الأوزان الخليلية وحضورها في أشعار محمود درويش 2/1*
بقلم: فراس حج محمد *
المحرر | غير مصنف | 2010.12.15
تهدف هذه الدراسة إلى تتبع شعر الشاعر محمود درويش بدءا من ديوانه الأول أوراق الزيتون، وانتهاء بديوانه الأخير، المنشور بعد وفاته “لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي”، وحضور الأوزان الخليلية في شعره، وأعني هنا بالضبط حضور القصيدة بشكلها القديم (قصيدة الشطرين) في دواوين الشاعر، محاولا الرد على تلك المقولات النقدية والفكرية التي تقول: إن الشعر الحر خيار تقدمي اشتراكي أو ديمقراطي حداثي أو ما شابه هذه المصطلحات، التي تغص بها مقالات النقاد والشعراء.
ولم أقتصر على شعر محمود درويش، بل بدأت بالحديث عن وجود هذه الظاهرة عند شعراء آخرين فلسطينيين وعرب، لهم باع طويل في كتابة القصيدة الحديثة وتطورها، وعدا كونهم كذلك هم شعراء ثوريون يساريون أو تقدميون، لأبين أن الأدب وأشكاله وأجناسه ليست حكرا على طرف دون طرف، وأن الحكم العدل في ذلك ليس الشكل، ولكن الأفكار المطروحة في هذا النص أو ذاك هي التي تحدد انتماء الشاعر أو أيديولوجيته.
وقد اتجهت في تتبع هذه الظاهرة عند الشعراء الآخرين (غير درويش) لدواوينهم المطبوعة أو أعمالهم الشعرية الكاملة، ولو أردت تتبع هذه الظاهرة في أشعار كل الشعراء المعاصرين لحصلت شعرا كثيرا وديوانا ضخما، ولكن كما يقولون: “ما لا يدرك كله لا يترك جله”.
وقبل أن أجدف في بحر متلاطم الأمواج عميق الغور خطير المسالك، وجدت من الضروري تحديد مقصود بعض المصطلحات التي تحكم هذه الدراسة وتسير عليها، وخاصة مصطلحي: القصيدة العمودية/القصيدة التقليدية، والأوزان الخليلية.
أرى أن هناك خلطا في استخدام مصطلح القصيدة العمودية، والحاصل في ذلك هو اعتبار كل قصيدة تنهج نهج النمط التقليدي الشكلي (ذو الشطرين) هي قصيدة عمودية، والحقيقة غير ذلك، إن المقصود بهذا المصطلح هو تلك القصيدة التي التزمت عمود الشعر العربي بقواعده السبعة التي قررها المرزوقي شارح ديوان الحماسة لأبي تمام [1] ، ونص عليها في مقدمة هذا الشرح، ولم يشترط المرزوقي في حينه الشكل التقليدي (ذو الشطرين) كأحد مقومات القصيدة القديمة، لأن الشعر العربي وقتها لم يكن يعرف من الشعر أشكالا أخرى، فكان للقصيدة شكل ظاهري واحد؛ قصيدة مكونة من مجموعة أبيات، وكل بيت يتكون من شطرين متساويين، والشطر الثاني ينتهي بقافية واحدة تنتظم كل أبيات القصيدة وتضبط إيقاعها الموسيقي الخارجي، مع أن المرزوقي قد حدد مقومات أخرى غير الشكل على القصيدة لاعتبارها عمودية، وبناء على مقومات المرزوقي أخرج النقاد -على سبيل المثال- الشاعر العباسي أبا نواس من نطاق الشعر العمودي، لأنه لم يلتزم بتلك المحددات.
ويدخل تحت هذا المصطلح مصطلح القصيدة القديمة كمصطلح مرادف للقصيدة العمودية، كذلك فإن في الأمر تخليطا ليس ببسيط، أو هين، فهل كل قصيدة كتبت بنمط قصيدة الشطرين قصيدة قديمة تقليدية، إذن فكل من كتب مقالا هو مقلد لأول من كتب مقالا، ومن كتب رواية فهو مقلد لأول راو كتب في هذا الفن، والأمر ينسحب على كتاب الشعر الحر أو شعراء القصيدة بالنثر، لذا يبدو من وجهة نظري أن مصطلح (قصيدة قديمة أو تقليدية) مصطلح عقيم وخادع ليس له وجود أو معنى أو ظروف طبيعية ليعيش ضمنها، وعليه فإنني قد اخترت استخدام مصطلح (قصيدة الشطرين) مع المراوحة أحيانا مع مصطلح (الأوزان الخليليلة)، على اعتبار أن هذين المصطلحين بسيطان، ولهما ارتباط خارجي شكلي، وليس له أي مضمون فكري أو أيديولوجي.
(1) حضور قصيدة الشطرين في أشعار شعراء الحداثة العرب
إن من يتتبع مسيرة الأدب العربي يرى أن الأشكال الشعرية والنثرية تطورت وتوالد بعضها من بعض دون إحداث ضجات فكرية مغمسة بدعوات التجهيل أو التكفير، بل سار الأمر سيرا طبيعيا، معبرا عن حاجة في النفس، تتوسل بأدوات متعددة لإشباع تلك الحاجات، وليس الأمر محكوما بفكر مسبق متبنى يدّعي أصحابه سلفا أنه هو الصواب والتطور وما عداه هو الخطأ والتخلف، ومن هنا جاء التطور في أشكال الشعر العربي قبل ثورة الشعر الحر، ولعل أكبر تطور حدث في بنية القصيدة بشكلها المعهود هو الموشحات، ولكن هذا التطور لم يستفد منه الفائدة المرجوة فمات، ولم يعمر، وقد يكون موته أمرا طبيعيا، لأنه لم يعد يلبي حاجة في نفس قائله، ولم يشعر أحد من الشعراء أنه بحاجة لأن يقول موشحا.
وهذا الأمر ينطبق على مسيرة الشعر الحديثة، فوجود الشعر الحر هو نابع عن حاجة في نقس القائل، وليس مرتبطا بفكرة ما، وللتدليل على ظاهرة حضور هذه الأشكال الشعرية (الشعر الحر، والشعر ذو الشطرين) متجاورة ومتجانسة في شعر الشاعر، تعمدت اختيار شاعرين عربيين هما: الشاعر أمل دنقل والشاعر مظفر النواب، ومن شعراء فلسطين توقفت الدراسة عند نماذج من شعر فدوى طوقان، والشاعر محمد القيسي والشاعر مريد البرغوثي، ويعود السبب في هذا الاختيار لأن هؤلاء الشعراء ثوريون، وهم ينتمون إلى مرحلة ما بعد الريادة الشعرية، ووجدوا في وقت كان الشعر العربي قد استقر بكل أشكاله التعبيرية.
ويغلب على ظني أن هؤلاء الشعراء عندما كتبوا أشعارهم لم يكونوا يعيشون وَهْمَ حساسية القديم والحديث وذلك الصراع المفتعل بين أتباع كل منهما، وقد وظفوا الشكلين الشعريين إبداعيا وذاتيا كما تمليه عليهم لحظة الإبداع الشعري، دون فكر مسبق أن هذا الشاعر أو ذاك يعادي نمطا شعريا أو يوالي شكلا مغايرا، لأنه ببساطة مطلقة لا يوجد تضارب أو عداء ما بين أشكال الأدب وأجناسه، وما هذه المعارك التي سمعنا جعجعة أصحابها أو قرأنا وقائعها ما هي إلا غبار قصور في الفهم عند الطرفين، وقد استعنت بشعر هؤلاء الشعراء لأدلل على وجود هذه الظاهرة فقط، وليس لأقوم بمسح شامل في أشعارهم، كما فعلتُ مع أشعار محمود درويش، إذ تحدثت بالتفصيل وتتبعت الظاهرة بكل أشكالها في شعره.
إن من يطالع شعر الشاعر المصري أمل دنقل، تفاجأه قصيدة “رسالة من الشمال“ المكونة من ثمانية وثلاثين بيتا، ينتظمها البحر المتقارب، وتسير القصيدة كلها على إيقاع موسيقي واحد، يدل على أن القصيدة كتبت كقصيدة تلتزم الشطرين. وأختار من أبيات هذه القصيدة قول الشاعر:
بعمر – من الشوك – مخشوشنِ
بعرق من الصيف لم يسكنِ
بتجويف حبّ، به كاهن
له زمن .. صامت الأرغن:
أعيش هنا لا هنا، إنّني
جهلت بكينونتي مسكني
غدي: عالم ضلّ عنّي الطريق
مسالكه للسدى تنحني
علاماته .. كانثيال الوضوء
على دنس منتن… منتنِ [2]
وتظل القصيدة تدرج بهذا النفس الخليلي السلس حتى تنتهي، فلن تحس بتخلع موسيقي أو كسر لإيقاع الرتابة الوزنية، بالإضافة إلى أن القصدية متوفرة في هذه القصيدة، فالشاعر كتبها وهو يعلم أنه يكتب قصيدة بنمط الشطرين، وهذا واضح من البيت الأول الذي جاء مصرعا [3] ، ولم يحفل الشاعر بترتيب الأبيات ترتيبا كما هو معهود في قصيدة الشطرين، بل تجد أبياتها منثورة على الصفحات ليوهمنا أنها من الشعر الحر، إلا أن الأمر لن يخيل على القارئ المتفحص، عدا أن الشكل الفني للقصيدة لن يخرجها من حداثيتها وثورية أفكارها، فليس الشكل بعائق أمام حمل رسالة الشاعر أيا كانت هذه الرسالة.
أما الشاعر العراقي مظفر النواب، ذلك الشاعر المبعد عن وطنه، كونه شاعرا ثوريا، يتبنى أفكارا تسمى بعُرْف أصحابها بأنها تقدمية، فإنه لم يتخلَّ عن هذا النمط من الشعر، ذي الحساسية الوزنية الرهيفة، وذي الطاقات الإيقاعية الغنية، وأي شاعر يستطيع التخلي عن هذا الكنز الموسيقي الثرّ؟ غير الشاعر السقيم الغبي الفرح بغبائه يفلسف ما ترسب من أوهام في قعر كأس مثلومة الحوافّ.
وتجلى هذا الشعر في ديوان مظفر النواب بقصيدة عنوانها “باللون الرمادي“، تمتد قامتها لتصل تسعة عشر بيتا، تنضح بالمعاني الثورية التي طالما تغنى الشاعر بها، وهذه القصيدة الجميلة التي خصصها الشاعر لدمشق وحنينه لهذه المدينة العريقة، لتقوم دليلا على حسن اختيار الشاعر لأوزانه ورصف بناء أشعاره، بحلة شعرية متماسكة القوام تتوسل بالبحر البسيط لتكتمل موسيقاها وإيقاعاتها الرتيبة، مستفيدا النواب -كما دنقل- من ميزات قصيدة الشطرين، وأعني هنا التصريع في البيت الأول، يقول النواب في بعض أبيات القصيدة:
دمشق عدت بلا حزني ولا فرحي
يقودني شبح مضنى إلى شبح
ضيعت منك طريقا كنت أعرفه
سكران مغمضة عيني من الطفح
أصابح الليل مصلوبا على جسد
لم أدر أي خفايا حسنه قدحي
دفعت روحي على روحي فباعدني
نهدان عن جنة في موسم لقحِ [4]
وتجد هذا الشكل حاضرا وبقوة في أشعار الشعراء الفلسطينيين، ولم يكد شاعر من هؤلاء يتجاوزه أو يستغني عنه، كونه عاملا شعريا مهما، وذا دلالة في الشعر الحديث، عدا إمكانياته الهائلة التي لا بد من توظيفها لتحمل معاني الشاعر وعواطفه.
فقد اعتنت الشاعرة فدوى طوقان بهذا الشكل الفني للشعر العربي أيما عناية، وقد شكل هذا الشعر علامة بارزة في أشعارها، وسأختار لذلك قصيدة من ديوانها الأخير “اللحن الأخير“، وجاءت القصيدة بعنوان “صورة ذاتية“، وتهديها الشاعرة إلى الكاتبة الفلسطينية ليانة بدر، تقول الشاعرة فدوى طوقان:
وراءك شوط طويل المدى
سفحت عليه سنين العمرْ
وكم فلسفتك حياة تمرْ
على جانبيها بحلو ومرْ
زوت عنك وجه بشاشتها
وأولتك وجها لها مكفهرْ
خبرتِ تناقض حالاتها
ولم تدركي كنهها المستترْ
وقد حان أن تستريحي وتلقي
عن المنكبين غبار السفرْ
فحسبك أنك لم تهزمي
ولا حطمتك سهام القدرْ [5]
ولم يتخل الشاعر محمد القيسي عن قصيدة الشطرين، بل كان هذا الشكل حاضرا بشكل لافت في مجموعته الشعرية، بقصائد مستوية على سوقها، تعجب القراء لتغيظ بها أدعياء الحداثة الشعرية، فإذا ما طالعت تلك المجموعة فإنك ستقرأ له قصائد خليلية الأوزان لها اعتبارها الفني الأصيل، ومن تلك القصائد أذكر القارئ الكريم بعناوين من تلك القصائد “امرؤ القيس، الأباريق، رومية) [6] .
ويراوح الشاعر محمد القيسي بين النمطين في القصيدة الواحدة؛ ففي قصيدته “الوقوف في جرش” [7] ، يفتتح القصيدة بمقطع شعري مكون من اثني عشر بيتا يلتزم فيه الشكل الخليلي للقصيدة العربية، وبعد أن يمضي في عباب قصيدته شاعرا حرا، تراه مرة أخرى يعود إلى قصيدة الشطرين، وهكذا مزاوجا بين الشكلين بتناسق تام وجمالية رفيعة المستوى، وقد بلغت تلك المقطوعات الخليلية خمسة مقاطع، منوعا الشاعر في أوزانها وإيقاعاتها، مما منح القصيدة تنوعا موسيقيا يعبر عن ذلك الوقوف في جرش حيث المأساة الفلسطينية في سبعينيات القرن الماضي بأيلولها الأسود، ومن هذه المقطوعات أختار هذه المقطوعة التي تفيض حزنا وشجنا طافحين:
دفنا أجمل الفتيان فيكِ
وقلنا يا صبية هل نفيكِ؟
فمن أسقاك هذا الكأس مرا
سقاني من لظاه بختم فيكِ
وقفت على طلولك في جلال
أريك من الهوى ما لا أريكِ
لئن طوفتُ في البلدان عهدا
فقد كانت يداك هما شريكي [8]
وبالتقنية نفسها نجد الشاعر مريد البرغوثي في قصيدته “طال الشتات” [9] يزاوج بين النمطين بانسجام تام دون حدوث نفور موسيقي أو بنائي في جسد القصيدة، ويفتتح البرغوثي كذلك قصيدته المطولة بمقطع شعري مكون من سبعة أبيات، يقول البرغوثي فيه:
طال الشتاتُ وعافت خطوَنا المدنُ
وأنت تمعن بعداً أيها الوطنُ
كأن حبك ركض نحو تهلكةٍ
ونحْن نركض لا نبطي ولا نَهِنُ
يقول من لم يجرّب ما نكابدهُ
كأنّ أجملَهم بالموتِ قد فُتِنوا
ولو حكى الموت بالفصحى لصاح بنا
كفى ازدحاما على كفيّ واتّزنوا
يهوي الشهيد وفي عينيه حيرتُنا
هل مات بالنار أم أوهى به الشّجنُ
لك اتجهنا وموج الحلم يجمعنا
فبعثرتنا على أمواجها السفنُ
ارجع فديتك إن قبرا وإن سكنا
فدونَك الأرض لا قبر ولا سكنُ [10]
ويكرر الشاعر هذه التقنية في ثنايا القصيدة حتى بلغت المقطوعات الشعرية من نمط شعر الشطرين في القصيدة كلها ست مقطوعات شعرية بواقع أربعة وثلاثين بيتا، محدثة إيقاعا رتيبا، وتجربة إبداعية تنظر إلى الطاقات الكامنة في الشعر فتوظفها مستفيدة منها، بعيدا عن القوالب النقدية الجاهزة، والتي ليس لها أساس من الصحة.
(2) الأوزان الخليلية في شعر محمود درويش
بدا واضحا في القسم الأول من الدراسة أن الشعراء العرب الحداثيين والتقدميين لم يتخلوا عن قصيدة الشطرين، وأفادوا من إمكانياتها الغنية في الإيقاع والموسيقى والتعبير عن الفكرة، وقد تم رصد نوعين من هذه الإفادة عند هؤلاء الشعراء؛ الأولى مجيء القصيدة كاملة على الوزن الخليلي للبحر الشعري الذي صيغت القصيدة عليه، والثاني مزاوجة الشاعر بين الوزن الخليلي وشعر التفعيلة في القصيدة الواحدة.
وعند الاطلاع على شعر محمود درويش الذي يمتد ردحا طويلا من الشعر وحقبة غنية من الدواوين، منوعا في الأسلوب والاتجاه والسمات والموضوعات، سيجد الدارس أن هذا النمط من بناء القصيدة لم يفارق درويشا في كل مراحل مسيرته الإبداعية، مما يؤكد المقولة التي بدأت فيها هذه الدراسة من أن الشاعر الذكي هو الذي يحسن توظيف كل الإمكانيات المتاحة له، وأن لا يحجر على نفسه بدعوى باطلة من مثل أن الشكل جزء من المضمون، وقد ثبت أن المضمون حتى يستقر يأخذ أشكالا متعددة، فليس هناك محتوى ما يناسبه شكل أدبي خاص.
ويبدو أن الشاعر محمود درويش واع لمثل هذه المسألة وعيا تاما، فالشاعر ليس ارتجاليا في كتابته الشعر، بل إن درويشا يصرح أن “كل تخطيط لقصيدة هو عمل واع، وإذا ظهرت ملامحه تتحول القصيدة إلى مجموعة مقولات وتتحول أيضا إلى فلسفة” [11] ، ولذا عندما تفجؤك قصيدة من شعر الشطرين فاعلم أن الشاعر يريدها أن تكون كذلك، وأن لحظة ما يسميه درويش “الحدس” هو الذي فرض عليها الشكل، فالشاعر يرى أنه “يبدأ من اللحظة الموسيقية” [12] ، ويتابع عمله في هذه القصيدة مصرّا على أن يبني قصيدته “بناء هندسيا، وهذا ينطبق على القصائد الطويلة والقصيرة في آن واحد” [13] .
ويستطيع المرء أن يكون أجرأ من ذلك ليقرر أن درويشا كان يقصد كتابة قصيدة من شعر الشطرين عن سابق إصرار، وهذا ما يلمسه المرء من خلال قوله: “على الشاعر أن يعرف كيف يتمرد على الرتابة الموسيقية، وأحيانا يكون هناك إيقاع عال لا يحمل إلا برتابة ما” [14] ، فالشاعر يرى في هذا المقتبس أن هناك لحظات من التوتر الشعري تحتاج إلى إيقاع عال، وإذا ما قورن هذا القول بالشعر الذي جاء به درويش فحتما سترى صدق المقولة التي أوردتها في مستهل هذه الدراسة.
وبناء على ذلك، ومن خلال استعراض ما كتب الشاعر محمود درويش من قصائد ضمتها مجموعاته الشعرية، وجدت أن درويشا قد وظف هذا الشكل، وجاء توظيفه له في ثلاثة أشكال: قصائد تبدأ خليلية، ثم يكسر فيها الإيقاع الخليلي، وقصائد مزج فيها الشاعر الشكلين معا: الشكل الخليلي للقصيدة مع شعر التفعيلة فيما يعرف عند الشاعر بظاهرة الفواصل الإيقاعية، وقصائد كاملة مسبوكة على نمط الوزن الخليلي من أولها إلى آخرها، وفيما يأتي تفصيلٌ وبيان لذلك.
أولا: كسر الرتابة الموسيقية
يبدأ الشاعر محمود درويش ديوانه أوراق الزيتون بقصيدة “إلى القارئ” [15] ، وهي قصيدة أقرب إلى شعر الشطرين من الشعر الحر، وذلك من ناحيتين: النغمة الموسيقية والخطابية المصرح بها، إذ يخاطب الشاعر قارئه بحديث مباشر مقررا أنه لن يكون هامسا، وبعد إعادة ترتيب كلمات القصيدة وتوزيعها على الشكل المعهود لقصيدة الشطرين، تصبح القصيدة بالشكل الآتي:
الزنبقات السود في
قلبي وفي شفتي … اللهبْ
من أي غاب جئتني
يا كل صلبان الغضب؟
بايعت أحزاني .. وصا
فحت التشرد و السغب
بعد هذه الأبيات الثلاثة يكسر الشاعر هذا الإيقاع الرتيب بزيادة تفعيلة في البيت الرابع، وقد شكلت هذه التفعيلة جملة اسمية متكررة في أسلوب صياغتها مع ما سبقها، وهذا يشير فعلا إلى أن الشاعر قد تعمد كسر الإيقاع، لاسيما أن حذف هذه الجملة وزنا ومعنى لا يضير القصيدة في كبير ضرر:
غضب يدي/ غضب فمي .. و دماء أو
ردتي عصير من غضب!
فالجملة المُشار إليها بوضع الخط تحتها أو تلك التي سبقتها هي تفعيلة كاملة من وزن البحر الكامل (مُتَفاعلُنْ)، جاءت تفعيلة إضافية على وزن الكامل في حالة كونه مجزوءا، أي مكونا من أربع تفعيلات من أصل ست، فبعد حذف هذه الجملة أو تلك (غضب يدي/ غضب فمي) ينتظم الإيقاع مع الأبيات السابقة:
غضب يدي و دماء أو
ردتي عصير من غضب!
وأنا إذ أختار هذا الترتيب أو هذا التحليل فإن النص يسعفني كثيرا، فبعد هذا البيت الذي يكسر الرتابة فيه، يعود الشاعر في البيت الخامس إلى نظام أبياته الأولى:
يا قارئي! لا ترج مِنْ
ني الهمس! لا ترج الطرب
وأما البيت السادس فلا يعدو كونه ركضا وراء الإيقاع للوصول إلى القافية، ولهذا فقد زادت تفعيلة على الرتابة الموسيقية، ولكن مع ذلك سيظل النمط الشعري ذو الشطرين مسيطرا على القصيدة، حتى إذا وصل إلى آخر الأبيات عاد إلى الإيقاع الأول ليختم رسالته “إلى القارئ”
حسبي بأني غاضب
والنار أولها غضب!
ويتضح هذا الكسر الإيقاعي في قصيدة بعنوان “مرثية” [16] ، فقد بدأ الشاعر قصيدته ببيتين من مجزوء الكامل:
لملمت جرحك يا أبي
برموش أشعاري
فبكت عيون الناس من
حزني … ومن ناري
وعلى الرغم من أن الشاعر يكسر الرتابة في القصيدة كلها بعد ذلك إلا أن صياغتها والنغم الموسيقي فيها يشعرك بأنها إلى شعر الشطرين أقرب من الشعر الحر.
ومن أشكال كسر الإيقاع الموسيقي في القصيدة الدرويشية ما جاءت عليه قصيدة “عن الصمود” [17] ، وهي قصيدة من مقطعين، يتكون كل مقطع من ستة أبيات، وكل مقطع يتخذ قافية مختلفة عن الأخرى، وعدا ذلك فإن الشاعر قد خرج من الرتابة الموسيقية في آخر سطر من المقطع الثاني ليكون هذا السطر ثلاث تفاعيل بدلا من أربع، والتي تحكم المقطعين بكل أبياتها:
لو يذكر الزيتون غا
رسه لصار الزيت دمعا!
يا حكمة الأجداد لو
من لحمنا نعطيك درعا!
لكنّ سهل الريح، لا
يعطي عبيد الريح زرعا!
إنّا سنقلع بالرمو
ش الشوك والأحزان … قلعا!
وإلام نحمل عارنا
وصليبنا! والكون يسعى …
سنظل في الزيتون خض
رته، و حول الأرض درعا!
-2-
إنّا نحبّ الورد، لا
كنّا نحبّ القمح أكثر
و نحبّ عطر الورد، لا
كنّ السنابل منه أطهر
فاحموا سنابلكم من الـ
إعصار بالصدر المسمّر
هاتوا السياج من الصدو
ر .. من الصدور؛ فكيف يكسر؟؟
اقبض على عنق السنا
بل مثلما عانقت خنجر!
الأرض، والفلاح، والـ
إصرار، قل لي: كيف تقهر؟
هذي الأقانيم الثلاثة، كيف تقهر ؟
ويتجه كسر الإيقاع عند درويش صورة أخرى فيما يتصل بترتيب القصيدة وعلاقة ذلك بالقافية؛ ففي قصيدة “لا تنامي حبيبتي” [18] يوزع الشاعر قصيدته على أربعة مقاطع كلها ذات أسطر شعرية متساوية في عدد تفاعيلها؛ إذ كل سطر يتكون من تفعيلتي بحر الخفيف (فاعلاتن/ متفعلن)، إذ يطال كسر الإيقاع هنا القافية وحدها، إذ غير الشاعر في القوافي ووزعها بشكل مختلف في القصيدة بنظام معين داخل المقطع الواحد، وأما المقطع الثالث فقد جاء على إيقاع الخليل الشعري، سواء في ذلك عدد التفاعيل والاتفاق في القافية، جاعلا المقطع الرابع ضابطا للإيقاع الذي انتظم المقطع الأول والثاني، وبذلك يكون الإيقاع الموسيقي منتظما بعدد التفاعيل ومكسورا بالقافية:
عندما يسقط القمر
كالمرايا المحطمهْ
يكبر الظل بيننا
والأساطير تحتضرْ
لا تنامي .. حبيبتي
جرحنا صار أوسمه
صار وردا على قمر…!
—
خلف شباكنا نهارْ
وذراع من الرضا
وعندما لفني وطارْ
خلت أني فراشةٌ
في قناديل جلنارْ
وشفاه من الندى
حاورتني بلا حوارْ
لا تنامي حبيبتي
خلف شباكنا نهارْ
—
سقط الورد من يدي
لا عبير ولا خدر
لا تنامي حبيبتي
العصافير تنتحرْ
ورموشي سنابل
تشرب الليل والقدرْ
صوتك الحلو قبلةٌ
وجناح على وترْ
غصن زيتونة بكى
في المنافي على حجرْ
باحثا عن أصوله
وعن الشمس والمطرْ
لا تنامي حبيبتي
العصافير تنتحرْ
عندما يسقط القمر
كالمرايا المحطمهْ
يشرب الظل عارنا
ونداري فرارنا
عندما يسقط القمرْ
يصبح الحب ملحمهْ
لا تنامي حبيبتي
جرحنا صار أوسمه
ويدانا على الدجى
عندليب على وترْ
وليس بعيدا عن ذلك ما أصاب قصيدة “موسيقى عربية” [19] من كسر متعمد للإيقاع، فعلى الرغم من أن القصيدة مسبوكة على البحر البسيط إلا أن الشاعر قد نجح في بعثرة الإيقاع الموسيقي لهذا البحر الممتزج التفاعيل، ويطوعه لبناء خاص من الشعر مازجا ما بين الشكلين بجمالية عالية، بحيث خرجت قصيدة ذات إيقاع لا ينتمي إلا إلى بنيتها هي:
“ليت الفتى حجرٌ” يا ليتني حجرُ
شطر من البسيط
—
أكلما شردت عينانِ شردني
هذا السحاب سحابا كلما خمشت
أشطر متساوية من البسيط
عصفورة أفقا فتشت عن وثنِ
—
أكلما لمعت جيتارةٌ خضعت
روحي لمصرعها في رغوة السفنِ
أكلما وجدت أنثى أنوثتها
أضاءني البرق من خصري وأحرقني
بيتان من البسيط كاملان
“أكلما ذبلت خبيزة وبكى
شطر من البسيط
طير على فنن أصابني مرض
شطر من البسيط
أو صحت يا وطني
تفعيلتان من الشطر
ويلاحظ هنا في المقطع الأخير كسر آخر للرتابة الموسيقية والقافية معا، لأن الشاعر يبحث عن ناحية فنية أخرى للقصيدة وهي التدوير، فقد انتهت القصيدة بالمقطع والآلية التي بدأت فيها، وهكذا تكتمل الدائرة في قصيدة ذات موسيقى عذبة وسلاسة إيقاعية مقصودة.
أكلما نور اللوز اشتعلت به
وكلما احترقا
كنت الدخان ومنديلا
ومزقني
ريح الشمال ويمحو وجهي المطرُ
“ليت الفتى حجرٌ” يا ليتني حجرُ
شطر من البسيط
*نابلس ـ فلسطين.متعاون مع الموقع (بالتعاون مع “عود الند”
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق