موجات الهجرة العربية إلى شمال إفريقيا
في سنة 441 هـ الموافق 1049م تدفقت أمواجا عاتية من القبائل البدوي العربية نحو إفريقية من قلب الجزيرة العربية فعبروا نهر النيل الذي يعتبر نهاية العتبة للمدخل الرئيسي لبلاد المغرب شاهرين سيوفهم و رماحهم و ممتطين صهوات خيولهم و إبلهم شعارهم الخشونة و العنف فدخلوا مدن برقة و واحتها زويلة و اوجلَة وأجْرَابية و ودَّان و لَبْدَة و سرت و غير ذلك من مراكز ليبيا. و يقول صاحب العبر فعاثوا في البلاد و أظهروا الفساد و تنادوا بشعار الخليفة المستنصر الفاطمي. و نلاحظ أن بني هلال في زحفهم هذا لم يتقيدوا بأية خطة مرسومة مسبقا من خطط الغزو المنظم الذي يكون مدعما بفتح الجبهات و ضرب الحصارات و إنما هو التقدم المتواصل للجماعات و القبائل و العشائر. و الزحف المتراجع الذي يتبع بعضه بعضا كلما تقدمت أسراب تلتها أخرى جماعة تدفع جماعة و موجة تكتسح أخرى يشنون الغارات الخاطفة و يغيرون على البلدان الواقعة في طريق زحفهم يفضلون الخطوط السهلة فوق الأراضي المفتوحة و السهول المنبسطة معرضين عن المرتفعات و الجبال الشاهقة مثل الجبل الأخضر و كتلة الأوراس و الكتل الأطلسية فلم يسيروا في زحفهم هذا على الطريقة العسكرية التي تستعمل قوتها و مكيدتها و استراتيجيتها الخصوصية للوصول إلى هدفها.
و يمكن تقسيم أصحاب هذا الزحف الغريب و الفريد في نوعه إلى أربعة أفواج متلاحقة تتسم كلها بالبداوة و الخشونة مع العدو و الصديق. و بالفرقة و النفور فيما بين قبائلها و عشائرها و بعدم الخضوع و الانقياد لرؤسائها. و هاته الأفواج الأربعة التي جمعها الرواة و أرجعوها إلى أصل واحد يسمى عرب الحجاز أو العرب العدنانية . هي بطون بني هلال بن عامر صعصعة بن معاوية التي تتفرع إلى فروع ثلاثة كبرى أثبج و رياح و زغبة تضاف إليها فرق أخرى دخلت في زمرتها لسبب أو لآخر. و بطون جشم بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور و كان التقدم في هاته البطون للأثبج الذين يشكلون أحياء غزيرة من الهلاليين الداخلين الى الشمال الافريقي و بطون بني معقل الذين سنتعرف عليهم بعد الانتهاء من الحديث عن العدنانيين. و بطون بني سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان الذين استوطنوا أولا بليبيا و أخيرا بتونس
* الفوج الأول: الهلاليون
هو فوج جماعة بني هلال و فيهم بطون كثيرة مثل رياح و زغبة و أثبج و قرة و عدي و ربيعة و يضاف اليهم فصائل أخرى كثيرة قد التحمت بهم و اندرجت تحت اسمهم و ذاك مثل غطفان و جشم و سلول و غير ذلك. و قد كانت الرئاسة عند دخولهم لإفريقية في الاثبج الذي سنتعرف عليهم في الفوج الثاني و قد كان فوج الهلاليين أكثر الأفواج عددا و أعزها سلطانا و اشدها نكاية و أيسرها ذكرا. ورقد كان في جماعة البدو كلها بمنزلة القطب من الرّحى، فهو الذي اضطلع بمحاربة الزيريين و الحماديين، و ألجأ ملوكهم الى الفرار بأنفسهم من العواصم الداخلية إلى المدن الساحلية، و هو الذي خاض المعارك الحاسمة و انتصر فيها ممهدا الطريق لانتشار العرب البدو في دواخل إفريقية..
و في سنة 1051/443 ظهرت في الجنوب التونسي الفرق الأولى لهذا الفوج مصحوبة بعيالها و خيامها و إبلها و ماشيتها، فاستعد المعز بن باديس الصنهاجي ملك البلاد لمقاومة هجومهم . و أمده أبناء عمه أمراء بني حماد أصحاب القلعة بألف فارس . و المنتصر بن خزرون المغراوي أمير زناتة الذي كان منتجعا بصحراء تونس بمثلها و حشد المعز من قبائل البربر و عرب الفتح الأول و الخدم جموعا كثيرة حتى اجتمع له من هاته العناصر كلها ما يناهز ثلاثين ألف مقاتل و لكي يعطي لهذا الحشد العظيم معنى يليق به تولى القيادة بنفسه فخرج لمصادفة العرب بنفسه و قد كان اللقاء بين الفريقين بمحل قرب جبل حيدران الواقع بالجنوب الشرقي التونسي على الجادة الكبرى التي تصل القيروان بمدينة قابس و يعرف الآن باسم ودران. و انتهت المعارك بسحق قوة المعز . و انهزم سلطان القيروان مع كثرة عساكره و قلة من جاءه من الأعراب كما يقول ابن ناجي التنوخي في تعليقه على معالم الايمان للدباغ الأنصاري و قتل الكثير من هاته الجيوش ومن سلم منهم من القتل لم يسلم من النهب. فتراجع المعز إلى القيروان و منها فر إلى تحت حماية أصهاره من العرب إلى المهدية ليستغل أبناء عمومته الحماديين حكام الجناح الغربي لإفريقية و مركزهم قسنطينة و قلعة بني حماد و خاصة الناصر بن علناس الوضع لتوسيع نفوذه في إفريقية. و في سنة 457 هـ اصطدمت حشود الناصر بن علناس بقبائل البدو في فحص سبيبة غرب القيروان و انتهت المعركة بأشنع مما وقع في حيدران حيث قتل في ميدان المعركة شقيقه القاسم بن علناس و ما يناهز أربعة عشر ألفا من جيوشه و تخطفت قبائل البدو الخزائن و المضارب و لم يسعه إلا الفرار في ثلة قليلة من أصحابه ليلتحق بجبل قبيلة صنهاجية تسمى بجاية فأسس بها عاصمته الثانية. و بعد هاته المصائب تدفقت القبائل الهلالية على المملكة و زحفوا في عمق البلاد فيما الأطلسين و نحو النجود الوهرانية.
* الفوج الثاني : الأثبج
اعتبر المؤرخون قبائل الأثبج كفرقة قوية من بني هلال إلا أنها شعبة منفصلة و مستقلة بنفسها، و قد كانت هاته الشعبة تتوفر على بطون كثيرة و قبائل عديدة من ضمنها قبائل الضحاك و مقدَّم و عاصم و مُشرق و لطيف و دريد و كرفة و غير هؤلاء و توحي مواقعهم الجغرافية الأولى بالشمال بأنهم قد وصلوا الى إفريقية بعد الفوج الأول مباشرة ثم اقتسموا معهم السهول قسمة بدائية لا تستند الى معالم صحيحة و لا الى حدود ثابتة و إنما كان ذلك حسب الأسبقية في الغزو و الصدف المتاحة.
و قد حرك هذا العمل العداء التقليدي الذي كان مستحكما بين الشعبتين رغم مرافقتهم في الهجرة من صحراء العرب الى بلاد الشام فمصر و بالتالي شمال إفريقية. و بما أن رياحا كانت زعيمة الفوج الأول فما ذلك إلا لأنها أكثر عددا من الأثبح و أعز نفرا منهم و هذا ما يفسر لنا اتجاه الرياحيين نحو الشمال الذي هو أكثر خصوبة في الأراضي التونسية أولا، و مقاطعة قسنطينة ثانيا. و بذلك لم يبق أمام الأثبج إلا الأراضي الجنوبية فكانت مجالاتها الأولى أمام الجنوب الشرقي لكتلة الأوراس و بعد ذلك اتجه تيارهم نحو الشمال مستهدفين الأراضي الواقعة تحت نفوذ بني حماد غرب تونس فعرضوا صداقتهم و حلفهم على أمراء القلعة و ظاهروهم على الرياحيين، و بما أن الحماديين أصحاب القلعة كانوا يلعبون على الحبلين فقد وجدوا أنفسهم في أمس الحاجة الى هذا الحلف و قبلوه ظنا منهم أن ذلك سينفعهم في صد عادية « رياح » و في الصمود أمام تيارها الزاحف من تونس أو سيُعينُهم على توسيع نفوذهم في الأراضي التي انتزعتها رياح من أبناء عمومتهم الزيريين أصحاب تونس. و لمّا خاب ظنهم و ضعفت قوتهم و قوة حلفائهم أمام «رياح » الزاحفة من تونس تركوا قلعتهم و التجأوا الى جبل بجاية كما بينا سابقا، و حينما استولت « رياح » على مواقع الأثبج بنواحي قسنطينة و المسيلة، اتجه هؤلاء تحت تأثير الضغط نحو الغرب الجنوبي، عبر بلاد النجود الوسطى المعروفة قديما ببلاد الزاب مستهدفين النجود الوهرانية.
* الفوج الثالث : المعقليون أو الخلط
وصلت موجتهم إلى الشمال الأفريقي إثر الأثبج مباشرة و كانوا أقل عددا، و أضعف قوة من الموجتين السابقتين. يقال إنهم لم يبلغوا في تعدادهم المئتين فقط، و إنما كثروا بكثرة من اندمج فيهم من غير نسبهم فإن فيهم من فزارة، و الشجع و غطفان، و من الأثبج و زغبة. وفيهم من العرب الصباح بن الأخضر بن عامر ابن مرداس من رياح، أضف الى ذلك العناصر البربرية كهوارة و غيرها و لكن هاته العناصر كلها قد « تَمَعْقَلَتْ » بفعل الزمان، و لدى دخولهم الى الشمال الافريقي اعترضت مسيرتهم قبائل بني سليم بصحراء ليبيا فأعجزوها وإثر ذلك تحيزوا الى الهلاليين الذين سمحوا لهم بأن تكون المسيرة على هامش الزحف الكبير جنوبا، حتى انتهى بهم المطاف في آخر مواطن زغبة مما يلي نهر ملوية و نجود تافلالت فانتشروا في رمال المغرب الأقصي التي وجدوا فيها مناخا صالحا للنمو الديمغرافي الذي لم يعرف لغيرهم من الأفواج العربية. و قد علمتهم الظروف أن يتعاملوا مع بربر زنانة و غيرهم معاملة الضيف مع المضيف و هذه هي نقطة الافتراق بينهم وبين غيرهم من قبائل العربية الأخرى.
* الفوج الرابع : السليميون
بنو سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان بن مضر ابن نزار بن معد بن عدنان قبيلة عظيمة تشتمل على عدة عشائر و بطون يمكن حصر أصولها في أربعة و هم : زغب و دباب و هيب و عوف ويتفرع كل أصل منها الى عدة فروع. كانت منازلهم قبل الدخول الى شمال إفريقية بنجد و قد كانوا من المؤيدين الكبار للقرامطة أولا و للفاطميين أخيرا. و حينما طردوا من أرضهم من قبل ولاة العباسيين التحقوا بالصعيد و أجازهم اليازوري الى بلاد إفريقية ، رفقة بني هلال، لكنهم تخلفوا عنهم ببلاد برقة في بداية الأمر و استوطنوا ليبيا أزمنة طويلة، و لم يلتحقوا ببلاد إفريقية إلا في القرن السابع الهجري بعدما هاجرت قبائل هلال سهول القيروان وما يليها فاستوطنوا في تلك الأراضي و امتزجوا بالبربر. و قد التحقت منهم عدة أسر بالمغرب الأقصى ضمن الهلاليين، و المعقليين و لذلك نجد منهم ضمن هؤلاء عدة عناصر ترجع بعروقها الأولى الى بني سليم. و عند إمعان النظر يمكن أن نرى الأسرة ما تزال محتفظة بطابعها القديم ومتميزة ضمن اتحاد كبير كما يشاهد في عناصر الأعشاش، في اتحادية مزاب بين أحمد و عوف في بني مالك بالغرب. كما يمكن أن نجد الأسرة قد تضخمت بكثرة من اندمج فيها أو إنضاف اليها مثل ما وقع في قبيلة أولاد جامع، و بني مسكين والمحاميد الذين ما يزال جمهورهم فيما بين طرابلس و قابس.
* العلوى، التقى: « أصول المغاربة: القسم العربي الهيلاليون بالمغربين الأدنى والأقصى » . البحث العلمي ع 35 (1985): ص 385 - 434.
#حاتم_الضاوي بتصرف