المشاركات الشائعة

الاثنين، 14 أبريل 2014



بلا عنوان........علي قوادري
14 April 2014 at 13:32



على حافة جرح منسي,

التقيتُ تنهيدة غجرية..

عانقتُ رسائل دمعة

مرقومة بحبر الوجد..

كانت خطاي صامتة

ورصيف البوح مكتض بالهمس

حين عََبرَتْ فراشة هلامية التحليق

سمعتها وحدي توشوشني

دافئة التحليق

امسكتُ ثوب جملتها الأخيرة

فانزلق راقصا

سألني حرف صديق

خبأته في جبة أحلامي

"حتى متى تتسكع الأغنيات

كسيرة النوتات

قرمزية الألحان؟"

شكلتني اشراقة من طين الصبابة

شكلتني موجة على خدّ قبلة

عصفت ْبمضارب القبيلة..

وخيام الشوق ال سكنت يوما

دقات الشعر

وصهيل حكايا الليل.

الصورة من التقاط الأستاذ عبد المالك السعيد.

حفل زفاف
قصة قصيرة/علي قوادري
تعرَّفْتُ على صديقي الأمريكي صدفة وما كان يهمُّني بادئ الأمر اكتساب لغته والتمرن على استعمالها كتابيا وشفويا..اعترف أن صديقي الأشقر كان رائعا ..محاور ومثقف مميز يعرف الكثير عن الآخر..
خجِِلٌ كنت وأنا اتحدث عن مجتمعاتنا وتخلفنا ولكنه واثق مما يريد ويعرف كيف ينبشني ويفتك المعلومة..
تقاذفتنا عديد المواضيع وأكثرها سياسيا بحكم تلك الصورة النمطية التي رسمها الإعلام عندهم على أن المسلمين ارهابيون..تفاجأ وأنا أحاوره وأفك طلاسم عده..
تعدَّدَتْ حواراتنا في السكايب وتشعبت حتى عرّفني بعائلته وبمدينته..عائلة تتكون من الأب, بحار متقاعد شدَّني شكله المتقارب من شيخ همينغواي وأم من أولئك المولدين من زواج البيض والهنود وأخت تعمل صحافية في قناة محلية معروفة..
تعلَّق بي كثيرا توماس درجة أنه كان يكلّمني بالهاتف حين أغيب عن العالم الافتراضي ويجتهد في جعلي أعرف كل جديده..أحيانا يرسل إليَّ بصوره ..توماس وسيم وطويل ذا شعر حريري يغري كل إناث الدنيا ..أسأله عن مغامراته فيسرد بعضها في فتور عكس رحلاته وقراءاته ..توماس رجل اجتماعي ومنفتح يحب التثاقف ويجيد الإسبانية ولكن يكره الفرنسية وهو في أكثر حالاته يبدو متدينا ومتزنا ويميل لحياة عادية ..
في عيد ميلاد ابنتي الثاني أرسل لها هدية رائعة وبعض الدولارات التي لم أرها أبدا..ووعدني أكثر من مرة أنه سيزورني ويتعرف على مدينتي التي رآها من خلال الصور وأعجب بها ..
فرحت ُكثيرا حين قرَّر الزواج وتأسيس أسرة وأصرَّ عليَّ أن أحضر فتمنَّعت مستعملا أعذارا وأعذارا والحقيقة أني كنت تواقا لأن أذهب وأرى العالم الجديد ,عالم الحريات ولكن حالتي المادية لاتسمح..
نسيت الأمر وبي رغبة أن أمارس حياتي وأقطع كل صلة بتوماس لكني تفاجأت حين وصلتني من السفارة الأمريكية بطاقة دعوة وتأشيرة سفر مع كل التكاليف والأهم بذلة مميزة جدا..
خجلتُ من صديقي وقررت أن أسافر وأحضر حفل زواجه.. اشتريت هدية تليق به وبزوجته وقد كلفتني الكثير..
وصلتُ مساءً منبهرا مشدوها ومنفعلا, أيُّ قروي تستقبلينا ياميشيغان؟؟ المميز لا أحد يتوقف عندك أو ينظر إليك..الجميع يمضون إلى شأنهم..وحدي أراقب البلاط والعباد والبنايات وأتيه متأمِّلا ومُوَحِِّّدًا وحزينا..حزين فكلِّ عَُقَدِ الدنيا تناوشتني ..ميْتٌ يا قريتي كنت هناك وها أنا أحيا وأُبْعَثُ مُتَحَرِّرًا إلاَّ من جوعي لل....
مُتَهَلِّلاً وفرحا طوَّقَني توماس الوديع بذراعيه القويتين , أحسستني قزما وأنا من كنت أرى نفسي متوسط القامة ,كادت دموعي تترقرق حين أحاطتني العائلة بطيبتها ,هذا يحدثني وهذا يدعوني للأكل والشرب والآخر يشرب النبيذ محتشما..
تجمَّعَتْ العائلة فتعرَّفْتُ عليهم تقريبا وبعض الجيران وبت مع توماس نتجاذب الأحاديث ..في الصباح جُلْنا في المدينة متجاورين وسعيدين..
بعد يومين كان توماس أسعد الناس وكنتُ أشاطره أدقَّ اللحظات سعادة وكأنه أخي ..طقوس الزواج عندهم مختلفة تتعدَّدُ مظاهرها ..تشرَّفْتُ بالتنقل مع صديقي إلى الكنيسة وتشرَّفْتُ بالتعرف على جانب من معتقداتهم..
بدأت الوفود تتجمَّعُ وبات جليًّا اقتراب قدوم العروس ..لعلَّها شقراء ُوالأكيد أنَّها طويلة فتوماس جذَّاب وأي أميرة تتمناه..
فجأة قال لي صديقي
-علي أقدم لك جورج زوجتي
مدَدَتُ يدي صامتا كمومياء فرعونية وقد تحنَّطَتْ العبارات وجفَّ ريقي وعرق بارد انحدر على جبهتي وأنا أتملَّى وجه هذا الرجل المائل للسمرة النحاسية ..
وحدها أصوات الكنيسة بقيت تسكنني وأنا أعبر المطارات نحو قريتي النائمة تحت ستار الليل......

الخميس، 10 أبريل 2014

سورة الكهف كاملة - ماهر المعيقلي - جودة عالية




قراءة في المقاربة الميكروسردية
القصة القصيرة جداً عند د. جميل حمداوي

د. يوسف حطيني

تقديم:
لقد جاوزت القصة القصيرة جداً مرحلة الحماسة للجنس الأدبي، مثلما تجاوزت الأصوات المعارضة التي وقفت في طريق تبلورها نظرياً وإبداعياً، وحسمت لصالحها عدداً لا بأس به من النقاد الذين بدوا مترددين في الانحياز لها بعد نحو خمسة عشر عاماً من صدور أول كتاب ينظر لهذا الجنس الأدبي، وهو كتاب "القصة القصيرة جداً ـ مقاربة بكر" لأحمد جاسم الحسين.
وإثر صدور هذا الكتاب صدرت كتب متعددة حول ذلك الفن ليوسف حطيني وجاسم خلف إلياس وهيثم بهنام بردى؛ سعت جميعها نظرياً وتطبيقياً إلى تشكيل حدود المصطلح وأركانه وتقنياته؛ ليلمع من ثم نجم جميل حمداوي في المغرب العربي، بوصفه واحداً من أهم المنظرين لهذا الفن السردي، وأغزرهم إنتاجاً، إلى جانب عدد من النقاد من مثل: عبد الدائم السلامي وعبد العاطي الزياني وسعاد مسكين ونور الدين الفيلالي ومحمد يوب ومحمد اشويكة وحميد لحمداني وغيرهم.
وعلى الرغم من تواتر الكتابة على المستويين الإبداعي والتنظيري (وخاصة في سورية وفلسطين والسعودية والعراق والمغرب) فقد بقيت نقاط خلاف متعددة يتداولها النقاد من كتاب إلى آخر، ومن مؤتمر إلى آخر، تتعلّق بتأصيل هذا الفن، وحدود المصطلح الذي يسعى إلى تمييز هذا الجنس من غيره، إضافة إلى تداخل واضح بين أركانه وتقنياته.

حول تأصيل القصة القصيرة جداً:
سبق أن أشرنا في كتابنا "القصة القصيرة جداً بين النظرية والتطبيق" في أثناء الفصل المسمّى (جذور القصة القصيرة جداً) إلى وجود مختلف أنواع السرد القصير جداً في التراث العربي الغني بالأخبار والحكايات والطرائف، والشذرات والأكاذيب والمنامات والمقامات. وأكدنا أن الجنس الأدبي لا يستمدّ شرعية وجوده من معيار وجود جذوره التراثية، غير أنَّ الإقرار بوجود النص التراثي السردي القصير جداً عند العرب هو إقرار بأمر واقع أكثر من كونه بحثاً عن هوية تراثية لهذا الفن.
وقد أشرنا في الفصل ذاته إلى أنّ السرد القديم القصير جداً، بمختلف أشكاله، تناول قضايا اجتماعية وسياسية مختلفة، واستعان بشخصيات واقعية أو تخيلية مثل أشعب وجحا، ليؤدي وظيفة دلالية. وإذا كانت شخصية أشعب قد بدت مسطحة وبسيطة وأحادية الاهتمام إلى حد كبير، فقد جاءت شخصية جحا ظاهرة الاختلاف عن الشخصية السابقة، لأنها لا تسعى إلى مجرد الإضحاك، بل إلى تعميق إحسـاسـنا بالواقـع السياسي والاجتماعي الذي عاشته هذه الشخصية، وهي، أي شخصية جحا، لم تعش في عصـرها فقط، بل تجـاوزته إلى عصرنا من خلال ظهورها في أدبيـات حديثة، وإذا كان ثمة خلاف في تحديد اسم هذه الشخصية ، ومكان وجودها الحقيقي، فإن الذي لا خلاف فيه أنها شخصية موجودة، وأنها تفيد من مساحة الحرية التي يتيحها الحمق لإبداء رأيها في كثير من القضايا الخطيرة التي لا يستطيع العقلاء تحديد مواقفهم منها بصراحة.
وخلافاً لما أوردناه في هذا الفصل، فقد راح نقاد آخرون يبحثون عن جذور القصة القصيرة جداً في الآداب الأوروبية والآداب الأمريكية اللاتينية، مشيرين إلى وجود هذا الشكل في الأدب الإسباني والفرنسي والمكسيكي، وهذا أمر لا ينكره عاقل، وهو لا يناقض أن تكون القصة القصيرة جداً في الوطن العربي تطوراً طبيعياً للسرد التراثي القصير جداً، لأن هذا السرد شكّل سلسلة متصلة من أنواع تلك السرود، استمرّت في العصور الأدبية المختلفة، ولم تنقطع حتى مطلع العصر الحديث، بل إنها صارت في مطلعه أقرب إلى الشكل الذي نبحث عنه اليوم، ونستمد منه عناصر القص وتقنياته. وحسبنا ها هنا أن نشير إلى نص مثالي كتبه جبران خليل جبران في كتابه (المجنون):
"خرج الثعلب من مأواه عند شروق الشمس، فتطلّع إلى ظلّه منذهلاً، وقال: سأتغدى اليوم جملاً!. ثم مضىفي سبيله يفتّش عن الجمال الصباح كلّه. وعند الظهيرة تفرّس في ظلّه ثانيةً وقال مندهشاً: بلى، إنّ فأرة واحدة تكفيني ".
في تقنيات القص وأركانه:
لقد انطلق نقاد القصة القصيرة جداً من أنّ هذا الفن يتعامل بشكل مختلف مع عناصر السرد، فالحدث سهمي يتجه نحو تفريغ ذروته، ولا مجال للحوارات الطويلة التي تكشف الشخصية أو المونولوجات أو المذكرات، والحكاية مختصرة سهمية، واللغة فاعلة لا تطمئن إلى الوصف الذي يجعل إيقاع السرد بطيئاً، والزمن والمكان مجرد إشارات برقية... إلخ.
لذلك فقد انشغل النقاد منذ الكتاب الأول للدكتور أحمد جاسم الحسين في البحث عن صيغة تحاول اختزال مساحات تلك العناصر، وتحفظ لهذا الفن تفرّده، دون أن تخرجه من طبيعته السردية، فتحدثوا عن الحكائية (أو القصصية) والتكثيف والوحدة والمفارقة... إلخ، ولم يتأثروا كثيراً بما أنجزه نقاد آخرون من أمريكا اللاتينية تاهوا بين السرد والشعر، ولم يهتموا بتفريد القصة القصيرة جداً إلى الحد الذي يجعل منها بنية سردية متصلة بالسرد ومنفصلة عنه في آن؛ إذ رأى الناقد الأرجنتيني راوول براسكا أنّ "القصة القصيرة جداً تنبني على ثلاثة مقومات أساسية، وهي الثنائية (ثنائية الواقع والخيال)، والمرجعية التناصية، وانزياح المعنى " بينما رأى الناقد المكسيكي لاورو زافالا أنّ القصة القصيرة جداً تمتاز بعدّة خاصيات: الإيجاز والإيحاء والتناص والطابع الديالكتيكي . ولعلّ الناقدة الفنزويلية فيوليتا روخو كانت أقرب من سابقيها إلى الانطلاق من طبيعة السرد في تحديد مميزات القصة القصيرة جداً إذ تراها في "الامتداد الطباعي بين صفحة وصفحتين، وحضور الحبكة ظاهرياً أو ضمنياً، وانفتاح البنية أجناسياً، وتنويع الأسلوب وتشغيل التناص ".
وفي ظني، وفي حدود اطلاعي أيضاً، أن النقاد العرب كانوا أكثر قدرة على رسم تصوّر نظري لأركان هذا القص، على الرغم من اختلافهم، إذ بقيت رؤاهم بشكل عام تحوم حول الحكائية والتكثيف على الرغم من اختلافهم في التعبير عن أركان القص الأخرى.
وإذا كان النقاد العرب قد اتفقوا على أهم ركنين من أركان القصة القصيرة جداً، فقد أفاضوا في الحديث عن التقنيات المختلفة التي يمكن أن يستثمرها القاص، وبدا أن لا مشكلة في هذا الأمر، إذ إن أي فن أدبي يحتمل استثمار كثير من التقنيات المتداخلة؛ لذلك تم الحديث عن الطرافة والجدة والابتكار والإدهاش والتناص والتشخيص والإيقاع والإيحاء وتنويع الاستهلال والخاتمة وغير ذلك، كما يمكن أن يتم الحديث عما غفل عنه النقاد من التقنيات في المستقبل، مما يرد في أذهانهم، أو مما ينتجه خيال المبدعين.
المقاربة الميكروسردية للدكتور جميل الحمداوي:
يعدّ الدكتور جميل الحمداوي واحداً من ألمع نقاد القصة القصيرة جداً في الوطن العربي، وعلى الرغم من تنوع إنتاجه الثقافي في مجالات النقد الأدبي والتربية وغير ذلك، فقد بقي وفياً لهذا الجنس الأدبي، باذلاً جهداً استثنائياً في التنظير والتطبيق، فأصدر "مقومات القصة القصيرة جداً عند جمال الخضيري"، و"أنطولوجيا القصة القصيرة جداً بالمغرب"، و"من أجل تقنية جديدة لنقد القصة القصيرة جداً"، وغير ذلك.
كما نشر عدد من المواقع الألكترونية نظرية نقدية متكاملة حول القصة القصيرة جداً، أسماها المقاربة الميكروسردية، وقد وضع مقاربته الميكروسردية تلك، ونشرها موقع دروب في بابين رئيسيين ، قبل أن ينشرها في كتابه (القصة القصيرة جداً بين التنظير والتطبيق):
• الأول: أركان القصة القصيرة جداً ومكوناتها الداخلية.
• الثاني: شروط القصة القصيرة جداً وتقنياتها العرضية.
وعلى الرغم من أنّ التقسيم ها هنا مسألة شكلية يراد بها فصل أركان القصة القصيرة جداً عن تقنياتها، فإنّ عنوانا الفصلين يثيران بعض التساؤل عن الفرق بين الأركان والشروط، على الرغم من أنّ الناقد يعطي صفة التكميلية للشروط، فيقول: "ومن هنا، نفهم أن للقصة القصيرة جداً أركانها الأساسية وشروطها التكميلية". في حين أنني أميل إلى تثبيت مصطلح "التقنيات" بدلاً من الشروط، لأن الشروط تدلّ بالضرورة على ما لا يمكن الاستغناء عنه.
فإذا دخلنا إلى مطالعة الفصل الأول من المقاربة الميكروسردية المسمّى "أركان القصة القصيرة جداً ومكوناتها الداخلية" وجدناه مقسوماً إلى ستة مباحث تأتي بعد مقدّمة تعرض مقوّمات القصة القصيرة جداً في التاريخ النقدي العربي والغربي، مشيرة إلى أنّ أحمد جاسم الحسين جعل لها أربعة أركان: هي القصصية والجرأة والوحدة والتكثيف، وأن يوسف حطيني جعل تلك الأركان خمسة هي: الحكائية والتكثيف والوحدة والمفارقة وفعلية الجملة، وأنّ سليم عباسي خلط بين الأركان والتقنيات، وأنّ لبانة مشوّح حصرتها في الحكاية والتكثيف والإدهاش. ثم يستعرض مؤشرات القصة القصيرة جداً وميزاتها ومكوناتها وخصائصها عند لويس بريرا ليناريس وراوول براسكا وبيوليطا روخو وراولوزو زافالا، قبل أن يقدّم لنا مباحثه الستة التي تبرز رؤيته الخاصة لأركان القصة القصيرة جداً، وهذه المباحث هي:
1 ـ المبحث الأول- المعيار الطبوغرافي:
يرى فيه أن الأركان الطبوغرافية "أي ما يتعلّق بتنظيم الصفحة تبييضاً وتسويداً وما تحويه من مؤثرات بصرية وعلامات تشكيلية " يمكن حصرها في ثلاثة مقاييس هي:
ـ مقياس القصر.
ـ مقياس الترقيم.
ـ مقياس التنوع الفضائي.
يقول د. حمداوي عن مقياس القصر:"ينبغي أن تتخذ القصة القصيرة جدا حجما محدودا من الكلمات والجمل، وألا تتعدى مائة كلمة في غالب الأحوال، أي خمسة أسطر على الأقل، وصفحة واحدة على الأكثر لكي لا تتحول إلى أقصوصة أو قصة قصيرة أو رواية بنفسها السردي المسهب والموسع. ويعني هذا أن يحترم الكاتب حجم هذا الفن المستحدث وألا يتعدى نصف صفحة، ويختار الجمل ذات الفواصل القصيرة والجمل البسيطة من حيث البنية التركيبية ذات المحمول الواحد ".
وعلى الرغم من عدم ميلنا إلى التحديد الدقيق لطول النص وقصره، بل للخصائص التي تجعله قصيراً، فإن هذا التحديد يبقى معقولاً بشكل عام.
وعند الحديث عن علامات الترقيم يرى حمداوي أنّ "من أهم مكونات القصة القصيرة جدا الاهتمام بعلامة الترقيم وتطويعها سيميائيا لخدمة أغراض الكاتب ونواياه الإبداعية والتصورية".
أما بالنسبة لمقياس التنوع الفضائي فيرى أنه يمكن أن يصنّف إلى فضاء الجملة الواحدة، والفضاء المسردن، وفضاء القصيدة الشعرية، وفضاء الكتابة الدرامية، والفضاء الشذري أو المتقطّع دون أن يذكر ما يجعل من ذلك التنوع أمراً لازماً.
وإذا كان القصر، بالضرورة، منتجاً من منتجات التكثيف الذي اتفق عليه معظم المنظرين لهذا الفن، فإننا نستبعد أن تكون علامات الترقيم والتنوع الفضائي من ضمن أركان المقياس الطبوغرافي، لأن علامات الترقيم شرط كلّ كتابة، ولا يمكن أن نجعل شروط الكتابة العامة التي لا تعدُّ ولا تحصى من أركان كتابة خاصة، وإلا لاشترطنا أن تستخدم القصص القصيرة جداً أحرفاً وكلمات وجملاً، وجعلنا اجتناب أغلاط النحو والإملاء والأسلوب من شروطها أيضاً. على أننا لا ننفي بحال أهمية علامات الترقيم في تقديم الدلالة، شرط ألا تصبح استعراضية، أو اعتباطية، على نحو ما نرى عند سناء بلحور التي تستثمر النقاط الثلاث المتجاورة بشكل خاص، بشكل نمطي، وتبدو مغرمة في الكثير من قصصها بهذه النقاط، دون أن يكون لذلك أي علاقة بالمحتوى، إلى درجة تجعلها عديمة الجدوى والدلالة، ونشير هنا، تمثيلاً، إلى قصة "ورقة" التي تنتصر فيها الكاتبة للشعرية على حساب الحكائية:
"ورقة بيضاء... مرآةُ مشاعرها الصاخبة...
تثيرها مرآويةُ الروح... يسحرها النقاء...
بيضاء تفضح كل سواد معكّر...
تنكأ الجرح كي يجفّ... كي يستريح... ".
ثم إنّ التنوع الفضائي الذي يقترحه الحمداوي هو شرط جمعي، لا يمكن تطبيقه على نص واحد. فالتنوع شرط ناجم عن التعدد؛ وإذ نشير ها هنا إلى ضرورة الابتعاد عن التكرار في كل إبداع، ونتفق مع الحمداوي على هذا الشرط الذي يجعل مجموعة قصصية ما أكثر نجاحاً، فإننا لا يمكن أن نتفق معه في جعل ذلك التنوع ركناً، لأن الركن شرط النص، وليس شرط النصوص المتعددة.
2 ـ المبحث الثاني- المعيار السردي:
ويستحضر الكاتب في هذا المعيار "الشكلي أو الفني أو الجمالي" للقصة القصيرة جداً سبعة من المقاييس التي يبنى عليها، وهذه المقاييس هي:
ـ مقياس القصصية.
ـ مقياس التركيز.
ـ مقياس التنكير.
ـ مقياس التنكيت والتلغيز.
ـ مقياس الاقتضاب.
ـ مقياس التكثيف.
ـ مقياس الحذف والإضمار.
ففي أثناء عرضه مقياس القصصية يؤكد أنّه "إذا افتقدت القصة القصيرة جدا مقوماتها الحكائية تحولت إلى خاطرة أو مذكرة انطباعية أو نثيرة شعرية " وهذا أمر دقيق جداً؛ لأن فارق الحكاية هو الذي يميّز الجنس السردي عموماً من بقية الأشكال الإبداعية. ويبين الناقد ما يعنيه بخاصية التركيز التي يفترضها مقياساً من مقاييس المعيار السردي فيقول: "نعني بخاصية التركيز أن تنبني القصة القصيرة جدا على الوظائف الأساسية والأفعال النووية مع الاستغناء عن الوظائف الثانوية والأفعال التكميلية الزائدة والأجواء المؤشرة الملحقة والقرائن الظرفية المسهبة ".
أما مقياس التنكير الذي يعني عدم الاعتماد بشكل كبير على دور التسمية في التشخيص، فإنه يشرحه بما يلي: "إذا كانت الكثير من الروايات والقصص القصيرة الواقعية والرومانسية تحمل أسماء علمية محددة بدقة تعبر عن كينونات وذوات إنسانية مرصودة من خلال رؤى فزيولوجية ونفسية واجتماعية وأخلاقية، فإن القصة القصيرة جدا تتخلص من هذه الأسماء الشخوصية العلمية المعرفة؛ فتصبح ذواتا مجهولة نكرة. وبالتالي، تتحول في عصر العولمة إلى كائنات معلبة ومستلبة ومشيأة ومرقمة بدون هوية ولا كينونة وجودية، وتبقى أيضا بدون حمولات إنسانية ".
وفيما يتعلّق بمقياس التنكيت والتلغيز فإن الناقد يعرضه، دون بيان الصفة الجوهرية التي تجعل حضوره حتمياً في القصة القصيرة جداً. فهو يقول: "تتحول مجموعة من القصص القصيرة جدا إلى أحداث ملغزة أو من باب التنكيت والترفيه ليترك المبدع القارئ دائما يتسلح بالبياض لملء الفراغ ". ويمكن لنا أن نستعرض عشرات القصص القصيرة جداً، وربما المئات منها، التي تحقق نجاحاً فنياً ورؤيوياً، دون أن تعتمد على التنكيت والتلغيز. ولنا هنا أن نكتفي بمثال واحد هو قصة ""لون أحمر" للقاص حسن البطران التي تعتمد فى نجاحها على فجائعيتها المعبّرة عن النفاق:
"كعادته يخلع قناعه بعد مغادرة ضيوفه.
يتسامر مع خادمه..يطلي كلماته باللون الأحمر.
خادمه: لماذا أنت معي بلون ومعهم بلون آخر..؟؟
يصمت..
ثم يأمر بتشييع جنازة خادمه ".
ثم ينتقل الناقد للحديث عن مقياس الاقتضاب، مبيناً أهميته في المعيار السردي، فيقول بعد بيان دور الوصف في الرواية والقصة القصيرة جداً: "إن من أهم المكونات الأساسية للقصة القصيرة جدا الاقتضاب في الوصف عن طريق الابتعاد عن الحشو الزائد، وتجنب الاستطرادات الوصفية والتأملات الشاعرية، وتفادي التكرار اللفظي والمعنوي، والتقليل من النعوت والصفات، والابتعاد عن التمطيط في التصوير الوصفي صفحات وصفحات. ومن هنا، فلا بد من عملية الاقتضاب في الوصف تشذيبا وانتقاء، ولابد من الاقتصاد فيه إيجازا واختزالا وتدقيقا ".
ثم يتابع مؤكداً على هذا المقياس بقوله: "وفي هذه الحالة، لا ينبغي للمبدع أن يستخدم في قصصه القصيرة جدا الأوصاف إلا إذا كانت معبرة تخدم السياق القصصي خدمة دلالية وفنية ومقصدية، وألا يتحول الوصف إلى حشو زائد كما نجد ذلك في الكثير من القصص القريبة إلى نفس الرواية والقصة القصيرة ".
فإذا انتقل الأستاذ حمداوي إلى خاصية التكثيف بين أهمية هذا المقياس في المعيار السردي، وهو يعني عنده: "اختزال الأحداث وتلخيصها وتجميعها في أفعال رئيسية وأحداث نووية مركزة بسيطة، والتخلي عن الوظائف الثانوية التكميلية، والابتعاد عن الأوصاف المسهبة أو التمطيط في وصف الأجواء" .
ويختم الأستاذ جميل حمداوي مقاييس المعيار السردي بمقياس الإضمار والحذف، مؤكداً أنهما "من أهم الأركان الجوهرية للقصة القصيرة جدا، وينتجان كما هو معلوم عن طريق وجود نقط الحذف والفراغ الصامت وظاهرة التلغيز ".
فإذا بدأنا من القصصية وجدنا أنفسنا متفقين مع الناقد أنها من أهم أركان القصة القصيرة جداً، إذ لا وجود للقصة القصيرة جداً إذا لم تمتلك تلك القصة حكاية تروى، وتجعلها جديرة بالانتماء إلى السرد، وقد فضّلت في كتابي مصطلح (الحكائية) على مصطلح (القصصية) لأن القصصية تحيل لفظاً على القصة بينما تحيل (الحكائية) على الرواية والقصة القصيرة والقصة القصيرة جداً والمسرحية والدراما وغير ذلك، وهذا هو المقصود بالضبط من وراء استخدام هذا المصطلح. أي أنّ القصة القصيرة جداً لا بدّ لها من (حكاية... حدّوتة...) تستند إلى شخصيات تقوم بأفعال في بيئة محددة.
وفيما يتعلّق بمقياس التركيز والاقتضاب والتكثيف والحذف والإضمار، فإنها تحيل جميعاً إلى ركن من أركان القصة القصيرة جداً كان قد اتفق عليه جميع المنظرين، هو التكثيف، (وإن كان الجزء الثاني من المقياس الأخير ـ نقصد الإضمارـ يحيل على المعيار البلاغي أيضاً).
أما فيما يتعلّق بمقياس التنكير الذي يتناول استثمار اسم العلم، فإنّ هذا المقياس يكاد يصدق على كثير من القصص القصيرة جداً، (من مثل مجموعة "نجيّ ليلتي"لميمون حرش ومجموعات حسن البطران )، غير أن التعميم هنا لا يبدو صحيحاً، لأنّ تسمية الشخصية (وهذا أعلى أشكال التعريف) يمكن أن يسهم في تشخيصها، خاصة إذا تمت الاستعانة باسم العلم التاريخي أو الثقافي، على نحو ما نجد عند مصطفى لغتيري في مجموعة "زخات حارقة" .
ولعلنا نشير هنا إلى نص "غودو ينتظر" لمايا عز الدين عبّارة الذي يشكله وعي ثقافي يؤمن بتطوير المفاهيم البالية، مستثمراً اسم العلم "غودو" الذي يحيل إلى "صموئيل بيكيت"، وإلى رؤية تدين انتظار اللاشيء:
" كان غودو يأتي ويذهب دون أن يروه...أو أنهم لم يتعرفوا عليه. ومرة قال لهم: أنا غودو.. تعالوا معي أيها المنتظرون، ووقف ينتظرهم، لكنّ أحدا لم يعره اهتماما. ظلوا يدورون في دوائرهم اللانهائية العبثية.
تفاجأغودو فهو كان قد سمع كثيراعن انتظار أولئك البائسين والمعذبين له وسمع عن انتظار الأطفال المشردين له وسمع عن انتظار المحبين الذين لا يجدون مكانا للقاء على هذه الأرض إلى أن غادروا معه.
فقال بصوت عال: أنا أتيت لأني قرأت في إحدى مسرحياتكم أنكم تنتظرونني بشدة وحين انصعت لأمانيكم ولبنات أفكاركم وجئت لأخلّصكم لا تردون على ندائي!!
لكنهم كذبوه قائلين :أنت لست غودو. أنت كالراعي الكذّاب ونحن قرأنا هذه القصة ولن نصدقك.
أقسمَ غودو بأنه غودو وإن تأخر بالقدوم ، لكنهم أنكروا قدومه وأقنعوه بأنه وهمٌ لا يستطيع إنقاذ أحدهم ..فاعتمادا على ذات المسرحية التي اعتمد عليها هو لن يأتي وإن أتى لن يروه.
أشاحوا بوجوههم عنه بينما ظل غودو ينتظر الناس جميعاً بعدما كانوا ينتظرونه وحده.
وحين ملّ من الانتظار وشعر بالوحدة والعزلة انضم للناس وانصهر معهم في دوائرهم ."
وإذا كان التكثيف قد خان القاصة في هذه القصة، فإن الحبكة تشهد بقدرة فائقة على إعادة إنتاج الرؤية وتطويرها، من خلال استخدام اسم العلم الثقافي، وتكثيف مدلولاته، واستثمارها على خير وجه، مما يجعل العلمية عاملاً مساعداً في بناء الشخصية في القصة القصيرة جداً.
فإذا انتقلنا إلى مقياس التنكيت والتلغيز لاحظنا أنّ هذين المقياسين يحيلان على المفارقة التي اتفق المنظرون على كونها أساساً من أسس القصة القصيرة جداً، مع التنبيه هنا على أنّ عدم استثمار المبدع لهذا المقياس ـ الذي يعدّه الأستاذ حمداوي ركناً ـ كما ينبغي قد يجعل القصة القصيرة جداً مجرد نكتة، وقد يجعلها أحجية لا تصل مدلولاتها إلى القارئ.

3 ـ المبحث الثالث- معيار القراءة والتقبّل:
لا بدّ قبل مناقشة هذا المعيار من إثارة سؤال يتناول مدى إمكانية أن تُعَدّ استجابة القارئ ركناً مسبقاً من أركان العمل الأدبي، وهل يفكّر المبدع بالقارئ حقاً عندما يكتب، وإذا كان بعض كبار الكتاب الروس يفكرون بالنقاد، وهم ينتجون أعمالهم الإبداعية، فهل يفعل كل المبدعين ذلك، وهل ضرورة استجابة القارئ شرط قديم، أم مستحدث بعد استحداث نظريات القراءة والتلقي على أنقاض المدارس الأدبية الكبرى؟
هذه أسئلة لا تقلل أبداً من شأن أي معيار ينطلق من تصور دور القارئ، غير أننا نقول: إن كثيراً من المبدعين لا يكتبون للقارئ، بل لإحداث توازن داخلي مفقود بينهم وبين العالم الذي يعيشون فيه، أي إنهم يكتبون ليصبح عيشهم أكثر إمكانية وتقبلاً.
نعود ها هنا للمقاييس الثلاثة التي يقترحها د. جميل حمداوي لمعيار القراءة والتقبّل، وهي:
ـ مقياس الاشتباك.
ـ مقياس المفاجأة.
ـ مقياس الإدهاش.
يرى الدكتور جميل أن "أفضل القصص القصيرة جداً تلك القصص التي تشتبك مع قارئها ذهنيا ووجدانيا وحركيا عبر مجموعة من العمليات التفاعلية" مشيراً إلى أنّ كثيراً من القصص القصيرة جداً تعمل "على مفاجأة المتلقي وإثارته فنيا وجماليا ودلاليا، واستفزازه عن طريق الانزياح والصورة الومضة، وإيقاعه في شرك الحيرة والتعجب اندهاشا وإرباكا وسحرا" منتقلاً إلى مقياس الإدهاش، ليَعُدَّ تلك الخاصية"من أهم خاصيات القصة القصيرة جدا الناتجة عن الإضمار والغموض والحذف والتخييل وترك البياضات الفارغة واصطناع لغة المفارقة والعلامات الملتبسة المحيرة التي تساهم في خلخلة ميثاق التلقي وإرباك القارئ على مستوى التلقي وتقبل النص".
ويخيّل للقارئ هنا أن هذه المقاييس (الاشتباك والمفاجأة والإدهاش) متداخلة فيما بينها إلى أبعد حدود التداخل، حتى إن الأستاذ الحمداوي نفسه يرى أن أفضل القصص القصيرة جداً "تلك التي تشتبك مع قارئها ذهنياً ووجدانياً عبر مجموعة من العمليات التفاعلية كالإدهاش والإبهار والإرباك والمفاجأة.... ". وها هنا تشتبك المقاييس بعضها ببعض، ويحيل الاشتباك على المفاجأة والإدهاش، وتمتزج خصائص القصة القصيرة جداً بخصائص القارئ، إذ إن القصة التي "ستشتبك" مع القارئ تشترط قارئاً من طراز محدد، قادراً على "الاشتباك". ثم إنّ المفاجأة والإدهاش نراهما يحيلان على المفارقة التي يمكن أن تضمهما تحت جناحها، بوصفهما وسيلتين من وسائل ترسيخها في النص.
4 ـ المبحث الرابع- المعيار التركيبي:
في البعد التركيبي يعرض الناقد جميل حمداوي الملامح التي تجعل التركيب اللغوي مساعداً في تقديم قصة قصيرة جداً أكثر تركيزاً وسرعة، وأنضج حبكة، فيشير إلى المقاييس التالية:
ـ مقياس الجملة البسيطة.
ـ مقياس الفعلية.
ـ مقياس التراكب.
ـ مقياس التتابع.
ـ مقياس التسريع.
ـ مقياس التناغم الداخلي.
يرى الناقد في أثناء تقديمه لمقياس الجملة البسيطة أنّه "كلما كانت القصة القصيرة جدا مبنية على الجمل البسيطة ذات المحمول الواحد، وابتعدت عن الجمل الطويلة والمركبة ذات المحمولات المتعددة كانت القصة أكثر تركيزاً واقتضاباً واختزالاً وإبهاراً للقارئ وإدهاشاً له "، تاركاً هذا المقياس في حيّز المفاضلة لا في حيّز حتمية الوجود. أمّا في مقياس الأفعال فيرى أنّ "كثيراً من كتاب القصة القصيرة جداً يكثرون من الجمل الفعلية أو الجمل الاسمية التي خبرها جملة فعلية، أو يكثرون من الجمل الرابطية ذات الطاقة الفعلية ".
وفي خلال حديثه عن مقياس التراكب يشيرإلى أنّه "من أهم الظواهر البارزة التي تلفت الانتباه في القصة القصيرة جداً نجد ظاهرة تراكب الجمل وتتابعها في سياق النص من أجل تأزيم العقدة، وخلق التوتر الدرامي عبر تسريع وتيرة الجمل، وركوب بعضها البعض (!!) "
وانطلاقاً من موقف الملاحظة، لا من منطق الحتمية والضرورة، يشير الكاتب إلى مقياس التتابع؛ إذ "يستند الكاتب في تحبيك قصصه القصيرة جدا إلى توظيف إيقاع سردي يتميز بالسرعة والإيجاز وكثرة التعاقب في تسلسل الأحداث وتتابع الأحوال والحالات ".
وفي أثناء حديثه عن مقياس التسريع يشير الحمداوي إلى أن كاتب القصة القصيرة جداً يوظّف إيقاعاً سردياً يمتاز بالسرعة، "وهذا الإيقاع ناتج عن تراكب الجمل وتتابع الأفعال منطقياً وكرونولوجياً، والميل إلى الإيجاز وكثرة التعاقب في تسلسل الأحداث وتتابع الأحوال والحالات ".
ويختم الناقد مقاييس المعيار التركيبي في نظريته بمقياس التناغم الداخلي، فيرى أن القصة القصيرة جداً تنبني "على البناء المحكم والوحدة الموضوعية والعضوية والاتساق والانسجام، وارتباط العنوان بالنص أو ارتباط البداية بالنهاية. ويتم اتساق القصة بمجموعة من الروابط اللغوية الشكلية كأسماء الإشارة والأسماء الموصولة وضمائر الإحالة والاستبدال والحذف والتكرار اللفظي والدوران حول لفظ واحد. كما ينبني الانسجام على مجموعة من العمليات الذهنية كالمعرفة الخلفية والتشابه والسياق العام والخاص والتغريض الموضوعاتي والعنونة والخطاطات والمدونات والسيناريوهات ".
وإذ نسعى ها هنا إلى جمع ما يمكن جمعه في صعيد مشترك، فإننا نشير إلى أنّ مقياس الجملة البسيطة لا يعدّ شرطاً تركيبيا، حتى لو تعلّق الأمر بالقصة القصيرة جداً. ويمكن لعودة سريعة إلى نصوص قصصية قصيرة جداً أن تبعد شبح هذا القيد؛ فالقصة القصيرة جداً تستخدم الشرط والقسم والطلب، وغير ذلك من الجمل المركبة، مثلما تستخدم الجملة في أبسط أشكالها.
وأما مقياسا الفعلية والتسريع، فإن أحدهما يبدو نتيجة للآخر، بمعنى أنّ استخدام الجملة الفعلية، أو الجملة ذات الطاقة الفعلية (كاستثمار الجملة الاسمية إذا كان خبرها جملة فعلية، أو استخدام الصيغ الصرفية ذات الطاقة الفعلية كاسم الفاعل والمفعول ومبالغة اسم الفاعل.... إلخ) يقود بالضرورة إلى تسريع السرد، بينما تؤدي الجمل الاسمية الوصفية إلى بطء السرد .
وفيما يتعلق بالمقاييس الثلاثة المتبقية (التراكب، والتتابع،والتناغم الداخلي) فيمكن إلحاقها، منطقياً، بشروط وحدة النص، ولعلّ هذه المقاييس الثلاثة هي أبرز الإضافات النوعية لنظرية القصة القصيرة جداً برمّتها، لأنّها تدخل في صلب الوحدة النصية التي لم يلتفت نقاد القصة القصيرة جداً إلى تفاصيلها، وكيفية بنائها.

5 - المبحث الخامس- المعيار المعماري:
يرصد الناقد الحمداوي في هذا المبحث عناصر ما أسماه المعيار المعماري، ويتناول فيه ما يمسّ بناء الحدث وأجزاء الحكاية، راصداً ذلك من خلال مقياسين يتفرّعان بدورهما إلى تفريعات نوضحها فيما يلي:
ـ مقياس البداية والجسد والقفلة:
أ ـ البداية القصصية.
ب ـ الجسد القصصي.
ج ـ القفلة القصصية.
ـ مقياس التركيب الحدثي:
أ ـ التركيب الدائري.
ب ـ التركيب السهمي الصاعد.
ج ـ التركيب السهمي الهابط.
ونشير ها هنا أنّ الناقد يقدّم في هذا المبحث ملامح البدايات والنهايات القصصية وتنوعها في القصة القصيرة جداً، بعد أن يذكر السمات التي تجعلها أكثر نجاحاً، فيما يلاحق تنوع أجساد الجسد القصصي، وأنواع التركيب الحدثي. وربما كان من الأفضل أن يكتفى بالسمات التي تحمل سرّ نجاح القصة القصيرة جداً في هذه العناصر، ومن ثم إلحاقها بعنوان الحكائية، لأن الحدث والحبكة (وعناصرهما المكونة) تمكن دراستها جميعاً تحت ذلك العنوان.
6- المبحث السادس- المعيار البلاغي:
لا نشك في حضرة المعيار البلاغي في أنّ الناقد يمكن أن يضع عدداً هائلاً من الاستثمارات البلاغية الناجحة في القصص القصيرة جداً، غير أن المرء حين يتحدّث عن الأركان يجب أن يكون حذراً، وأن يكتفي بما هو واجب الحضور في النص. فإذا تأملنا ما ذكره الحمداوي في هذا المبحث وجدناه يشير إلى ثلاثة مقاييس هي:
ـ مقياس الصورة الومضة.
ـ مقياس المفارقة.
ـ مقياس السخرية.
وإذ يقدّم لنا الناقد د. حمداوي مقياس الصورة الومضة، من منطق إمكانية الاستثمار، لا من منطق الضرورة، فإنه يشير إلى أن تلك الصورة تستند إلى "التوهج والإبهار والإدهاش واللحظات اللامعة المشرقة عن طريق التأرجح بين صور المشابهة وصور المجاورة والصورة الرؤيا ". فيما يبدو أكثر منطقية حين يشير إلى ضرورة المفارقة التي ترتكز على الجمع بين المتناقضات والمتضادات تآلفا واختلافا، مقتبساً من كتابنا أنها "عنصر من العناصر التي لا غنى عنها أبدا، وتعتمد على مبدأ تفريغ الذروة، وخرق المتوقع، ولكنها في الوقت ذاته ليست طرفة، وإذا كانت هذه القصة تضحك المتلقي، في بعض الأحيان، فإنها تسعى إلى تعميق إحساسه بالناس والأشياء ".
وإذ ينتقل إلى السخرية فإنه يعبّر عنها من منطق الضرورة، فهي في رأيه "من أهم المكونات الجوهرية للقصة القصيرة جدا، وذلك من خلال عمليات الإضحاك والكروتيسك والتشويه الامتساخي والتعرية الكاريكاتورية والنقد الفكاهي والهجاء اللاذع ".
ونجد أنفسنا ها هنا مختلفين مع الحمداوي في جدارة انتماء هذه المقاييس إلى الأركان، إذ إنّ المقياسين الأول والأخير يمكن الاستغناء عنهما في القصة القصيرة جداً، فثمة قصص قصيرة جداً تحقق نجاحاً دون أن تتكئ على أي منهما، فالصورة في رأينا ليست ضرورة، ولكنها متَّكأ يرفع سوية اللغة والدلالة، والسخرية ليست شرطاً أيضاً، غير أن توظيفها، بشكل غير مسفّ، يمكن أن يعمق الإحساس بدلالة النص ورؤيته. وربما كان الأفضل أن يضافا (ضمن المنهجية الميكروسردية) إلى المبحث البلاغي في الفصل اللاحق الذي يتناول التقنيات.
وثمة كثير من القصص التي تنجح في تقديم مقولتها ورؤيتها، دون الاعتماد على أي من هذين الركنين، ونشير هنا إلى قصة "أرزاق" لشريف عابدين التي تنأى بلغتها، مثل معظم قصصه القصيرة جداً، عن التصوير والسخرية، دون أن تفقد ألق نجاحها:
"بحجة الحفاظ على الزهور، سمح الحاكم للشعب بالتنزه فقط أيام العطلات.
اصطفّ الناس في طوابير طويلة عند أبواب الحدائق.
باع الفقراء أماكن أدوارهم للعشاق، واشتروا بقيمتها خبزاً ".
أما فيما يتعلّق بمقياس المفارقة، فلا نشك، ولم نشك سابقاً، في أن وجوده عنصر لازم، لإنجاح أي قصة قصيرة جداً.
* * *
في الفصل الثاني من المقاربة الميكرو سردية يقدّم الناقد جميل الحمداوي رؤيته للشروط التكميلية والتقنيات العرضية. ونحن إذ نجد تعبير الشروط، كما أسلفنا في البداية، غير مناسب، فإننا نتفق مع الأستاذ الناقد في كل ما أورده في هذا الفصل من تقنيات، فقد أشار في المعيار المناصي إلى: مقياس العنونة، وقياس الانفتاح التجنيسي، وأشار في المعيار التفاعلي إلى مقياس التناص، وأكد في المعيار البلاغي على أهمية الأنسنة والترميز والانزياح والفانطاستيك والإيحاء والغموض (بمعناه الإيجابي) والتجريد، فيما لفت النظر في معيار التخطيب إلى تنويع الأساليب السردية، والتبئير السردي والالتفات، وانتهى في المعيار الدلالي إلى الإفادة من الجرأة واستثمار التشخيص بأنواعه.
ويمكن ها هنا أن نضيف (وقد أضاف بعض النقاد فعلاً) عدداً آخر من التقنيات التي يمكن استثمارها على مدى التاريخ القصير لتطور القصة القصيرة جداً، من مثل الطرافة والجدة والابتكار والإيقاع واستثمار الألوان وغير ذلك من التقنيات التي قد يقترحها المبدعون من خلال قصصهم القصيرة جداً.

محاولة تركيب:
يبدو لي أنّ أكثر ما يبدو غريباً في المقاربة الميكروسردية للقصة القصيرة جداً عند الحمداوي أنها تستمد قوّتها من تفاصيلها الكثيرة التي تثير في الوقت ذاته كثيراً من الإرباك، وكثيراً من الصعوبة في تصور الإطار العام والأطر التفصيلية لعناصرها. وهذا ما يجعلها أكثر جدوى في التطبيق العملي، وقد راجعت كثيراً من النصوص النقدية التي قدّمها الناقد حول تجارب مغربية في هذا الجنس الأدبي البديع، فلاحظت مدى توفيقه في تقصي ملامح القص عند المبدعين، استناداً إلى تفاصيل تلك المقاربة.
ولعلّ هذا عائد إلى أن مقاربة النص الأدبي تركّز عادة على تقنيات القص التي تجعل من النص جميلاً، أكثر من تركيزها على أركان تجعل النص ينتمي إلى الجنس الادبي ويحقق شروطه.
إن العرض النظري المتعلّق بالأركان و"الشروط التكميلية"، كما عرضها الناقد، بدا لي مفصّلاً أكثر مما بنبغي، وربما كان حذف بعض التكرارات (أو المتقاربات)، وتفريع بعض المباحث على مباحث أخرى ذات علاقة وثيقة بها تجعل الأمر أكثر منطقية واستيعاباً وفائدة.
إنني هنا، على الرغم من الملاحظات التي أبديتها في خلال مناقشة المقاربة، أميل إلى الإفادة مما أنجزه الناقد، عبر إشارات حصيفة مهمة، لتطعيم أركان القصة القصيرة جداً بفروع جديدة، كأن يتم تعليق شروط مكونات الحكاية على شجرة الحكائية، وإلحاق العناصر التي تشكّل تناغم النص بوحدته الموضوعية وهكذا.. من أجل أن يستمر بناء الصرح النقدي والإبداعي لهذا الجنس السردي الجميل.

الاثنين، 7 أبريل 2014

في شعرية التحوّلات.. محمد بن جلول، من طين وماء.. PDF طباعة إرسال إلى صديق
الاثنين, 07 أبريل 2014 18:20
لا يمكن لقارئ شارد كما محمد بن جلول أن يتصوّر الشاعر محمد بن جلّول ضمن القائمة الطويلة من المدعوّين إلى مأدبة البلاغات المبلّلة ببرودة الأصباح.. مثلما أنه لا يبدو ممن يسافرون بعيدا في اكتشاف ما اكتشفه غيرهم متخذين من اللغة طريقا معبّدة ببصمات من مرّوا بها قبلهم، فيسقطون بالضرورة في ما تفاخرت به العرب من وقوع الحافر على الحافر.
حيثما تعتقد أن الشعر سيبدأ يكون محمد بن جلول قد انتهى من الشعر في كتابة هي أشبه بالطلقة الواحدة ذات الوجه الصامت ظاهرا، والمدوّي باطنا بما يطلقه النص من فكرة لا تصيب بعد التصويب غير بؤرة الذات المخشوشن جلدُها من كثرة ما تعوّدت عليه من حكٍّ بأظافر البلاغات القديمة المتكلسة طبقاتٍ طبقاتٍ بين مسامّاته التي يربض فيها الشعراء كأنهم ينتظرون إدراجهم في بياض كتاب شبيهٍ بمجلد الحالة المدنية حيث تتكدس المواليد والوفيّات في تتابع نصوصيّ زاخر بالأمثلة الشعرية المتشابهة التي تذكرنا بـ«طبقات فحول الشّعراء” وهم ينجون الواحد تلو الآخر من مِصْفاةِ القائمة الطويلة لعلهم يفوزون بنظرة عابرة من ابن سلام الجمحي، أو بما استطاع أن يرسخه ابن قتيبة من أسماء مفتاحيّة دالة على ما لم يُرِدْ الشعر أن يُدرِجَه ضمن القائمة الطويلة لكتاب “الشعر والشعراء”:
-2-
في مجموعته الأولى “أوجاع باردة”، كما في مجموعته الثانية المخطوطة التي كان لي شرف قراءتها، كما في ما تزخر به صفحته الفايسبوكية من رؤى شعرية هي من الغرابة بمكان بالنظر إلى “ما يُكتب”، لا ينفك الشاعر محمد بن جلّول يمرّ مرور الكرام على رواد القائمة الطويلة الذين يريدون الالتحاق بمعجم البابطين أو غيره من المعاجم الحديثة التي تفتقد إلى رؤية تأسيسية كالتي حاول ابن سلام الجمحي أو عبد الله بن قتيبة أن يطرحاها عن قناعة في ما أنجزاه بناءً على تصوّر نابع من رؤية نقدية حتى ولو كانت منطلقةً من مُسبقات جمالية تعكس ذوق اللحظة،.. أقول.. يحاول محمد بن جلول أن يمرّ مرور الكرام من دون أن يترك أثر صدى جارح لنسمة ريح خفيّة في الصورة التي يراها ويلتقطها بدقة متعالية، ثم يذهب بها إلى مختبر الحياة/ مخبر اللغة، حيث لا تنطلي الكلمة إلا على ما تحمله من قدْرِ فكرةٍ لا يتجاوز أحدهما الآخر كأنما جسدٌ وروحٌ، كأنما مبنى ومعنى لا يتعدى أحدهما نفسَه التي أصْبَحَتْهُ لكثرة ما يحاول الشاعر أن يضع للفكرة كلمتها وللكلمة فكرتها دونما إمكانية للاختيار بينها وبين غيرها لأن هذه الإمكانية تصبح معدومة بالنظر إلى مناداة اللغة للفكرة حتى كأنها هي:
الغيوم التي شربتْ دخان شارعنا الطويل، ذاتها الني بلّلت تلويحتي بالضّجيج
وعلى طريقة متسلّق الجبال الرّهيف الواثق، لا يمكن أن يكون لمحمد بن جلول وهو ينظر إلى قمّة الجبل الشعري- وليس إلى ما يترك تحته من هوّة سحيقة، إلا احتمال واحد يجب ألا يخطئه. ولذلك فهو يصوّب بدقة متناهية لكي لا تخطئ الكلمة موضع المعنى المغروز في أمكنة روحية شائكة تصيب بالغثيان من يراها على حقيقتها وهي تروم ما يحمله الاحتمال من حقيقة تصيب عادة هدفها، فيُخيّل إلى القارئ أنّ ثمّة تحالفا طبيعيّا بين الشاعر والصعوبة لا يلتقيان إلا على اتحاد اللغة بمعناها في أعالي ما يحمله الجبل الشعريّ من غبار ليس غير هذه الطّين الليّنة، ومن غيم ليس غير هذا الماء السّائغ:
اللّيل هو الآخر عاشقٌ متشرّدٌ ، أقاسمهُ لفافتي، أحملُ عنهُ كلّ أشيائه العليلةِ، حتى القديمة منها
والتي لم يعد يتذكرها.
تسلّقٌ غريبٌ وواعٍ في مجازفته بما يمكن أن يلحق الروح من غربة في فضاءات التواجد المتشابهة حيث تنفرغ الحياة من حياتها ولا يبقى في خضم المكان غير سطوة هذا الليل صورةً دامسة لشاعر يحاول أن ينير العتمة بما يحمله من كلمات كأنها تحاول عجن الأشياء بطريقة شرهة ثمّ تحاول إعادة تشكيلها وفق ما يمكن أن تنتجه من نور لا يستنير به غير الشاعر:
أحكُّ صدأ هاتفي بماء كأسٍ بائتة، أملاً في أن تطلعَ أرجلي، أيّها الحبّ.
-3-
حيثما تنتهي البلاغة، يبدأ الشعر فارغا عند محمد بن جلول من كل مُمْتلآته، وممتلئا بكلّ فراغاته التي تتصدى لما لا يمكن أن يقف في وجهها من تواشيح لا تتناسب مع فجأة النص، وحبكة معناه، وخياطة لغته على مقاس الفكرة لا أكثر ولا أقل، لا زيادة ولا نقصان، كأن محمد بن جلّول يمارس نوعًا من الخياطة الراقية التي تكره الإضافة، ولا تأتمن للنقصان أصلا، لأنها تتسلّى بتقليم ما يمكن أن يجنح فجأة من لغة فائضة تُخرج المعنى عن ينبوع ما كان يريد البقاء فيه في غفلة عن العالم، وفي غفوة من نفسه، وتخرج النص عن أصله الذي كان فيه بادئ الأمر حيث اللغة والفكرة طلقة واحدة، وتُخرج الفكرة عن مساراها الذي مؤدّاها إليه لا إلى غيره.
النص لعبة أطفال جميلة يتلهى بها الشاعر بشغف كبير كأنه يكتشف العالم البريء كما لو كان مرآة عاكسة للغته كما تسربت من مكامنها الباطنة فاستدرجها لتشاركه لعبة القبض على العالم المتستر خلسة بين ثنايا الحروف:
ما الذي أبقيتهِ لي فأرميهِ كي يبتعد عنّي كلبكِ،
أكاد أكون عارياً
حتى من عظامي.
نوعٌ من التباهي بما لا يمكن أن يصل إليه إلا هو في هذا المزيج الرائق من الطين والماء. كأنهما كانا فعلا سببيْ حياةٍ وأداتيْ خلق، وكأنهما هذا الجرْم الصغير الذي انطوى فيه العالم الأكبر، عالم الأشياء المكنوزة في دُرج المعنى المؤثث ببهاءات القول، وبكيمياء الصبر على الوقوف على قارعة الوجود من أجل ترصّد لحظة الشعر الفارقة، لحظة أن يتهيأ الشعر لصاحبه كما تتهيأ العروس لليلة زفافها.
وإذا كان العالمُ، كلُّ العالم، بما فيه من مخلوقات متعددة هي مصدر التخييل ومُلهم الشعرية، وُلِد ولا يزال يُولد من ماء وطين كعادة الخلق يتجدّد بأشكال مختلفة ولا يتكرّر في لبوس واحد، فلماذا لا يولد الشعر من ماء وطين هو كذلك؟ ألم يكن الشّعر طفرة زيّوسيّة سرعان ما تكفّل بها برموثيوس، وهي التي مكّنته من الاهتداء إلى سرقة النّار من مدوّنة الأسر العليا؟ ألم يكن الشّعر ماءً أصلا؟ ألم تقل العرب لمن لا ماء في بيت شعره، وهي تسترق السمع من بني عمومتها في سوق عكاظ التي لم ينفضّ سوقها إلى اليوم: “هذا بيت ليس فيه ماء؟ ماء الحياة إذاً.. وهو يبحث عن طينة المعنى النّابض بالوقت الراغب في الخروج إلى الدنيا من فم لا تختلف كثيرا عن خليّة دماغ مرهقة من كثرة تأملها في سماء الوجود الطافحة بالأنجم التي ترتوي من النبع، حيث مقتل الشّعراء. ثم ما حال الطين وهي تتحوّل تحت وطأة اللغة إلى مخلوقات مولعة بكاريزما الوجود، ثم سرعان ما تطير على جبال متفرقة فيصير بعضها طيورا غاية في الدهشة والبهاء تُسرُّ في أذن القارئ كأنها ذات لحن هو من الغرابة بحيث لا نكاد نجد له شبيها.
هذه الطيور الحاملة أشكالَ الطيور كما النصوص الحاملة أشكال النصوص ولكنها ليست مثلها، لا في شكلها، ولا في بنائها، ولا في مقاربتها للعالم الشعري كما يريد أن يفرض نفسه على القارئ، على الأقل في الجزائر حيث تربض التصورات اللغوية، واليقينيّات الإيقاعيّة، والوثوقيات البلاغيّة التي لا تريد الخروج من قمقم الجاهز والمستهلك والمكرّر، كأنّما حرَنٌ يلفّ أوصال خطوتها الجمالية المتثائبة نعاسًا ثقيلا وهي في الطّريق إلى بيت الشّعر حيث تزخر الكلمة باحتمالات هندسية لا شبيه لها في واقع الممارسة الشعرية كما تحاول المدونة الشعرية الجزائرية أن تتمظهر بها تمظهرا جاهزا ومكرورا هو الآخر.
-4-
تبدو الكتابة عند محمد بن جلول وكأنها قُوتٌ ضروريّ للحياة، حياته هو كما يراها هو، لا يحتاج فيه الشاعر ولا القارئ، إلى دسامة البلاغات المستهلكة وهي تؤرق بشحومها جسد القصيدة الغض، وترخي سدولها كما ليل شقيّ على الكوّة المظلمة التي يطل منها الشاعر والقارئ على ملذّات ما تقدمه له الشعرية الجزائرية المعاصرة من أطباق أصبحت مقاييسُ إنجازها معروفة لدى العام والخاص.. كذا عدد من الكلمات -كذا ملعقة من غبار التخييل- كذا حبّات جافّة من مواضيع الساعة. يخلط الكلّ لمدّة معيّنة في خلاّطة الذات المهيّأة مسبقا لتلقّي أطباق القول بمعياريّة المقادير المحدّدة، فيخرج النص إلى الوجود طبقا محترقا تماما كما الذوات الشعرية المحترقة بما تحاول طهيه يوميا أمام أعين القارئ المتعود على بداهة الكتابة التقليدية التي تتلبس بلبوس الأشكال الأكثر حداثة وكأن الأشكال، بما فيها البلاغات التي هي جزء لا يتجزّأ منها، هي المنقذ الوحيد من السقوط في المكرور، وكأنه اللبوس الوحيد الممكن القادر على ستر عورة النص من فراغاته التائقة إلى المعنى من دون الفوز به. غير أن العملية تبدو مقلوبة تماما عند محمد بن جلّول، حيث يبدو ما هو صعب المنال في خضم الشعرية الجزائرية المتشابهة، سهلاً على الشاعر وكأنه ساحر يُخْرِجُ من قلّة ما يتهيّأ له من كلمات الكثيرَ من الحِيَلِ المدهشة التي لا يمكن أن تخطر ببال قارئ، وذلك على الرغم ممّا يكتشفه القارئ في النهاية من فكرة ليس له إلا أن يقابلها بقوله: غريب.. كيف فاتتني هذه؟ كيف لم أنتبه إليها؟:
تضيقُ الغرفة بي كبدلةٍ قديمةٍ، وحذائي النّائم مثل سلحفاةٍ، مقلوبٌ على ظهرهِ.
هكذا يصبح الاشتغال على ما يؤرق وجود الشاعر من أشياء بسيطة مرتبطة بالحياة في سذاجة ما تقترحه علينا من أفكار عميقة لا ننتبه إليها، رؤيةً غزيرةً بما تحمله من ماءِ حياةٍ ربما غرق فيه من لم يعرف استعماله بهذه الدقة المتناهية التي نراها عن محمد بن جلّول وهو يتخلّى بكلّ جرأة عن البلاغات، عن كلّ البلاغات القديمة والجديدة، محاولا أن يُعيد كتابة القصيدة من طين وماء.. فقط من طين وماء.
عبد القادر رابحي




الأحد، 6 أبريل 2014








اعتذار لليلى العربية

الشاعر : علي قوادري – الجزائر

ليْلى وتعْتَذِرُ القوافي في شجا
ماالشِّعْرُ دونكِ والهوى إلاَّ دجى
جئناكِ يا بنْتَ القصائد والرؤى
جئناك قافلةً تُلَوّحُ بالرَّجا
عُذْرا ديارَ العُرْبِ ليْلى تَشْتَكي
أيْن الصريع صهيله ماعرَّجا؟
أين الجوى.. غزلُ الحبيبِ وسيفه
أين النفير ال كان فينا منْهجا؟
صرْنا وصار الذل ُّفينا جاثما
جئناك والخجل المُدارى قدْ سجى
فلتغفري ليلى لمنْ يومًْا سلا
ولتفرشي هُدُبَ المدائن هوْدجا

الأحد 6 – 4 - 2014



أرملة الحي

image

في الليل أرق وحرف حكاية يراودني ..لجلسات الليل طقوسها,  أحاور طلاسم الدجى في صمت وأتوسد بساتين كتبي ولكن عندما يشتد الأرق ويتكرر يحولني برزخ الملل والتأمل إلى شريد أو غريب دون هوية يبحث عن وطن داخل الوطن وعن ومضة تشع من هذا السياج المعتق بنسيم ألفته صغيرا وصاحبته وأنا يافع.. 
منذ ليالي الأرق التي حاصرتني وطوقتني وحيدا شدَّ انتباهي ظل يتسلل كل ليلة ..لمحته وأنا أراقب اللاشيء واللامكان عبر شرفتي المشرعة نحو عوالم التأمل والتبتل في محراب الأشياء والأصوات السابحة.. ظل طيف يلبس السواد ويتماهى يخترق الصمت عبر السواد..بادئ الأمر حسبته أضغاث أحلام ولكن بعد تكرار الأمر تجلى لي أن ذاك الظل العاشق للظلام يبدو حقيقة..تناوشتني الوساوس فحيُّنا هادئ وما عكر صفو هدوئه غير ابن جارنا محمود ولكنه الآن في السجن يقضي عقوبة.. حَيُّنا الواقع بالجهة الشرقية من المدينة متجانس وأهله متدينون وطيبون جدا -هل يكون لصا؟!! لا يمكن ربما أنت تتخيل فقط أجابني صديق وأكد لي أن هذا من بنياتي مخيلتي لفرط ما قرأت من روايات عالمية وأدمنت أحداثها وصاحبت شخوصها..صدقته دون شكوك فقد حدث معي الأمر سابقا.. الخيال ما نحسه وما يتوحد مع أفكارنا أحيانا وأرقنا ومللنا وليس كل ما نحسه خيالا فالمشهد تكرر مرات حتى قررت الانعتاق ..نزلت هذه المرة في هدوء مختبئا وراء شجرة دردار كبيرة فإذا بالطيف يحمل كيسا ويتسلل إلى منزل في آخر الشارع.. عدت تنتابني رجفة وصدمة رهيبة و بي رغبة بالبكاء والصراخ أو أن أحطم أصنام المبادئ كلها..يعيش بعض الناس في النهار بقناع وفي الليل بآخر..كدت أجهر لصديقي بما رأيت وبما اكتشفت عن ذلك البيت العفيف الذي يضرب به المثل…لم نر النوافذ تُفْتح يوما ولم نلمح طيف ساكنته. -كيف خدعتنا كل هذي السنين؟ أذكر جيدا حديث الجميع الذي صدقناه في غباء . .يا لها من شريفة .. -مذ ترملت لم تقبل أبا لأبنائها.. لعل السؤال الذي كان بلا جواب وحيرني كثيرا بات واضحا -الآن عرفت كيف تعيش هذه….. كيف سيستقبل سكان الحي الخبر وكيف لي أن أخبرهم أو أصدمهم؟؟؟؟!! كان علي أن أتأكد أولا ومن بعدها أفضحها في ثقة..اختبأت في نفس المكان وإذا بالطيف يدخل في حذر..الآن بات الوهم حقيقة.. تقاذفتني الأفكار وأنا أبحث عن الطريقة المثلى في إخبار أهل حينا.. -طيبون وكرماء وعنوانهم العفة والشرف والتدين..ومغفلون أيضا.. هاهي تخونهم تلك التي تربت في بيت العفة والطهر ..كان والدها شهما وكريما وكذلك عاش زوجها.. -كيف ترضى لنفسها هذا الذل ؟وكيف تدنس شرفهما؟ الفضول وجه آخر يطيل من أزمتي وصوت جديد يرعد في رأسي -من يكون هذا الخائن؟ أهو من عندنا أم من خارج الحي؟ عزمت أمري غير آبه بتعبي وبتجاذبات الأفكار أن أنهي اللغز وانتظر هذا الفاسق الخائن والمدنس لرجولة حينا ولشرف رجالنا.. وقفت عند أول الحي بالقرب من مكان القمامة حيث يرمي أهل الحي قماماتهم ..عند الانتظار شد انتباهي بعض الكلاب التي فرت لتوها وبعض القطط وهي تتعارك على بقايا الطعام..للقمامة لغتها وحديثها الذي يفضح البيوت ويكشف مستوى معيشتهم..أعجبني هذا لأني فرحت فأهلنا حسب ما وشوشت لي به قمامتهم مستواهم المعيشي مميز ولكن انتابني نوع من الأسف للتبذير الكبير.. انتشلتني خطوات قريبة وهروب القطط من جواري..رأيت الطيف يقترب ملتفتا في حذر..أحسست بالزهو وأنا أتلذذ بالنظر إليه مقتربا -سأصطادك..يا عار حيِّنا وأمحوك. لا أنكر أني خفت وأنا أرى الطيف يقترب متجها نحوي..اختبأت مُنْزِلا رأسي قليلا وساعدني انطفاء مصباح الإنارة فمن عادته أن ينير لدقائق وينطفئ لدقائق.. قررت أن أتبعه حتى البيت الملعون.. توقَفَتْ أو زادَتْ نبضات قلبي لم أحدد شيئا لذهولي وأنا أتابع الطيف وسط القمامة يحمل بقايا الخضر والخبز والملابس بسرعة ورشاقة ويضعها داخل الكيس الكبير.. -يا له من لعين نتن يخدعها بما يحمل من القمامة..أتفوه. سمعني كلب غير بعيد فقفز..نهضت من مكاني..استعاد المصباح نوره.. التفت الطيف..سقط القناع تناثر شعر أسود و طويل على الكتفين وواجهني وجه جميل ومتعب وخائف..وإذا بغريمي لم تكن غير جارتنا أرملة الحي..

السبت، 5 أبريل 2014




[الشاعر الكبير د. سمير العمري;

قِفْ فَوقَ نَاصِيَةِ الشّمُوخِ جَلالا=وَدَعِ الخُنُوعَ لِمَنْ عَدُوَّكَ وَالَى
وَارْفَعْ بِمَعْرَكَةِ الصُّمُودِ قَضِيَّةً=فِيهَا تَصُونُ الأَرْضَ وَالأَجْيَالا
يَا أَيُّهَا الشَّعْبُ الأَبِيُّ بِمَوطِنٍ=يَلِدُ الرِّجَالَ وَيَضْرِبُ الأَمْثَالا
هَامَاتُ فَخْرِكَ فِي مَوَاقِفِ عِزَّةٍ=هَالاتُ بَدْرٍ فِي الدُّجَى يَتَلالا
وَعُيُونُ فَجْرِكَ فِي الوجُودِ تَحَدَّثَتْ=بِيَقِينِ نَصْرِكَ أَنَّ رَبَّكَ قَالا
يَا شَعْبَ غَزَّةَ يَا صَنَادِيدَ الوَغَى=عِشْتُمْ بِفَخْرٍ فِي الوَرَى أَبْطَالا
يَا شَعْبَ غَزَّةَ أَيُّهَا الأَسَدُ الذِي=جَعَلَ العَرِينَ عَلَى الكِلابِ مُحَالا
لَمَّا رَأَوا فِيكَ الإِبَاءَ وَأَفْلَسُوا=شَدُّوا القُيُودَ وَأَحْكَمُوا الأَغْلالا
وَرَموكَ بِالحِقْدِ الضَّرِيرِ نِكَايَةً=مَا لَو رَمَوا جَبَلا بِهِ لانْهَالا
جَعَلُوا الحِصَارَ للانْتِصَارِ وَمَا دَروا=أَنَّ السَّلاسِلَ تُوغِرُ الرِّئْبَالا
وَبِأَنَّ كَفَّ القَهْرِ حِينَ تَجَبَّرَتْ=فَتَلَتْ مِن الغَيظِ الهَوَاءَ حِبَالا
اصْبرْ عَلَى شَرْقِ الحِصَارِ وَغَرْبِهِ=فَغَدًا تَرَى عِزَّ الحَيَاةِ مَآلا
كُنْ كَالسَّحَابِ مَتَى التَقَى الرِّيحَ ارْتَقَى=وَمَتَى أَقَلَّ المُثْقَلاتِ أَقَالا
لا يَقْتُلُ الجُوعُ الرِّجَالَ وَإِنَّمَا=ذُلُّ السُّؤَالِ وَجَرُّهُمْ أَذَيَالا
وَالمَوتُ فِي الفَلَوَاتِ خَيرٌ مَورِدًا=لِلحُرِّ مِنْ شُرْبِ الهَوَانِ زُلالا
كَمْ ذَاقَ عُسْرَ الحَالِ قَبْلَكَ أُمَّةٌ=عَرَكُوا الكُرُوبَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا
وَاذْكُرْ إِذِ ابْتُلِيَ النَّبِيُّ وَصَحْبُهُ=فِي شِعْبِ مَكَّةَ بِالحِصَارِ فَطَالا
صَبَرُوا عَلى البَأْسَاءِ وَاحتَسَبُوا الرِّضَا=حَتَّى تَأَذَّنَ رَبُّهُمْ فَأَنَالا
هِيَ هَكَذَا سُنَنُ الحَيَاةِ تُذِيقُ مِنْ=نُوَبِ الزَّمَانِ لِتَصْقُلَ الأَجْيَالا
وَاللهُ بِالتَّمْحِيصِ يُوقِظُ أَنْفُسًا=غَفَلَتْ وَيَرْدَعُ أَنْفُسًا تَتَعَالَى
يَا شَعْبَ غَزَّةَ لَسْتَ وَحْدَكَ إِنَّ مَنْ=يَرِدِ الهُدَى يَجِدِ الأَمَاجِدَ آلا
وَإِلَيكَ يَا بنَ الضَّفَّةِ النَّفْسُ ارْتَقَتْ=يَا مَنْ تَجَشَّمْتَ الهُمُومَ ثِقَالا
فَعِدَاءُ مَنْ سَفَكَ الدِّمَاءَ جَهَالَةً=وَعِدَاءُ مَنْ سَلَكَ الرَّشَادَ ضَلالا
مِنْ عُصْبَةٍ رَكِبَتْ خِيَانَةَ شَعْبِهَا=فِي هَوْدَجٍ قَدْ أَدْمَنَ التِّرْحَالا
عَبَسَتْ وَقَرَّعَتِ القَضِيَّةَ وَامْتَرَتْ=حَتَّى إِذَا دَحَلَتْ حَصَتْ أَمْوَالا
وَاسْتَكْبَرَتْ عَنْ نُصْحِ مَنْ نَصَحُوا فَمَا=تَرَكَتْ لأَسبَابِ الصَّلاحِ مَجَالا
إِنْ كَانَ صُلْحُ الأَهْلِ بَاتَ مُحَرَّمًا=فَعَلامَ بَاتَ مَع العَدُوِّ حَلالا
وَإِلامَ يُغْضِي المُرْجِفُونَ وَقَدْ رَأَوا=مَا أَوْرَثَ الأَوجَاعَ وَالأَوجَالا
كَمْ حَاذِقٍ مِنهُمْ أَثَابَ إِلى النُّهَى=زَعْمَ الصَّوَابِ فَزَادَهُنَّ خَبَالا
وَالصَابُ مَهْمَا طَابَ صَابٌ وَالخَنَا=يَرِثُ الخَنَا وَالضَّالُ يُنْبِتُ ضَالا
يَا شَعبُ كَيفَ وَأَنْتَ مَنْ صَنَعَ العُلا=أَلقَى عُقُولَكَ تَتْبَعُ البِلبَالا
أَحْفَادَ خَالِدَ هَلْ بَوَارِقُ حِكْمَةٍ=أَنْ كُنْتُمُ الآسَادَ وَالأَشْبَالا
وَهَلِ احْتِمَالُكُمُ الخُطُوبَ كَلالَةً=عَبَثٌ يُقِيمُ مِنَ الوِهَادِ جِبَالا
مَا أَنْتُمُ إِلا خِلافَةُ أُمَّةٍ=وَالآخَرُونَ خَوَالِفٌ وَكَسَالَى
كَمْ قَائِدٍ فِيهُمْ أَذَلَّ جَبِينَهُ=وَالطِّفْلُ فِيكُمْ يَأْنَفُ الإِذْلالا
وَلَكَمْ ضَرَبْتُمْ فِي العَدُوِّ بِقُوَّةٍ=حَتَّى احْتَذَوا فَيضَ الدِّمَاءِ نِعَالا
وَتَحَدَّثَتْ تِلكَ الفِعَالُ فَأَلْجَمَتْ=مَنْ قَالَ إِنَّا لا نُطِيقُ قِتَالا
يَا شَعْبُ إِنَّ المَوتَ أَكْرَمُ مَوئِلا=مِنْ أَنْ تُجَرَّعَ بِالأَسَى الأَوشَالا
لا يَسْتَوِي صَقْرٌ يَطِيرُ إِلَى العُلا=وَغُرَابُ بَينٍ يَنْعَقُ الإِمْحَالا
أَو يَسْتَوِي فِعْلُ المُبَادِرِ بِالأَذَى=وَفِعَالُ مَنْ رَدَّ الأَذَى إِمْهَالا
وَلَقَدْ يُحَدِّثُ بِالسَّلامِ مَنِ افْتَرَى=حَتَّى يُظَنَّ بِأَنَّ عُسْرَكَ زَالا
يُعْطِي لإِرْهَابِ العَدُوِّ مُبَرِّرًا=وَيُدِيلُ مِنْ دَالِ التَّدَلُّلِ ذَالا
وَيَرُدَّ مَظْلَمَةَ الضَّحِيَّةِ أَنَّهَا=تُعْطِي الذَرَائِعَ تِلكَ كَي يَغْتَالا
فَسَلِ الحَوَادِثَ لا أَبَا لَكَ عَنْهُمُ=تُخْبِرْكَ أَنَّكَ تَمْدَحُ الأَرْذَالا
وَبِأَنَّهُمْ أَدْنَى الخَلائِقِ ذِمَّةً=وَلَهُمْ صُدُورٌ بِالشُّرُورِ حُبَالَى
وَمَتَى تَأَبَّطَتِ القَوَاصِفُ حِقْدَهُمْ=تَرَكُوا الأَيَامَى الصَّابِرَاتِ ثكَالَى
يَا شَعْبُ لا عَيشٌ يَطِيبُ عَلَى القَذَى= فَاسْلُكْ سَبِيلَكَ لِلحَيَاةِ نِضَالا
هَلا اتَّخَذْتَ سِوَى الكَرَامَةِ مُقْلَةً=وَسِوَى السُّيُوفِ البَاتِرَاتِ مَقَالا
مَنْ لِلحُسَامِ الحُرِّ يَحْمِلُهُ إِذَا=هَجَمَ الحِمَامُ عَلَى الكِرَامِ وَغَالا
النَّارُ ضِدُّ النَّارِ وَالدَّمُ بِالدِّمَا=وَالدَّارُ بِالمِغْوَارِ أَكْرَمُ حَالا
وَكَتَائِبُ الثُّوَّارِ تَقْطَعُ أَمْرَهَا=بِعَزِيمَةِ الأَحْرَارِ لا مَنْ مَالا
فَإِذا انْتَضَى أَمْرَ الرِّجَالِ مُخَنَّثٌ=أَرْخَى الحِجَالَ وَأَلبَسَ الخَلْخَالا
وَإِذَا تَوَلَّى الأَمْرَ فِيهِمْ فَارِسٌ=رِكَبَ السُّرُوجَ وَأَسْبَلَ السِّرْبَالا
مِنْ كُلِّ مُبْتَدِرِ المَنُون مُحَجَّلٍ=جَعَلَ المَمَاتَ إِلَى الحَيَاةِ وصَالا
وَغَضَنْفَرٍ فِي الحَادِثَاتِ زَئِيرُهُ=وَبْلٌ يَصُبُّ عَلَى العَدُوِّ وَبَالا
يَشْتَدُّ مِنْ بَأسِ الكُرُوبِ صَلابَةً=وَيَزِيدُهُ حَدْمُ الوَغَى اسْتِبْسَالا
صَاحَبتُهُمْ مِلْءَ الحَوَادثِ هِمَّةً=وَعَرَفْتُهُمْ مِلْءَ الزَّمَانِ رِجَالا
الحَافِظِينَ مِنَ المُرُوءَةِ ذِمَّةً=العَاقِدِينَ مِنَ الوَفَاءِ عِقَالا
الذَّائِدِينَ عَنِ الحِمَى بِعَزَائِمٍ=تَرْمِي الكُرُوبَ وَتَدْفَعُ الأَهْوَالا
وَإِذَا بَنَيتُ لَهُمْ قُصُورَ مَحَبَّةٍ=فَلِأنَّنِي أَهْوَى الرِّجَالَ خِلالا
ضُمِّي فِلِسْطِينُ الصَّبَاحَ وَضَمِّدِي=نَزْفَ الجِرَاحِ وَلَمْلِمِي الأَوْصَالا
لا فَتْحَ إِلا فِي الحَمَاسِ وَلا نَدَى=إِلا بِكَفِّكَ يَابْنَ قَالَ تَعَالى
وَالمَجْدُ لا يَأْتِي المَوَاطِنَ مُذْعِنًا=إِلا إِذَا قَالَ السِّلاحُ تَعَالا
فَإِلَى كَتَائِبِ عِزِّكِ العَزْمَ امْتَطِي=وَخُذِي الإِبَاءَ إِلَى العَلاءِ رِحَالا
يَا مَوْطِنَ الإِسْرَاءِ حَسْبُكَ فِي الوَرَى=أُمَمٌ فَدَتْكَ عَشِيرَةً وَعِيَالا
القَابِضُونَ عَلَى الزِّنَادِ بِقُوَّةٍ=الصَّامِدُونَ عَلَى الثُّغُورِ نِبَالا
إِخْوَانُ صِدْقٍ جَسَّدُوا بِصُمُودِهِمْ=قِيَمًا وَأَعْطُوا لِلوَفَاءِ مِثَالا
بِكَتَائِبٍ خُضْرٍ تَلُوحُ كُمَاتُهَا=لا سُلْطَةً تَرْجُو وَلا أَنْفَالا
وَاللهُ مَولَى المُؤْمِنِينَ بِنَصْرِهِ=إِنْ ضَاقَ حَالٌ ثَمَّ فَرَّجَ حَالا
يَا أُمَّةَ الإِسْلامِ كَيفَ حَيَاتُكُمْ=وَالقَهْرُ فِيكُمْ يَقْصفُ الآجَالا
بَاتَتْ بِلادُ المُسْلِمِينَ مَوَاطِئًا=لِلغَاصِبِينَ وَشَمْسُهُنَّ ظِلالا
فَعَلَى فِلِسطينُ الحِصَارُ مُخَضَّبٌ=وَعَلَى العِرَاقِ مَصَائِبٌ تَتَوَالَى
وَالحَرْبُ فِي لِبنَانَ أَوشَكَ لَيْلُهَا=وَالمَوتُ فِي السُّوَدانِ صَالَ وَجَالا
مَزَّقْتِ لِلإِقْدَامِ ثَوبًا بَاسِلا=وَلَبِسْتِ بِالعَجْزِ المُخَضَّبِ شَالا
وَيَئِسْتِ مِنْ أَمَلِ الرُّجُوعِ وَلَمْ نَكُنْ=مِنْ قَبْلُ يَومًا نَخْذُلُ الآمَالا
إِنَّا لَفِي زَمَنٍ يَلُوكُ مَرَارَةً=يَضَعُ الكِرَامَ وَيَرْفَعُ الأَنْذَالا
كُنْتُمْ أُسُودَ الحَرْبِ إِنْ هِيَ جَلْجَلَتْ=مَا بَالُ هَذَا العَزْمِ عَنْكُمْ زَالا
فَعَدُوُّكُمْ فِي الغَرْبِ يَرْفَعُ رَايَةً=حَمْرَاءَ تَرْشُقُ بِالصَّلِيبِ هِلالا
وَعَدُوُّكُمْ فِي الشَّرْقِ أَنْتُمْ مَا بَدَا=ظَنٌّ بِأَنَّ النَّصْرَ بَاتَ مُحَالا
وَلَوِ اتَّقَيتُمْ لانْتَصَرْتُمْ وَالذِي=نَصَرَ القَلِيلَ عَلَى الكَثِيرِ وَوَالَى
القُدْسُ عَهْدُ المُسْلِمِينَ وَذِمَّةٌ=لَيسَتْ تَخُصُّ القَاطِنِينَ شَمَالا
وَالشَّعْبُ إِخْوَانٌ وَأَبْنَاءٌ فَهَلْ=نَدَعُ الحِصَارَ يُقَتِّلُ الأَطْفَالا
لا لِلحِصَارِ وَإِنْ تَكَالَبَتِ القُوَى=وَاحْتَالَ فِي الجَورِ الجَمِيعُ وَحَالا
هِيَ دَعْوَةٌ نَحْوَ انْتِفَاضَةِ عِزَّةٍ=فَدَعُوا الإِبَاءَ يَزِيدُهَا إِشْعَالا
وَلَقَدْ كَفَانَا مَا مَضَى مِنْ أَمْرِنَا=نَلْهُو وَيَبْكِي مَجْدُنَا الأَطْلالا
فَاسْلُكْ إِذَا شِئتَ الدُّرُوبَ حَقِيقَةً=وَاسْلُكْ إِذَا شِئتَ الدُّرُوبَ خَيَالا
وَاخْتَرْ فَإِمَّا أَنْ تَعِيشَ بِعِزَّةٍ=أَوْ أَنْ تَعِيشَ عَلَى التُّرَابِ مُذَالا
وَإِذَا انْقَلَبْتَ إِلَى المُهَيمِنِ بَاسِرًا=فَأَجِبْ هُنَاكَ إِنِ اسْتَطَعْتَ سُؤَالا