مقال للشاعر والمترجم الفلسطيني منير مزيد عن قصيدة النثر يهاجم فيه القصيدة العمودية وانصارها هجوما عنيفا:
مفهوم الشعر و ماهيته قديما و حديثا و إشكالية قصيدة النثر
--------------------------------------------------------------------
بقلم: منير مزيد
من فم الشاعر تولد اللغة
ومن اللغة تولد كل الأشياء
قبل الحديث عن شرعية أو عدم شرعية قصيدة النثر، في البداية، علينا أولاً فهم ودراسة دورة الحياة المتغيرة وتطورها، فلو عدنا إلى الوراء، وبدأنا بالإطلاع ودراسة تاريخ الأدب والفن، لوجدنا بأن العديد من المبدعين في العالم لم تحظ أعمالهم الإبداعية، سواء الفنية أو الأدبية بالتقدير والمكانه المستحقة في الزمن الذي تم فيه إنتاج تلك الأعمال الإبداعية، وإنما حظيت بالتقدير والمكانة بعد سنوات عديدة خلت فالإبداع الحقيقي دوما يثير جدلا قويا في البداية، وقد يحتاج إلى سنوات أو ربما إلى قرون، تبعا لتطور وعي الشعوب، وتطور مفاهيم النقد، لأن الإبداع يسبق الفكر الإنساني السائد . من هذا الفهم أرى أن المستقبل لقصيدة النثر وقد بدأت بالفعل تأخذ مكانتها في العالم العربي وبدأت تفرض وجودها على خارطة الإبداع، أما الذين يرون غير ذلك، فهم مجموعة من العجزة، غير قادرين على فهم دورة الحياة المتغيرة والمتجددة..
أنا لا أتفق مع تسمية قصيدة النثر بهذا الاسم لأن في ذلك إنقاص من قيمتها الإبداعية، وأفضل تسميتها كما يطلق عليها الرومان " القصيدة البيضاء" أو بالشعر الصافي أو الخالص إلا أنني أرى أفضل تسميه لها " القصيدة الكريستاليه " أو " القصيدة الكونيه " أما القصائد الموزنة فهي ليست جميعها شعرا بعضها عملية نظم و ترتيب كلام لا علاقة لها بالشعر ، كما قال جبران : " الشعر وميض برق والنظم ترتيب كلام، فليس إذن من الغريب أن يرغب الناس في الترتيب وهو في مرتبتهم دون الوميض وهو في الفضاء
لهذا جاء الوقت لإخراج الشعر من كل تلك المفاهيم العقيمة التي تفتقد إلى الرؤية والإبداع ،وبالتالي تحد من الإبداع .ومن لا يفهم القصيدة الكريستالية أو القصيدة الكونيه أو القصيدة البيضاء ولا يتذوق جمالها ، فهذا لا يعيبها وانما قصر نظر عند القارئ أو الناقد في رؤية مفهوم الإبداع
أما تلك الحرب الشعواء التي لا مبرر لها في عالمنا العربي هي من طرف مجموعة مغلقة ومتطرفة لا تعي معنى الاختلاف والتجديد وترواح مكانها بسبب عدم القدرة، بل وعدم الجرأة على خرق الحدود والحواجز، والتي بعضها فكري، وبعضها مرتبط بسياقات أخرى اجتماعية ومصلحية ومؤسساتية و الشيء المحزن إن هذه المجموعة التي تشن حربها على القصيدة الكونيه غير قادرة على تقديم طروحات تفيد الحركة الشعرية وكل تركيزها على أوزان الفراهيدي و كأن الفراهيدي إلهاً وحين تقرأ إنتاجهم الشعري و قصائدهم فلا تجد جملة شعرية واحدة بل لغة معلبة ومستهلكة ومحنطة فهذا دليل كاف على خوفهم من التطور و مفاهيم الحداثة .
وعلينا أن ندرك بأن التقليد دوما يدخل في صراع مع الحداثة بمستويات ودرجات مختلفة في الجانب الفكري لأن الحداثة تهدد التقليد وتفككه كما توسع من هامش الحرية وهذا يشكل خطرا كبيرا على قوى الانغلاق والتطرف ومن هنا نفهم سر حربهم الشعواء .
يقول جبران : أحب في الأدب ثلاثة : التمرد والإبداع والتجرد وأكره ثلاثة : التقليد والمسخ والتعقيد
كتب افلاطون محاورته " ايون" يتناول فيها مسالتين مهمتين من صميم النقد الأدبي أولاهما: ما مصدر الشعر لدى الشاعر: الفن أم الإلهام، والثانية: ما الفرق بين حكم الشاعر والناقد الأدبي على الشيء من جهة وبين حكم العقل والعلم على نفس الشيء؟ يرى أفلاطون في محاورته أن مصدر الشاعر هو الإلهام ومصدره إلهي محض وقد قرن الشاعر بالأنبياء وبالعرافين، وهذه الفكرة مرجع من اعتادوا بالإلهام والقريحة في الشعر لا بالصنعة والتعلم، أما في المسألة الثانية: يقرر أفلاطون أن مقدرة الشاعر على تأليف شعر في شيء غير مقدرة المرء على شرح نفس الشيء شرحا عقليا وأن الشعر ليس هدفه الشروح العملية... ونستشهد بخاتمة قصيدة " فن الشعر" للشاعر " أرجبيلود مكليش" والتي تقول:
القصيدة لا يجب أن تعني
بل أن تكون
وقد عبر جبران خليل جبران عن تلك المسألتين، إذ يقول في المسألة الأولى: أن الشعراء أثنان ذكي ذو ذاتية مقتبسة وملهم كان ذاتا قبل أن يصير بشراً ، والفرق بين الذكاء والإلهام في الشعر، هو الفرق بين أظافر محددة تحك الجلود الجرباء، وشفاه أثيرية تقبل القروح فتشفيها، وهنا فرق جبران بين الشعر ومصدره الإلهام والشعر ومصدره الصنعة والتعلم والذي تميز به كثير من الشعراء .. وشتان بين الأثنين.
هذه الرؤية الجبرانية تتفق تماماً مع أنصار الشعر للشعر، إن قضية الشعر للشعر ليس يقصد أصحابها أن يستخدم الشاعر براعته في النظم كي يمدح أو يذم ، أو يرفع أو يضع، أو ليساير من يشاء متى شاء له هواه ومطامعه، فيمدح اليوم ما ذمه امس، ليظهر براعته في اللغة، أو ليصل لإغراضه الخاصة به.. فهذا ينافي التجربة وصدقها، وينافي رسالة الشعر الوجداني من سبر أغوار القلب الإنساني والتعرف على أدق خلجاته، وإمكاناته الطبيعية، ومستقبله ومصيره الاجتماعي وتأثراته الوراثية وأحلامه وطاقته وموقفه الميتافيزيقي في عصره وكل ما يعد مقوماً من مقومات حياته وسعادته في الأرض... ويتفق جبران مع أفلاطون على أن الشعر مصدره الإلهام وفي رأيه " الشعر الحق". أما في المسألة الثانية يقول جبران: " الشعر في الروح فكيف يباح بالكلام؟ والشعر ادراك الكليات فكيف نظهره لمن لا يدرك سوى الجزئيات؟ والشعر لهيب في القلب أما البيان فرقع من الثلج فمن يا ترى يوفق بين لهيب وثلج؟.
إن محاورة ايون هي أوسع عرض في العالم القديم للفكرة التي تذهب إلى أن الشعر إلهام خالص هذه الفكرة التي كان لها تاريخ طويل، تقلبت فيه على وجوه شتّّى ولا تزال قائمة حتى اليوم وقد قال " دريدن": " لا ريب أن الإفهام الكبيرة وثيقة الصلة بالجنون"، وقبل دريدن بما يقرب من مائة عام قال الشاعر والكاتب المسرحي الكبير وليم شكسبير.
:
المجنون والعاشق والشاعر جميعهم في الخيال سواء
يفسر أفلاطون حقائق الوجود ومظاهره " بالمحاكاة" وعنده أن الحقيقة-وهي مصدر العلم- ليست في الظاهرات الخاصة العابرة، ولكن في المثل أو الصور الخالصة لكل أنواع الوجود وهذه المثل لها وجود مستقل عن المحسوسات وهو الوجود الحقيقي ولكن لا ندرك إلا أشكالها الحسية التي هي في الواقع ليست سوى خيالات لعالم المثل.
وتدل المحاكاة عند أفلاطون على العلاقة الثابتة بين شيء موجود ونموذجي والتشابه بينهما يمكن أن يكون حسناً أو سيئاً، حقيقياً أو ظاهراً، فحين تحاكي طبيعة الأشياء بالحروف والمقاطع والكلمات والجمل تكون المحاكاة حسنة إذا دلت على خصائص الموجود وسيئة إذا تجاوزت هذه الخصائص ، واللغة بفنونها المختلفة طريق التأثر علم المعقول أو علم المثل في الحس، وأداة لذلك التأثير، وينحصر نجاح الفنان في نتاج محاكاة الأشياء على حقيقتها، وفي هذا يتجلى مجهود الفنان ويؤتي ثماره على أن المحاكاة الحقيقية لإغناء فيها عن الحقيقة، فليست سوى خطوة للإقتراب من الحقيقة إذا كانت تلك المحاكاة صحيحة.
أما رؤية جبران الأفلاطونية فيما يتعلق بالمحاكاة يقول جبران: لا، ليست الحياة بسطوحها بل بخفاياها، ولا المرئيات بقشورها بل بلبابها، ولا الناس بوجوههم بل بقلوبهم، لا ولا الدين بما تظهره المعابد وتبينه الطقوس والتقاليد بل بما يختبئ في النفوس ويتجوهر بالنيات، لا ولا الفن بما تسمعه بإذنيك من نبرات وخفضات أغنية أو من رنات أجراس الكلام في قصيدة، أو بما تبصره عيناك من خطوط ألوان صورة بل الفن بتلك المسافات الصامتة المرتعشة التي تجيء بين النبرات والخفضات في الإغنية وبما يتسرب إليك بواسطة القصيدة وبقي ساكناً هادئاً مستوحشاً في روح الشاعر وبما توضحه إليك الصورة فترى وأنت تحدق بها ما هو أبعد وأجمل منها. لا يا أخي ليست الأيام بظواهرها، وأنا أنا السائر في موكب الأيام والليالي لست بهذا الكلام الذي أطرحه عليك إلا بقدر ما يحمله عليك الكلام من طويتي الساكنة. إذاً لا تحسبني جاهلاً قبل أن تفحص ذاتي الخفية، ولا تتوهمني عبقرياً قبل أن تجردني من ذاتي المقتبسة، ولا تقل هو بخيل قابض الكف قبل أن ترى قلبي، أو هو الكريم الجواد قبل أن تعرف الواعز إلى كرمي وجودي. لا تدعني محبّاً حتى يتجلى لك حبي بكل ما فيه من النور والنار ولا تَعُدنِّي خليّاً حتى تلمس جراحي الدامية.
الشعر ُفنُّ العربية الأول، وأكثر فنون القول هيمنة على التاريخ الأدبي عند العرب مقارنة بالخطابة والنثر والسرد، ولعل هذا ما عناه ابن عباس في مقولته الشهيرة "الشعر ديوان العرب"، للدلالة على أهمية الشعر عند العرب وتمجيد ما أبدعه الإنسان من الشعر، خاصة أنه حافظ لتاريخ العرب وأيامها وعلومها المختلفة، ويُعدُّ وثيقة يمكن الاعتماد عليها في التعرُّف على أحوال العرب وبيئاتهم وثقافتهم وتاريخهم دون إخراجه من دائرة الفن إلى دائرة أخرى.
هذه المقولة كررها الكثير من النقاد القدماء وأكدوا سلطتها حين قالوا "كان الشعر في الجاهلية ديوان علمهم، ومنتهى حكمهم، به يأخذون، وإليه يصيرون." (ابن سلام طبقات فحول الشعراء) ويعد كتابه مصدراً نقدياً مهماً يفيد في دراسة بدايات النقد الأدبي عند العرب، والتأسيس لقضاياه.
فيما ينسب إلى عمر بن الخطاب قوله (كان الشعر علم قوم، لم يكن لديهم علم أصح منه) ،
"الشعر معدن علم العرب، وسفر حكمتها، وديوان أخبارها، ومستودع أيامها." (ابن قتيبة، عيون الأخبار). "الشعر ديوان العرب، وخزانة حكمتها، ومستنبط آدابها، ومستودع علومها." (العسكري، كتاب الصناعتين). "الشعر ديوان العرب، به حفظت الأنساب، وعرفت المآثر، وتعلمت اللغة." (ابن فارس، الصاحب).
ويتميز الشعر العربي عبر عصوره المتلاحقة بعلاقة الإبداع الشعري بالموسيقى من خلال الإيقاع الشعري وبتكونه من مجموعة أبيات, كل بيت منها يتألف من مقطعين يدعى أولهما الصدر، وثانيهما العجز، وهذا النوع من البناء عرف بالشعر العمودي.
كان الشعر العمودي هو الأساس المعتمد للتفريق بين الشعر والنثر بحيث يخضع في كتابته لقواعد الخليل بن أحمد الفراهيدي، وهذه القواعد تدعى علم العروض.
ويعرف علم العروض بأنه علم بمعرفة أوزان الشعر العربي، أو هو علم أوزان الشعر الموافق أشعار العرب. مما حدا بالبعض فيما بعد لنظم العلوم المختلفة المستجدة في قوالب عمود الشعر، كألفية بن مالك وغيرها، وذلك استغلالا لما تألفه الأذن العربية من الإيقاع المنتظم، ما يجعل تلك المنظومات أسهل للحفظ والاسترجاع من الذاكرة، ولكنها بذلك، ولذلك بالتحديد، خرجت من دائرة الشعر إلى دائرة النظم، أي أنها افتقدت الفاعلية الجمالية التي تميز الشعر عبر أدواته المختلفة، التي لم يكن عمود الشعر إلا مظهراً من مظاهر الشكل الفني غير جوهرية، وبهذا فقدت روح الشعر مع أن المعلقات قصائد عمودية نظمت بأوزان الشعر العربي دون أن تفقد روح الشعر وجمالياته الإبداعية بأبعاده الفنية والفلسفية والتي تعد أشهر ما كتبه العرب في الشعر، وقد قيل أنها سميت معلقات لأنها كانت تعلق في أطراف الكعبة لشهرتها وكتبت بماء الذهب، وقيل أيضا إنها معلقات لأنها مثل العقود النفيسة تعلق بالأذهان.
للتفريق بين الشعر والنظم جاء كتاب "فن الشعر" لأرسطو، والذي يعد من أهم الكتب النقدية والدراسات الأدبية في العالم، ليضع حدًّا فاصلاً بين الشعر والنظم، مبيناً فيه أنه لم يكن في زمنه اصطلاح جامع تنطوي تحته جميع الأنواع التي تتخذ أداة المحاكاة سواء في النثر أو النظم، والاستعمال الحديث لهذا المصطلح هو كلمة "أدب" ومن الواضح تماماً أن الوزن وحده ليس كافياً لتمييز الشعر إذ ثمة رسائل في الطب وفي الفلسفة الطبيعية كتبت شعراً (وهذه الطريقة كانت الأكثر شيوعاً عند قدماء الإغريق من الوقت الحاضر كما شاعت عند العرب كما تم ذكره) حتى يسهل حفظها وبالتالي يسهل تذكرها لأن عصر الطباعة والكتب لم يدخلا بعد.
" ليس لدينا اسم تنضوي تحته مجونيات صوفرون واكزينار خوس ومحاورات سقراط أو القصائد الإليجية الخماسية والإليجية الرثائية أو بحور أخرى يؤدي بها فن الملحمة بطريقة المحاكاة، حقاً جرت عادة الناس وفيما يتعلق بالشعر أوفيما يختص بالبحر، على أن يسموا البعض بالشعراء الإليجيين أي الذين ينظمون قصائدهم على البحر الإليجي ويسمون آخرين بالشعراء السداسيين ، أي الذين ينظمون شعراً سداسي التفاعيل، وبذلك تمايز الشعراء في عرف الناس ليس وفقاً لطبيعة المحاكاة في أشعارهم ولكن على قاعدة الوزن وحده، حتى الذين ينظمون رسائلهم في الطب وفي الفلسفة الطبيعية يسمون شعراء، ومع ذلك فليس بين هوميروس وامبذوقليس من شركة إلا في الوزن. والأول جدير باسم الشاعر والثاني جدير بأن يسمى طبيعياً لا شاعراً " ، وكان هوميروس لدى ارسطو شاعراً فحلاً لا لإنه اضطلع في فخامة الديباجة الشعرية فحسب بل لإنه جعل محاكياته في شعره ذات طابع درامي".
ويعيد ارسطو جوهر معنى المحاكاة الإفلاطوني، ولكن على درجة مختلفة فهو يثريه بملاحظاته الدقيقة ودراسته لمئات الأعمال الفنية في المجال الأدبي والمجال التشكيلي.
فكل أنواع الشعر التي عددّها بالإضافة إلى الموسيقى الرقص والفنون التشكيلية وأشكال المحاكاة. والمحاكاة هنا ليست عالم المثل- الذي لا وجود له- وإنما الطبيعة مباشرة، ومن ثم فالمحاكاة عند ارسطو بعيدة عن الحقيقة بدرجة واحدة وهنا يمكننا القول بأن المواقف والأفعال والشخصيات والإنفعالات ينبغي أن تكون مشابهة للحياة وليست صورة فوتوغرافية منها- فوظيفة الشاعر – أو الفنان بوجه عام- هي ألا يحاكي احداثاً تاريخية معينة أو شخصيات بنفسها. ولكن أن يحاكي أوجه الحياة في عالميتها الشاملة من حيث الشكل والجوهر. والمثال كما تنعكس على صفحة روحه عن طريق ملاحظتها ومدارستها والشعر خلق باعتباره محاكاة للإنطباعات الذهنية ومن ثم فهو ليس نسخاً مباشراً للحياة. وإنما تمثلٌ لها. ويبرر ارسطو احتمالية اتهام الشاعر بأن محكياته غير حقيقية وذلك في إجابته التي تبين بأن الشاعر يحاكي الأشياء كما هي، أو كما كانت، أو كما ينبغي أن تكون، أو كما اعتقد الناس بأنها كانت كذلك، أي أن هذا الشاعر المتهم بالبعد عن الحقيقة المعروفة للناس، يمكن أن يدافع عن موقفه بأن يعرض الأشياء الحاضرة والماضية والمثالية أو ما يعتقده الناس فيها.
فقديماً، لاحظ أرسطو في النثر أنه قد يتوافر له نوع من الإيقاع كالشعر، وكثير من الكلام المنظوم لا يدخل في الشعر إذا خلا من الإيحاء ومن التعبير عن تجربة وإذا لم تتوافر له قوة التصوير ووسائل الإيحاء " وقد عني بها المذهب الرمزي في الشعر" الإيحاء والتصوير إذا انعدما من القصيدة صارت نظماً وفقدت روح الشعر كما أنهما قد يوجدان في بعض فقرات في النثر قد تكون له حينئذٍ صفة الشعر.
يقول جبران:" الشعر وميض برق والنظم ترتيب كلام، فليس إذن من الغريب أن يرغب الناس في الترتيب وهو في مرتبتهم دون الوميض وهو في الفضاء."
إن كتابات أفلاطون والأسقف تايلر والنظرية المقدسة لبيرنت تمدنا بالأدلة لا سبيل إلى إنكارها على أن أسمى أنواع الشعر قد توجد دون وزن بل بدون الغاية التي تتميز بها القصيدة. فالشاعر العربي نزار قباني يقول:" قد أصل في خطابي الشعري إلى مستوى الكلام العادي وقد اتهم بالنثرية حيناً وبالتقريرية حيناً آخر.. ولكني لا أغضب مما يقال لأنني اعتقد أن الجدار الفاصل بين الشعر والنثر سوف ينهار عما قريب كما انهار جدار برلين" وأما السير فيليب سيدني فقد مضى إلى النظر إلى أهمية اللقب الذي خلعه الإغريق والرومان على الشاعر- فالرومان دعوه بالكاهن أو العراف أو النبي، والشعر قد يكون سماوياً "هذا لا يعني أنه يجب أن يكون كذلك" وهذا يتجلى لنا من مزامير داوود التوراتية حيث يحتج السير فيليب بأن المزامير إغانٍ نظمت في أوزان ولكن الوزن وحده لا يقيم شعراً. بل علينا أن نحصل على الإبداع الحيوي فالإبداع هو الخاصية المميزة للشاعر ، إنه يبدع أشياء جديدة معتمداً على فطنته الذاتية.
يقول ابن سلام بأن الشعر لا يقوم بالوزن فقط، فقد يوجد الوزن، ولا يعد المنظوم شعراً، مثال ذلك ما يرويه ابن إسحاق لعاد وثمود يقول ابن سلام: (فكتب لهم أشعاراً كثيرة، وليس بشعر، إنما هو كلام مؤلف معقود بقواف) وذلك لأن للشعر خصائصه الذاتية في ألفاظه ومعانيه واستخداماته، التي يشير إليها مثل قوله: (وفي الشعر مصنوع مفتعل، موضوع كثير، لا خير فيه، ولا حجة في عربية، ولا أدب يستفاد، ولا معنى يستخرج، ولا مثل يضرب، ولا مديح رائع، ولا هجاء مقذع، ولا فخر معجب، ولا نسيب مستطرف) .
ويؤكد بأن (للشعر صناعة وثقافة يعرفها أهل العلم به كسائر أصناف العلم والصناعات) في محاولة منه لإرساء معرفة لنقد الشعر مستقلة قابلة للتنمية، يشتغل بها المتخصصون بواسطة مفهوم ملائم لتحضر المجتمع العربي، وتعقد حياة أصحابه، بعد أن اتسعت دولتهم، وصارت وريثة لإمبراطوريات العالم القديم.
فالشعر دون شك معرفة انسانية تحمل معطيات الاحساس والرؤية ويجسد وجدانَ الشعوبِ و فيه تاريخها و يساهم في تشكيلِ هويتها الإنسانية و الثقافية و(ان الاحساس هو المصدر الوحيد لمعرفة الاشياء في العالم) ، كما يرى ديمقريطيس. في حين يؤكد " ارنولدهاوزر" مكتشف الشعر الحر، أي الشعر الذي ينبثق من الروح اللاعقلية اللاتصورية والمضاد لكل تفسير منطقي وليس الشعر في نظر الرمزية إلا تعبيراً عن تلك العلاقات والتطابقات التي تخلفها اللغة لو تركت لذاتها بين العيني والمجرد والمادي والمثالي وبين المجالات المختلفة للحواس. وفي رأي ميلارميه أن الشعر هو الإيحاء بصور تحلق إلى الإعلى وتتبخر على الدوام، في حين يرى الشاعر الأمريكي " إدجار ألن بو" أن الشعر هو الخلق الجميل الموقع، والشعر يقصد فيه التأمل في تجربة ذاتية لنقل صورتها الجميلة، وأقوى عناصر الجمال في الشعر هو الموسيقى الكلامية لأنها طريق السمو بالروح وأعظم سبيل للإيحاء وللتعبير عما يعجز التعبير عنه ويرى أن الخلق الشعري هو نوع من الفناء في الطاقات السحرية للغة، فإذا أراد بعد ذلك أن يضيف إلى النغم الأول معنى أو فكرة، كان عليه أن يفعل ذلك بكل الدقة الرياضية.
في حين يرى الشاعر الإسباني سالينس بأن الشعر متوقف على قدرته على التخفف من الموضوعات والأشياء بقدر الإمكان؛ لأن هذا وحده هو الذي يتيح للغة أن تتحرك حركتها الإبداعية الحرة .
فيما يرى جوتفريد بن ، على الشاعر أن يلجأ إلى الحيل الشكلية ليحافظ على انطلاقة الأسلوب، فهو يثبت الخواطر التي ترد عليه كما لو كان يدق بالمسامير، ويعلق عليها متتابعات ألحانه. وهو يتحاشى أن يربط الأشياء ببعضها ربطاً مادياً سيكولوجياً، بل يكتفي بالإشارة، ولا يمضي بشيء إلى غايته.
أما الناقد الفرنسي جوفروي فأنه يرى «اللحظة العليا التي ينسى فيها النص - بطريقة منسجمة متجانسة - مضموناته. إنه الشعر الذي لم يعد يريد أن يقول شيئاً».
فيما يؤمن ثيودور أدورنو بأن إن على الفن أن ينفي المجتمع الذي أنتج فيه. والفن الأصيل من وجهة نظره، هو الذي يقيم عالمه الخاص، من نوع الاستقلال الذاتي بنفسه بعيدا عن أي ارتباط خارجي.
يقول بودلير:" لا يمكن أن يتمثل الشعر بالعلم أو بالخلق، وإلاّ كان مهدداً بالموت أو الخسران، فالشعر ليس موضوعه الحقيقة، وليس له من موضوع سوى الشعر نفسه"، وأما البرناسية فانها تعني بالصور الشعرية وصياغتها، ولكنها تحتم الموضوعية في هذه الصور، ذلك أنها قامت على أنقاض الرومانتيكية في حين أن الشعر السيريالي ما عاد يعبر عن أفكار أو عواطف بل يعبر عن نشاط نفسي... والمهم ألا يقطع التيار الداخلي هم فني أو جمالي، بل المهم إدراك المجهول بحيث يتحول الشاعر إلى راءٍ عبر تشويش عام لكل حواسه واقترابه إلى حد كبير من الحالات الصوفية ومن هنا رفض السيرياليون التشكيل الشعري ورفضوا كل أنواع البناء الهندسي ورفضوا بذلك مفهوم القصيدة كعملية تأليف أو تنظيم وكل جهد ارادي في العمل مركزين على الكتابة الآلية التي تتخذ شكل أولا شكل الحالات الداخلية. وهذا ما أعطى الأهمية الأولى للتعبير بالصورة، باعتبار أن هذه العوالم الداخلية لا يمكن استخراجها بلغة تقليدية خارجية بل بصور هي من طبيعتها مهما أغرقت في الغرابة والطرافة والتناقض.
أما الشعرُ الإيكولوجي فهو محاولة حدسية لتناغُم المرء مع العالم، "كلام مع الله" يتم عبر الطبيعة. فالله كما يقول فيكتور بوستنيكوف هو مَن يكلِّمنا من خلال الطبيعة؛ وفي مثل تلك اللحظات، عندما ندرك وجوده إدراكًا مبهمًا، نحاول أن "نستجيب" لذلك بالتعبير عن مشاعرنا نحوه بواسطة الشعر. تتخطَّى مثل هذه "الاستجابة" فوارقنا الشخصية والثقافية، وتبلِّغ عن نفسها بلغة عالمية. لهذا السبب نتفهَّم الأعمال الشعرية لسادة الماضي العظماء الذين أبدعوا في ثقافات متنوعة، ونحبُّها، ونصغي إليها كما لو أنها تُخاطِبنا شخصيًّا. وبالفعل، آنذاك نسمع صوت أكابر الشعراء قاطبة.
أما التصوريون "Imagist" أتباع المدرسة العصرانية "Modernism" أو المحدثية فهم يثورون ليس فقط ضد الكلام المنمق والعبارات الرنانة والكلمات المبتذلة والصور التقليدية والايقاعات الموزونة بل كذلك ضد الأنماط التفكيرية والتراكيب البينيوية المعهودة، ولتمردهم هذا أثر محمود في تحرر الشعر الأمريكي من القيود الثقيلة التي كان الشعر بها فارغ المعنى... بينما ينظر أصحاب الشعر الخالص أن جوهر الشعر هو حقيقة مستترة عميقة ايحائية لا سبيل إلى التعبير عنها بمدلول الكلمات بل بعناصر الشعر الخالصة، وهذه العناصر الخالصة غير مقصورة على جرس الكلمات ورنين القافية وايقاع التعبير وموسيقا الوزن، فهذه كلها لا تصل إلى المنطقة العميقة التي يتخمر فيه الإلهام.
بدأت بشائر النهضة الفنية في الشعر العربي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي، فبدأت خافتة وضئيلة الشأن وباعتبارها أصوات هامشية، ثم أخذ عودها يقوى ويشتد حتى اكتملت خلال القرن العشرين متبلورة في اتجاهات شعرية حددت مذاهب الشعر العربي الحديث، ورصدت اتجاهاته، مستفيدة من التراث العالمي آخذةً ما يوافق القيم والتقاليد العربية الأصيلة رافضة بذلك مفهوم القصيدة كعملية تأليف أو تنظيم، لتفتح آفاقاً جديدة غير مسبوقة في تاريخ الشعر العربي وخاصة في انطلاقة "قصيدة النثر" التي أثبتت حضورا متميزا في الساحة الشعرية العربية على الرغم من شدة المعارضة ضد المساس بما عرف بـ "عمود الشعر" وشكّلت دافعاً قويّاً لاستهداف التغير وتشويهه إلا أن الشعر الحديث صمد أمام تيارات الرفض، وبدأت هذه المعارضة تضعف وتتآكل رويداً رويداً أمام رغبة الأغلبية في حتمية التغير والتحديث.
بهذا التطور بدأ الطموح نحو البحث عن الشعر الصافي بحيث تتحول القصيدة، كما يرى إدجار ألن بو ، إلى كيان تام في ذاته، فهي لا تنقل لنا الحقيقة ولا نشوة القلب، بل لا تنقل - في الواقع - أي شيء على الإطلاق، فهي قصيدة لأجل ذاتها .
وضع أنصار «الشعر الصافي» نظريتهم والتي تشترط النقاء أو الخلاص الشعري. وتتمثل أهم تلك الشروط في التجرد من الأشياء أو نفيها أو إلغائها، وإهمال مواد التجربة اليومية والمضمونات التعليمية أو الهادفة، وصرف النظر عن الحقائق العلمية والمشاعر الاعتيادية، ونشوة القلب أو التطرف في الانفعال.
أما أنا منير مزيد فأرى أن الشعر عالمٌ مختلف تماماً عن عالمنا المرئي، عالم ملئ بالسحر والجمال والطقوس والخرافة بعيداً ومتجرداً تماماً من المادة، فالأسطورة تنم عن الحكمة، فهي بحث الإنسان عن وجوده وعن سعيه الدائم وراء الخلود، وتصوره لماهية الأشياء التي تحيط به ولا أستطيع أن اتخيل شعر بلا تطرق إلى الأسطورة أو الخرافة.
اما الحلم فهو الكنز الثمين والوجه الآخر الحقيقي للواقع الإنساني وطالما حلم الإنسان منذ أقدم العصور، فالشعر حالة صوفية تتأرجح بين التأمل والحلم فالإنسان بطبيعتة حالة مركبة من المشاعر الرومانسية والألم الواقعي والرموز السيريالية والقلق الوجودي، فالإنسان إذن حالة تجمع بين حالات متناقضة والشاعر الحقيقي هو الذي يرخي عنان قصائده فتخرج عفوية حصيلة ثقافة انسانية ومشاعر مركبة بقولبة ابداعية، وأنا لا أفند مدارس الشعر في ذاتي بل أمزجها وكذلك في قصائدي وهنا تكمن حقيقة الشاعر، أما القصيدة عندي فهي كائن حي " الجسد والروح" فالبناء الشكلي " البنيوي" والبياني يشكلان معاً جسد القصيدة أما روح القصيدة فهي الصدى الذي يبوح باسرار روح الشاعر ورؤاه.
الشاعر الحديث الاصيل شاعر غزيرالثقافة ذو امتدادات عميقة ووارث الحضارات كلها و ثقافات الامم يفجر مفردات اللغة لتصوير افكاره ويرتكز على فلسفة عميقة غنية تخرجه من القول الضحل الفاني الى القول العميق الخالد وبالتالي فالشعر ليس كما نريده أو نريد له، فهو فيض تلقائي للمشاعر القويَّةِ يَأْخذُ أصلَه مِنْ العاطفة المتأملة ولكنه ليس غارقاً في طين الموت والعتمة والشهوة إلى حدود فقدان الرجاء من انطلاقة متألقة له فالشعر حياة تجدّد فينا الرغبة في الحياة، وتدفعنا في تيار الحب إلى مزيد من الحب..
إذن ، الشاعر لا يعمل على أفكار وتوجهات و شعارات كانت موجودة ليأتي هو ويطبقها دون العمل على اعادة خلقها من جديد وبالتالي عليه أن يخلق مفاهيمه الخاصة من خلال تفكيره الخاص وتوليده للأفكار والإبداع ..
وختاما علينا أن ندرك بأن الشعر متنوع كما هي الحياة ذاتها، يستمد منها قوته التي لا تذوي واهتمامه الحيَّ وقد شبَّه غوته تاريخ الحضارة بمعزوفة مهيبة، لكلِّ أمَّة فيها، على التناوُب، صوتُها المميَّز. وللحفاظ على جمال هذه السيمفونية البشرية، ينبغي أن يكون لكلِّ صوتٍ جَرْسُه ونغمتُه الخاصة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق