يروه.
أشاحوا بوجوههم عنه بينما ظل غودو ينتظر الناس جميعاً بعدما كانوا ينتظرونه وحده.
وحين ملّ من الانتظار وشعر بالوحدة والعزلة انضم للناس وانصهر معهم في دوائرهم ."
وإذا كان التكثيف قد خان القاصة في هذه القصة، فإن الحبكة تشهد بقدرة فائقة على إعادة إنتاج الرؤية وتطويرها، من خلال استخدام اسم العلم الثقافي، وتكثيف مدلولاته، واستثمارها على خير وجه، مما يجعل العلمية عاملاً مساعداً في بناء الشخصية في القصة القصيرة جداً.
فإذا انتقلنا إلى مقياس التنكيت والتلغيز لاحظنا أنّ هذين المقياسين يحيلان على المفارقة التي اتفق المنظرون على كونها أساساً من أسس القصة القصيرة جداً، مع التنبيه هنا على أنّ عدم استثمار المبدع لهذا المقياس ـ الذي يعدّه الأستاذ حمداوي ركناً ـ كما ينبغي قد يجعل القصة القصيرة جداً مجرد نكتة، وقد يجعلها أحجية لا تصل مدلولاتها إلى القارئ.
3 ـ المبحث الثالث- معيار القراءة والتقبّل:
لا بدّ قبل مناقشة هذا المعيار من إثارة سؤال يتناول مدى إمكانية أن تُعَدّ استجابة القارئ ركناً مسبقاً من أركان العمل الأدبي، وهل يفكّر المبدع بالقارئ حقاً عندما يكتب، وإذا كان بعض كبار الكتاب الروس يفكرون بالنقاد، وهم ينتجون أعمالهم الإبداعية، فهل يفعل كل المبدعين ذلك، وهل ضرورة استجابة القارئ شرط قديم، أم مستحدث بعد استحداث نظريات القراءة والتلقي على أنقاض المدارس الأدبية الكبرى؟
هذه أسئلة لا تقلل أبداً من شأن أي معيار ينطلق من تصور دور القارئ، غير أننا نقول: إن كثيراً من المبدعين لا يكتبون للقارئ، بل لإحداث توازن داخلي مفقود بينهم وبين العالم الذي يعيشون فيه، أي إنهم يكتبون ليصبح عيشهم أكثر إمكانية وتقبلاً.
نعود ها هنا للمقاييس الثلاثة التي يقترحها د. جميل حمداوي لمعيار القراءة والتقبّل، وهي:
ـ مقياس الاشتباك.
ـ مقياس المفاجأة.
ـ مقياس الإدهاش.
يرى الدكتور جميل أن "أفضل القصص القصيرة جداً تلك القصص التي تشتبك مع قارئها ذهنيا ووجدانيا وحركيا عبر مجموعة من العمليات التفاعلية" مشيراً إلى أنّ كثيراً من القصص القصيرة جداً تعمل "على مفاجأة المتلقي وإثارته فنيا وجماليا ودلاليا، واستفزازه عن طريق الانزياح والصورة الومضة، وإيقاعه في شرك الحيرة والتعجب اندهاشا وإرباكا وسحرا" منتقلاً إلى مقياس الإدهاش، ليَعُدَّ تلك الخاصية"من أهم خاصيات القصة القصيرة جدا الناتجة عن الإضمار والغموض والحذف والتخييل وترك البياضات الفارغة واصطناع لغة المفارقة والعلامات الملتبسة المحيرة التي تساهم في خلخلة ميثاق التلقي وإرباك القارئ على مستوى التلقي وتقبل النص".
ويخيّل للقارئ هنا أن هذه المقاييس (الاشتباك والمفاجأة والإدهاش) متداخلة فيما بينها إلى أبعد حدود التداخل، حتى إن الأستاذ الحمداوي نفسه يرى أن أفضل القصص القصيرة جداً "تلك التي تشتبك مع قارئها ذهنياً ووجدانياً عبر مجموعة من العمليات التفاعلية كالإدهاش والإبهار والإرباك والمفاجأة.... ". وها هنا تشتبك المقاييس بعضها ببعض، ويحيل الاشتباك على المفاجأة والإدهاش، وتمتزج خصائص القصة القصيرة جداً بخصائص القارئ، إذ إن القصة التي "ستشتبك" مع القارئ تشترط قارئاً من طراز محدد، قادراً على "الاشتباك". ثم إنّ المفاجأة والإدهاش نراهما يحيلان على المفارقة التي يمكن أن تضمهما تحت جناحها، بوصفهما وسيلتين من وسائل ترسيخها في النص.
4 ـ المبحث الرابع- المعيار التركيبي:
في البعد التركيبي يعرض الناقد جميل حمداوي الملامح التي تجعل التركيب اللغوي مساعداً في تقديم قصة قصيرة جداً أكثر تركيزاً وسرعة، وأنضج حبكة، فيشير إلى المقاييس التالية:
ـ مقياس الجملة البسيطة.
ـ مقياس الفعلية.
ـ مقياس التراكب.
ـ مقياس التتابع.
ـ مقياس التسريع.
ـ مقياس التناغم الداخلي.
يرى الناقد في أثناء تقديمه لمقياس الجملة البسيطة أنّه "كلما كانت القصة القصيرة جدا مبنية على الجمل البسيطة ذات المحمول الواحد، وابتعدت عن الجمل الطويلة والمركبة ذات المحمولات المتعددة كانت القصة أكثر تركيزاً واقتضاباً واختزالاً وإبهاراً للقارئ وإدهاشاً له "، تاركاً هذا المقياس في حيّز المفاضلة لا في حيّز حتمية الوجود. أمّا في مقياس الأفعال فيرى أنّ "كثيراً من كتاب القصة القصيرة جداً يكثرون من الجمل الفعلية أو الجمل الاسمية التي خبرها جملة فعلية، أو يكثرون من الجمل الرابطية ذات الطاقة الفعلية ".
وفي خلال حديثه عن مقياس التراكب يشيرإلى أنّه "من أهم الظواهر البارزة التي تلفت الانتباه في القصة القصيرة جداً نجد ظاهرة تراكب الجمل وتتابعها في سياق النص من أجل تأزيم العقدة، وخلق التوتر الدرامي عبر تسريع وتيرة الجمل، وركوب بعضها البعض (!!) "
وانطلاقاً من موقف الملاحظة، لا من منطق الحتمية والضرورة، يشير الكاتب إلى مقياس التتابع؛ إذ "يستند الكاتب في تحبيك قصصه القصيرة جدا إلى توظيف إيقاع سردي يتميز بالسرعة والإيجاز وكثرة التعاقب في تسلسل الأحداث وتتابع الأحوال والحالات ".
وفي أثناء حديثه عن مقياس التسريع يشير الحمداوي إلى أن كاتب القصة القصيرة جداً يوظّف إيقاعاً سردياً يمتاز بالسرعة، "وهذا الإيقاع ناتج عن تراكب الجمل وتتابع الأفعال منطقياً وكرونولوجياً، والميل إلى الإيجاز وكثرة التعاقب في تسلسل الأحداث وتتابع الأحوال والحالات ".
ويختم الناقد مقاييس المعيار التركيبي في نظريته بمقياس التناغم الداخلي، فيرى أن القصة القصيرة جداً تنبني "على البناء المحكم والوحدة الموضوعية والعضوية والاتساق والانسجام، وارتباط العنوان بالنص أو ارتباط البداية بالنهاية. ويتم اتساق القصة بمجموعة من الروابط اللغوية الشكلية كأسماء الإشارة والأسماء الموصولة وضمائر الإحالة والاستبدال والحذف والتكرار اللفظي والدوران حول لفظ واحد. كما ينبني الانسجام على مجموعة من العمليات الذهنية كالمعرفة الخلفية والتشابه والسياق العام والخاص والتغريض الموضوعاتي والعنونة والخطاطات والمدونات والسيناريوهات ".
وإذ نسعى ها هنا إلى جمع ما يمكن جمعه في صعيد مشترك، فإننا نشير إلى أنّ مقياس الجملة البسيطة لا يعدّ شرطاً تركيبيا، حتى لو تعلّق الأمر بالقصة القصيرة جداً. ويمكن لعودة سريعة إلى نصوص قصصية قصيرة جداً أن تبعد شبح هذا القيد؛ فالقصة القصيرة جداً تستخدم الشرط والقسم والطلب، وغير ذلك من الجمل المركبة، مثلما تستخدم الجملة في أبسط أشكالها.
وأما مقياسا الفعلية والتسريع، فإن أحدهما يبدو نتيجة للآخر، بمعنى أنّ استخدام الجملة الفعلية، أو الجملة ذات الطاقة الفعلية (كاستثمار الجملة الاسمية إذا كان خبرها جملة فعلية، أو استخدام الصيغ الصرفية ذات الطاقة الفعلية كاسم الفاعل والمفعول ومبالغة اسم الفاعل.... إلخ) يقود بالضرورة إلى تسريع السرد، بينما تؤدي الجمل الاسمية الوصفية إلى بطء السرد .
وفيما يتعلق بالمقاييس الثلاثة المتبقية (التراكب، والتتابع،والتناغم الداخلي) فيمكن إلحاقها، منطقياً، بشروط وحدة النص، ولعلّ هذه المقاييس الثلاثة هي أبرز الإضافات النوعية لنظرية القصة القصيرة جداً برمّتها، لأنّها تدخل في صلب الوحدة النصية التي لم يلتفت نقاد القصة القصيرة جداً إلى تفاصيلها، وكيفية بنائها.
5 - المبحث الخامس- المعيار المعماري:
يرصد الناقد الحمداوي في هذا المبحث عناصر ما أسماه المعيار المعماري، ويتناول فيه ما يمسّ بناء الحدث وأجزاء الحكاية، راصداً ذلك من خلال مقياسين يتفرّعان بدورهما إلى تفريعات نوضحها فيما يلي:
ـ مقياس البداية والجسد والقفلة:
أ ـ البداية القصصية.
ب ـ الجسد القصصي.
ج ـ القفلة القصصية.
ـ مقياس التركيب الحدثي:
أ ـ التركيب الدائري.
ب ـ التركيب السهمي الصاعد.
ج ـ التركيب السهمي الهابط.
ونشير ها هنا أنّ الناقد يقدّم في هذا المبحث ملامح البدايات والنهايات القصصية وتنوعها في القصة القصيرة جداً، بعد أن يذكر السمات التي تجعلها أكثر نجاحاً، فيما يلاحق تنوع أجساد الجسد القصصي، وأنواع التركيب الحدثي. وربما كان من الأفضل أن يكتفى بالسمات التي تحمل سرّ نجاح القصة القصيرة جداً في هذه العناصر، ومن ثم إلحاقها بعنوان الحكائية، لأن الحدث والحبكة (وعناصرهما المكونة) تمكن دراستها جميعاً تحت ذلك العنوان.
6- المبحث السادس- المعيار البلاغي:
لا نشك في حضرة المعيار البلاغي في أنّ الناقد يمكن أن يضع عدداً هائلاً من الاستثمارات البلاغية الناجحة في القصص القصيرة جداً، غير أن المرء حين يتحدّث عن الأركان يجب أن يكون حذراً، وأن يكتفي بما هو واجب الحضور في النص. فإذا تأملنا ما ذكره الحمداوي في هذا المبحث وجدناه يشير إلى ثلاثة مقاييس هي:
ـ مقياس الصورة الومضة.
ـ مقياس المفارقة.
ـ مقياس السخرية.
وإذ يقدّم لنا الناقد د. حمداوي مقياس الصورة الومضة، من منطق إمكانية الاستثمار، لا من منطق الضرورة، فإنه يشير إلى أن تلك الصورة تستند إلى "التوهج والإبهار والإدهاش واللحظات اللامعة المشرقة عن طريق التأرجح بين صور المشابهة وصور المجاورة والصورة الرؤيا ". فيما يبدو أكثر منطقية حين يشير إلى ضرورة المفارقة التي ترتكز على الجمع بين المتناقضات والمتضادات تآلفا واختلافا، مقتبساً من كتابنا أنها "عنصر من العناصر التي لا غنى عنها أبدا، وتعتمد على مبدأ تفريغ الذروة، وخرق المتوقع، ولكنها في الوقت ذاته ليست طرفة، وإذا كانت هذه القصة تضحك المتلقي، في بعض الأحيان، فإنها تسعى إلى تعميق إحساسه بالناس والأشياء ".
وإذ ينتقل إلى السخرية فإنه يعبّر عنها من منطق الضرورة، فهي في رأيه "من أهم المكونات الجوهرية للقصة القصيرة جدا، وذلك من خلال عمليات الإضحاك والكروتيسك والتشويه الامتساخي والتعرية الكاريكاتورية والنقد الفكاهي والهجاء اللاذع ".
ونجد أنفسنا ها هنا مختلفين مع الحمداوي في جدارة انتماء هذه المقاييس إلى الأركان، إذ إنّ المقياسين الأول والأخير يمكن الاستغناء عنهما في القصة القصيرة جداً، فثمة قصص قصيرة جداً تحقق نجاحاً دون أن تتكئ على أي منهما، فالصورة في رأينا ليست ضرورة، ولكنها متَّكأ يرفع سوية اللغة والدلالة، والسخرية ليست شرطاً أيضاً، غير أن توظيفها، بشكل غير مسفّ، يمكن أن يعمق الإحساس بدلالة النص ورؤيته. وربما كان الأفضل أن يضافا (ضمن المنهجية الميكروسردية) إلى المبحث البلاغي في الفصل اللاحق الذي يتناول التقنيات.
وثمة كثير من القصص التي تنجح في تقديم مقولتها ورؤيتها، دون الاعتماد على أي من هذين الركنين، ونشير هنا إلى قصة "أرزاق" لشريف عابدين التي تنأى بلغتها، مثل معظم قصصه القصيرة جداً، عن التصوير والسخرية، دون أن تفقد ألق نجاحها:
"بحجة الحفاظ على الزهور، سمح الحاكم للشعب بالتنزه فقط أيام العطلات.
اصطفّ الناس في طوابير طويلة عند أبواب الحدائق.
باع الفقراء أماكن أدوارهم للعشاق، واشتروا بقيمتها خبزاً ".
أما فيما يتعلّق بمقياس المفارقة، فلا نشك، ولم نشك سابقاً، في أن وجوده عنصر لازم، لإنجاح أي قصة قصيرة جداً.
* * *
في الفصل الثاني من المقاربة الميكرو سردية يقدّم الناقد جميل الحمداوي رؤيته للشروط التكميلية والتقنيات العرضية. ونحن إذ نجد تعبير الشروط، كما أسلفنا في البداية، غير مناسب، فإننا نتفق مع الأستاذ الناقد في كل ما أورده في هذا الفصل من تقنيات، فقد أشار في المعيار المناصي إلى: مقياس العنونة، وقياس الانفتاح التجنيسي، وأشار في المعيار التفاعلي إلى مقياس التناص، وأكد في المعيار البلاغي على أهمية الأنسنة والترميز والانزياح والفانطاستيك والإيحاء والغموض (بمعناه الإيجابي) والتجريد، فيما لفت النظر في معيار التخطيب إلى تنويع الأساليب السردية، والتبئير السردي والالتفات، وانتهى في المعيار الدلالي إلى الإفادة من الجرأة واستثمار التشخيص بأنواعه.
ويمكن ها هنا أن نضيف (وقد أضاف بعض النقاد فعلاً) عدداً آخر من التقنيات التي يمكن استثمارها على مدى التاريخ القصير لتطور القصة القصيرة جداً، من مثل الطرافة والجدة والابتكار والإيقاع واستثمار الألوان وغير ذلك من التقنيات التي قد يقترحها المبدعون من خلال قصصهم القصيرة جداً.
محاولة تركيب:
يبدو لي أنّ أكثر ما يبدو غريباً في المقاربة الميكروسردية للقصة القصيرة جداً عند الحمداوي أنها تستمد قوّتها من تفاصيلها الكثيرة التي تثير في الوقت ذاته كثيراً من الإرباك، وكثيراً من الصعوبة في تصور الإطار العام والأطر التفصيلية لعناصرها. وهذا ما يجعلها أكثر جدوى في التطبيق العملي، وقد راجعت كثيراً من النصوص النقدية التي قدّمها الناقد حول تجارب مغربية في هذا الجنس الأدبي البديع، فلاحظت مدى توفيقه في تقصي ملامح القص عند المبدعين، استناداً إلى تفاصيل تلك المقاربة.
ولعلّ هذا عائد إلى أن مقاربة النص الأدبي تركّز عادة على تقنيات القص التي تجعل من النص جميلاً، أكثر من تركيزها على أركان تجعل النص ينتمي إلى الجنس الادبي ويحقق شروطه.
إن العرض النظري المتعلّق بالأركان و"الشروط التكميلية"، كما عرضها الناقد، بدا لي مفصّلاً أكثر مما بنبغي، وربما كان حذف بعض التكرارات (أو المتقاربات)، وتفريع بعض المباحث على مباحث أخرى ذات علاقة وثيقة بها تجعل الأمر أكثر منطقية واستيعاباً وفائدة.
إنني هنا، على الرغم من الملاحظات التي أبديتها في خلال مناقشة المقاربة، أميل إلى الإفادة مما أنجزه الناقد، عبر إشارات حصيفة مهمة، لتطعيم أركان القصة القصيرة جداً بفروع جديدة، كأن يتم تعليق شروط مكونات الحكاية على شجرة الحكائية، وإلحاق العناصر التي تشكّل تناغم النص بوحدته الموضوعية وهكذا.. من أجل أن يستمر بناء الصرح النقدي والإبداعي لهذا الجنس السردي الجميل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق